مقدمة
“الحكومات الاستبدادية تحمل في ذاتها خميرة زوالها”
يتخبط العالم العربي في مستنقع من المفاهيم والسلوكيات التي لا يمكن أن تساعد على ولادة أي نوع معقول من الديمقراطية. من هذه المفاهيم : القوة تصنع الشرعية، الدين هو الحل، الدين أساس التشريع، حكم الفقيه، سلطة أهل الحل والعقد، طاعة ولي الأمر خشية الفتنة، العصبية الدينية والقبلية والشعوبية، الرئيس أو الملك أو الأمير الملهم، الأنظمة غير الشرعية التي تكتسب شرعيتها مع التقادم ، رئاسة الدولة حتى الموت، توريث الحكم، الشورى مكان الديمقراطية، رفض الحوار، رفض اختلاف الرأي، الرضوخ للواقع كقدر، الاتكال على الله لحل مشاكلنا…
يعيش هذا العالم تحت نير كثير من الديكتاتوريات السياسية أو الدينية أو الاثنتين معا. لا يعرف كيف الخروج من عالم الظلمات إلى عالم الحريات وعلى أي أساس يجب بناء الدولة الحديثة والمجتمع العادل واحترام حقوق المواطنين. وضعنا اليوم أسوء مما كنا عليه سابقا. اليوم نشاهد هجمة مخططة من الرجعية والأصولية الدينية لكسب الشارع العربي والوصول إلى الحكم لوضع حكومات هدفها ديكتاتورية دينية تمنع الناس من التفكير والتصرف الحر في حياتهم الخاصة والعامّة ووضعهم في قوالب مبرمجة لا سبيل للنقد فيها. الشارع العربي اليوم، تشده الأفكار الأصولية الدينية، هذه التيّارات الإسلامية ليس لها برنامج سياسي معقول وواضح يمكن أن يطوّر الدولة الحديثة ويوسع هامش حريّات المواطنين ولتتعامل بشكل مسالم مع العالم الحديث. هذه التيّارات الإسلامية تأخذنا إلى متاهة التاريخ، تقدم لنا الماضي كأنه ذروة الحضارة، فيه العلم والمعرفة والعدل… ويحمل بشكل سحري كل الحلول لعالمنا الجديد. لقد وضعوا ثوب القدسية على هذا الماضي من الناحية الدينية والثقافية وحتى السياسية وأقفلوا عقول الناس لكي لا تفكر وتجتهد لأن عصر الاجتهاد لا حاجة له. لقد قال وطبق الأسلاف كل ما يلزم. يكفي الأخذ به لنكون “خير أمّة”.
تتدخل الحكومات العربية غير الديمقراطية في كل مستويات حياة شعوبها: توجه السياسة والاقتصاد والتعليم والفنون. وتجعل من الدين أداة دعاية لها. لقد حجمت هذه الحكومات التعسفية إرادة الجماهير وجعلت منهم قطعانا يمكن تحريكها بسهولة أكبر. أبعدت الحكومات شعوبها عن المساهمة الفعّالة في السياسية منذ أجيال كثيرة. “فبركت ” أجيالا من المسيرين المطيعين لتقديس حكامها والرضوخ لهم دون أي مساءلة.
عدم ممارسة الديمقراطية أوجد فراغا هائلا في ثقافة المواطن العربي. هناك “أميّة سياسية” في عقل المواطن. تداول السلطة وتشكيل أحزاب سياسية مدنية يعتبر في مفهوم البلد خروج وتحدي لعبقرية الحاكم. حرية التعبير ونقد الحاكم، كل هذا غير متداول في ممالك العرب.
المجتمع العربي المعاصر هو جزء من العالم الحديث فمن الضروري لتقدمه أن يشاركه قيمه وتطلعاته وهمومه. فموضوع الحرية وحقوق الإنسان والديمقراطية هي تراث البشرية جمعاء. أي حديث عن “خصوصيات” عربية في هذه المجالات الحيوية تبدو حججا واهية، الهدف منه كما تظهر الوقائع، هو تبرير سلوك الحكام ضد المواطنين، بالسيطرة على مصيرهم وعدم إشراكهم فيما يخصهم من حقوق سياسية واجتماعية والإبقاء على مصالح هذه الطبقات الحاكمة وأعوانهم الذين ينهبون خيرات البلاد.
رد فعل الرجعية العربية في السياسة وفي الدين، الرافض لأي رجوع للديمقراطية بحجة أنها “مفهوم غربي”، هو موقف غير معقول، لأنه ينفي عن العرب إمكانية مشاركتهم بالتجربة الإنسانية ويفصلهم عنها وكأن للعرب يعيشون في عالم مغلق.
الديمقراطية المطبقة في كثير من الدول برهنت على أنها أفضل من غيرها من الأنظمة الموجودة من حيث احترام حقوق المواطن والتقدم الحضاري وإفساح المجال أمام المواطن لتحقيق ذاته وبناء بلده.
منذ 1970إلى 2008 ارتفع عدد البلاد الديمقراطية من 44 دولة إلى 89، حيث حقوق الإنسان مصونة وحيث توجد تعددية حزبية.
أما الدول غير الديمقراطية فتحولت من 69 الى 42
وتزايد عدد البلدان التي فيها شيء من الحرية من 42 إلى 62.
رغم هذا التقدم تبين أن 46% فقط من سكان العالم يعيشون في بلاد ديمقراطية، ومنذ 10 سنوات ظهر ركود إن لم يكن تقهقر في ميدان حريات الصحافة والمنظمات غير الحكومية والمؤسسات المدنية في أكثر من 30 دولة.
الهدف من هذه الفصول عن الديمقراطية هو إعطاء فكرة أولية وواضحة عن هذا المفهوم وعن أسسه وركائزه. فهي تجيب على تساؤلات المواطنين العرب الواعين بأوضاعهم الشاذة نسبة إلى مواطنين في أنظمة ديمقراطية وتظهر القيم الإنسانية التي يمكن للدول تأسيس الحكم عليها لتتجاوب مع متطلبات الشعوب العربية الحاضرة والمستقبلية. طرح المواضيع فيها سهل الفهم ومتماسك فهناك علاقة عضوية بين فصل وآخر؛ علاقة توضيح أو تتمة. هذه الفصول المختصرة موجهة إلى عامة المواطنين العرب, خاصة إلى الشبيبة التي لم تعش فيأجواء وثقافة وسياسة ديمقراطية سليمة. هذه الفصول المبسطة ليست حلولا جاهزة للعيش في الديمقراطية وفهم السياسية ومداخلاتها الكثيرة. ما يراد هنا هو محاولة ومساهمة في التحول المرجو إلى الديمقراطية في البلاد العربية.
ستبدأ الشعوب العربية تعلم الديمقراطية من بداياتها. فالطريق طويل ولكنه يستحق المجازفة لتخطي “ثقافة” الخوف والرضوخ الأعمى للسلطان من كبيرهم إلى صغيرهم، للدخول في عالم أكثر تحررا، في عالم حقوق المواطن لجعل الشعب مصدر السلطة.هذا التحول سيكون شاقا وصعبا يحتاج إلى عدة أجيال ليتكيف المواطنون مع الثقافة والسلوك الديمقراطي بعقلية منفتحة ونقدية. المسيرة طويلة في درب الديمقراطية سوف تحمل غالبا الكثير من النكسات بسبب المقاومة الشرسة التي سيأتيها من الحكام الحاليين وأصحاب المصالح الاقتصادية والمالية ومن رجال الدين المستفيدين من هذه الأوضاع. ونكسات ستأتي من العقليات والأجواء الموروثة ذات الجذور الموغلة في القدم. ونكسات أخرى يمكن أن تأتي من التسرع في تطبيق كل أبعاد الديمقراطية بشكل آلي دون تحضير منهجي وبعيد المدى وغير مصاحب مستوى التطور الثقافي السياسي للمواطنين .
الديمقراطية هي الطريق الوحيد للدخول في الحداثة ولنصبح أمة متحضرة، لشعوبها الحق في تحديد شرعية الحكم وتقرير مصيرها.
1
تعريف وخصائص ومميزات الديمقراطية
“…البداية تكون بتسلم الشعوب العربية زمام أمورها أي بتنمية الحياة الديمقراطية ”
سليم الحص 2009
تعريف عام
الديمقراطية نظام سياسي واجتماعي حيث الشعب هو مصدر السيادة والسلطة، فهو يحكم نفسه عن طريق ممثلين عنه.
خصائص
يمكن تلخيص خصائص النظام الديمقراطي بالنقاط التالية:
1. ينتخب الشعب ممثليه عن طريق انتخابات عامة
2. تمارس الأغلبية المنتخبة الحكم، هذه الأغلبية الصادرة عن فئات الشعب المختلفة هي سياسية بالتعريف وليست عرقية أو إثنية أو دينية.
3. تصان حقوق المعارضة
4. تصان الحريات العامة للمجتمع، منها حرية التعبير وحرية العقيدة وحرية الاجتماع وحرية الصحافة
5. وجود دولة القانون التي تحترم وتضمن حقوق المواطنين والمساواة بينهم
6. الحد من اعتباطية سلطة الحاكم عن طريق مؤسسات دائمة وآليات للدفاع عن المواطنين
7. ضمان عدم الجمع بين السلطات الثلاث: التشريعية والتنفيذية والقضائية
8. ترسيخ مبدأ الدستورية. أي أن السلطات والمواطنين يحترمون الدستور ويرجعون إلى القضاء لحل الخلافات .
تعلن هذه الخصائص في دستور ديمقراطي يعتبر بمثابة تعاقد بين المواطنين. تتم مناقشته بشكل علني وبحرية كاملة مع شروحات كافية، ويتم إقراره من قبل جمعية تأسيسية منتخبة من الشعب، ويعرض نص الدستور عليه في استفتاء عام.
ميزات
• للديمقراطية قوة هائلة في تحريك المجتمعات الإنسانية. فهي أرضية خصبة لكي يعي الناس مكانتهم وحقوقهم وواجباتهم وتحقيق مصيرهم.
• تجعل من الحرية عاملا مشتركا لكافة المواطنين.
• تقوي قناعة المواطنين لتفعيلها والدفاع عنها وإلزام الحكام بها.
• ترفع الخوف عن قلوب الناس بسبب وعيهم بحقوقهم ومراقبتهم للحكام.
• ترسخ كرامة الناس وتنمي استقلاليتهم ونضوج تفكيرهم وسلوكهم الاجتماعي.
• توجد توازنا بين الحكومة والمعارضة.
• تفسح مجالا واسعا للجميع للنقاش الحر والاتجاه إلى العقل لإقناع الآخر .
• تفتح آفاقا جديدة للإبداع في كثير من المجالات لإيجاد حلول أكثر ملاءمة.
• تدير الصراع السياسي والاجتماعي بشكل سلمي.
• تعطي الناس فرصا أكبر للتأثير على مجريات الأحداث وليساهموا بالحياة العامة عن طريق العمل السياسي والمدني وعن طريق وسائل النشر والاتصالات الحديثة المتاحة في المجتمع.
• توجد آلية واضحة لتطبيق مفهوم السلطة وممارستها في كافة مستويات العلاقات الإنسانية.
• تجعل من الشعب في نفس الوقت حاكم ومحكوم.
2
الديمقراطية السياسية والاجتماعية
“العدالة الاجتماعية شرط الحرية وشرط انسجام الإرادة الخاصة مع الإرادة العامة”
جان-جاك روسو 1778-1712
الديمقراطية السياسية تبقى ناقصة بدون ديمقراطية اجتماعية. الأولى تهتم بمصدر السيادة والسلطة وحقوق المواطن السياسية ومساهمته في الانتخابات وتشكيل الأحزاب وإبداء الرأي ونشره… أما الثانية، والتي لها أولوية على الديمقراطية السياسية، فتهتم بتحسين أوضاع المواطن المادية، عن طريق مبدأ العدالة الاجتماعية من حيث توزيع خيرات البلد على كل المواطنين لأن للمواطن حق شرعي بنصيب عادل منها. فالمساواة بين الأفراد في المجتمعات المنظمة تستند بشكل أساسي على هذه العدالة الاجتماعية. فأفراد الشعب المنبوذين والفقراء وقليلي الثقافة، لا يمكن أن يساهموا بشكل جدي في الحياة السياسية التي تتطلب معرفة بأمور الدولة وتسييرها وأمور السلطة ومداخلاتها. أولويات هؤلاء الناس هي لقمة العيش وليست السياسة.
الحقوق الاجتماعية ضرورية لاعتبار الإنسان غاية في ذاته يجب احترامه ومساعدته على العيش الكريم. لأن هدف التنمية والتقدم في الدولة هو حرية المواطن ورفاهيته. الديمقراطية الاجتماعية تسهل مشاركة المواطنين في العمل السياسي بشكل فعّال لأنها تسد حاجاتهم المادية وتعيد لهم اعتبارهم وكرامتهم وبهذا يصبح للديمقراطية بشطريها معنا واقعيا ومتكاملا.
في حال تأخر الديمقراطية الاجتماعية، من الضروري رغم ذلك تحريك الديمقراطية السياسية ، لأن أي توعية سياسية، ولو كانت في حدود ضيقة، تساعد الناس على معرفة مصالحهم الاقتصادية والاجتماعية. فإشراك الناس في العمل السياسي يحرك كثيرا من طاقات كامنة فيهم للمطالبة بمجتمع أكثر عدالة.
السلطة الاقتصادية في الدول الديمقراطية الرأسمالية وخاصة في الدول النامية، تلعب دورا سلبيا جدا في تطوير الديمقراطية الاجتماعية. لأن هدف الرأسمالية يتناقض أصلا مع هدف العدالة الاجتماعية. هدف الرأسمالية هو الربح الجشع بكافة الوسائل والحصول على إمتيازات طبقية تعلو بكثير على حقوق بقية المواطنين. هذه الامتيازات تعطي الرأسماليين سلطة غير شرعية للتدخل في أمور الدولة وتوجيه سياساتها عن طريق الضغوط الاقتصادية والمالية والسياسية والثقافية والإعلامية لمصالحها الخاصة دون أي اعتبار لمصلحة البلاد والمواطنين في الحاضر والمستقبل من حيث النمو الاقتصادي السليم واستغلال خيرات البلاد وتوظيفها بشكل عادل وعقلاني. الانهيار الهائل في الاقتصاد العالمي في نهاية 2008 أكبر برهان على متاهات وبلطجة الرأسمالية. الانهيار الأخير، الذي يذكرنا بانهيار 1929سيعود دوريا إن لم تتغير فلسفة الليبيرالية الجديدة التي دشّنها الرئيس ريغان ورئيسة الوزراء البريطانية تاتشر في الثمانينات من القرن العشرين. أسباب الانهيار الاقتصادي العالمي يعود الى خلق مجتمع اقتصادي ومالي مؤسس على المضاربة بلا حدود بعيدا كل البعد عن الاقتصاد الحقيقي والواقعي. هذه المزايدات في سعر الاشياء لا يمكن أن تتصاعد هرميا بشكل مستمر، سوف تحصل ازمة اقتصادية يذهب ضحيتها بشكل أساسي الناس العاديين الذين دخلوا في لعبة المضاربات وزيادة مدا خيل وهمية على الورق، يمكن أن تنهار في أي لحظة. القد دفعتهم إليها المؤسسات المالية التي قدمت القروض السهلة لتشجيع الناس على الاستهلاك وشراء البيوت مثلا ثم بيعها ثانية وثالثة… إلى أن ينفجر “البالون” الاصطناعي، لأن البعد صار كبيرا جدا بين السعر الواقعي للأشياء والسعر الذي وصلت إليه هذه المزايدات. أما الادّخار، الذي هو الاحتياطي الاساسي لحماية الناس من الأزمات الحياتية، لم تشجعه المؤسسات المالية ولا حتى الدولة. الفوائد المعروضة على المدخرين ضئيلة غير مشجعة على الادخار. بواسطة الدعاية الدائمة تم غسل دماغ الناس على الاستهلاك بلا وعي . للخروج من هذه الازمة الاقتصادية الحالية 2008-2009 أخذت الدول تقديم آلاف المليارات من الدولارات لدعم البنوك والشركات. أما ملايين الناس الذي أضاعوا ” اقتصادياتهم” في هذه “الطوشة” العالمية فلقد تركوا ليدبروا “رأسهم” !
لا يكفي التبجح بالحريات العامة والمساواة أمام القانون إن لم ترفق بتحسين الاوضاع الاقتصادية للمواطنين ليصبح لهذه المساواة والحرية معنى واقعيا.
3
الثقافة الديمقراطية
الديمقراطية مفهوم حديث نسبيا في تاريخ البشرية، أخذ به على محمل الجد منذ ثلاثة قرون. الديمقراطية ليست ثوبا يفصله المفكرون لتلبسه الشعوب لتسيير أمورهم السياسية والاجتماعية بشكل آلي. هي ليست شيئا “طبيعيا” ، يأخذ بها الناس للخروج من ظلم الحكام، أو “كموضة” تأخذ من الآخرين لحل مشاكل الحكم في البلاد. الديمقراطية مفهوم، تكوّن من خلال التجارب الانسانية المتعددة، والمتعلقة بمصدر وشرعية السلطة السياسية. هي فلسفة سياسية للتعايش المشترك في المجتمع بشكل سلمي. تتلخص باستقلالية الفرد وحريته وعقلانيته وسلوكه المتحضر مع بقية الافراد في مجتمع منظم . هذه الثقافة الديمقراطية تنمو بشكل تدريجي بالفكر والتجربة والتطبيق والمقارنة مع تجارب شعوب أخرى وصلت إلى مراتب عالية في الحياة الديمقراطية. وبما أنها تجربة إنسانية حققت نجاحات كبيرة، عكست متطلبات الإنسان في هذه العصر الحديث، لذا يمكن الأخذ بها للعيش في مجتمعات أكثر حرية والخروج تدريجيا, وبكثير من الجهد والمثابرة والكفاح, من ظلمات الديكتاتوريات العربية ومن الخضوع للتراث الثقافي – الديني -السياسي للعصور الغابرة وللتقاليد الاستبدادية المتوارثة في مجتمعاتنا العربية ، والخضوع الاعمى للسلطان. هذه الديمقراطية ليست شكلا ما في أسلوب الحكم فقط ولكنها أيضا ثقافة سياسية واجتماعية تؤثر في المؤسسات السياسية والاقتصادية والقضائية والدينية لإرساخ حقوق الإنسان العربي.
الديمقراطية سلوك جماعي يحتاج إلى ركيزة واسعة من المواطنين الواعين لأمورهم ويريدون العيش بحرية وعلنية دون خوف من سلطة تهددهم بشكل اعتباطي. لذا من الضروري أن يقبل الجميع بالديمقراطية كقاعدة أساسية لحل الصراعات بشكل سلمي عن طريق الحوار العقلاني المنفتح، بعيدا عن العصبية والسلطوية رغم كل الخلافات الممكنة والطبيعية في عالمنا الانساني.
السلوك الديمقراطي يظهر في كل مجالات العلاقات الإنسانية أهمها العائلة . فالحوار حول أمور تسيير شؤون البيت هي أول تجربة للديمقراطية شرط أن يكون هناك مساواة كاملة بين الرجل والمرأة ، بدونها تبدو الديمقراطية نفاق لأن السلطة الأبوية وحدها تتحول غالبا إلى تسلط وتعجرف غير معقول. فالنقاش المفتوح بين الزوجين يعطي للأبناء درسا وممارسة سليمة. حتى أن إشراكهم في الحوار مع احترامهم، ينمّي حرية كل فرد ويزيد من قدراته الخلاقة. كذلك الحال في المدرسة حيث يتعلم الطالب عن طريق أساتذة ديمقراطيين، التشبع بالقيم الديمقراطية وكيفية تطبيقها في الواقع. هكذا يتعلم الأطفال مثلا الانفتاح على الآخر ورفض التسلط ونبذ المتسلطين وتنمية عقولهم واستقلاليتهم ليبدعوا معا في جملة نشاطاتهم المشتركة. أما في المحيط الاجتماعي العام، فقبول الأفراد لبعضهم البعض كما هم أمر حيوي لاحترام الذات والشعور بأهمية الفرد وتميزه ضمن الجماعة.
الديمقراطية تظهر في كل ركن من أركان الحياة العامة، كاحترام الرأي الآخر سياسية أو دينية أو ثقافية أو فنيّة أو إلحادية… وقبول سيادة القانون ،كالتقيد مثلا بقوانين السير… هذا السلوك “المتمدن” يعكس نضوجا في الديمقراطية تؤثر ايجابيا على الحياة السياسية لأن نوعية الممارسة واحدة في كلا الطرفين.
4
نمو وتطور الحياة الديمقراطية
“الناس سواسية في النظام الديمقراطي والنظام الاستبدادي.
في الأول لأن الناس هم كل شيء وفي الثاني لأنهم لا شيء”
مونتسكيو 1755-1689
يقال إن العرب لا يمكن أن يصيروا ديمقراطيين. هذا حكم صارم وباطل. فهو يخلط بين الكيان والوجود. كأن كيان العربي كعربي شيء جامد يحمل في تكوينه الداخلي عنصرا سلبيا ينفر من الديمقراطية بشكل دائم. أما الوجود الواقعي للناس بكافة قومياتهم فهو وجود متحرك أي يتبدل ويتطور في الزمان والمكان.
الديمقراطية بمفهومها الحديث بعيدة عن مفهومها الأصلي عند اليونان الذين اوجدوا هذا التعبير. الديمقراطية كان يمارسها بشكل مباشر قلة من “المواطنين” في مدن قليلة السكان. أما عند العرب فمفهوم الديمقراطية لم يكن واردا أصلا في تاريخهم. الحكم العربي بفي غالبيته كان فرديا. يتولى الحاكم حكمه إما عن طريق المبايعة أو عن طريق القوة. سلطته مطلقة يدعي مصدرها من الله مباشرة دون أي مساءلة أمام من بايعوه ومن رضخوا عنوتا لإرادته. مساءلته أمام الله فقط . أما الشورى، التي يحاول البعض مغالطة تشبيهها بالديمقراطية، فلقد كانت تعني في أحسن الاحوال الأخذ برأي الفقهاء والعلماء وشخصيات لها اعتبارها في المجتمع. لكن هذه الشورى لم تكن ملزمة للحاكم. الشورى كانت بمثابة الاستشارة كما نراها اليوم.
وضع الديمقراطية في الغرب قبل الثورة الفرنسية ،التي فصلت الدين عن الدولة، لم يكن أفضل من وضعها عند العرب. كان الحكام يدّعون هم أيضا بالسلطة الإلهية وعدم المساءلة أمام الناس.
الواقع العربي الحالي ليس بعيدا عن هذا التاريخ القديم. فتراثنا الثقافي والديني وتربيتنا الضحلة في احترام الحريات السياسية والمدنية للأفراد، غير كافية وغير مؤهلة لتطبيق نظام ديمقراطي مع كل ما يتطلبه من مرونة في التفكير والسلوك. مفهوم الدولة في البلاد العربية غير ملائمة للديمقراطية فهي في أغلب هذه الدول إما عائلية أو عشائرية أو فئوية أو دينية أو شعوبية أو شمولية أو خليط من هذا وذاك مع لاعقلانية وعشوائية في التصرف السياسي والاجتماعي والاقتصادي والمالي…
رغم ذلك لا يمكن الجزم بمستقبل العرب في هذا المجال. ففي أعماق كل إنسان نزعة إلى الحرية الفردية للعيش في مجتمع من الأحرار. فالديمقراطية كما نراها في كثير من الدول المتمدنة، تبدو لنا جليا، أفضل وسيلة لتعايش الحريات بعيدا عن العنف والغوغائية. بتبدل الأوضاع الثقافية والمعيشية للإنسان العربي وإفساح مجال الحريات العامة أمامه، سوف يتقدم في مجال الديمقراطية ككثير من الشعوب التي لم يكن لها تاريخ عريق فيها.
الديمقراطية فكر وسلوك، ثقافة وتنظيم سياسي واجتماعي. تتطور تبعا لمفهوم الناس عنها وتبعا لسلوكهم الجماعي مع بعضهم البعض.الديمقراطية عملية متواصلة تحتاج إلى وعي من المواطنين للحفاظ والدفاع عنها وتطويرها. أول الطريق هو في تربية الأجيال الناشئة على القيم الديمقراطية والسلوك الديمقراطي.
لا ضمانة تلقائية لبقاء الديمقراطية. فالتاريخ يظهر أنها يمكن أن تصعد وتهبط وتضمحل كأي قيمة إنسانية. الديمقراطية هي أفضل صيغة للحكم لأنه نظام لشعب راشد أو لشعب يبغي الرشد والنضج ويتحرك ضد انهياره الأخلاقي في السياسة وضد حكم الوصاية عليه.
5
مؤسسات الدولة والديمقراطية
“الدولة هي الإرادة العامة التي تجسد المعقول في دستور وفي قوانين”
ريمون بولان
الدولة العصرية هي الهوية الجماعية للشعب حاضرها ومستقبلها. تبنى الدولة الحديثة على مؤسسات وليس على أفراد أو حزب. الأفراد والأحزاب يزولون أما المؤسسات فتبقى بعدهم ولأجيال كثيرة. الديمومة في الدولة تتجسد في ديمومة مؤسساتها . السياسي الذي يتعامل مع الدولة كملكية خاصة له، كما هو الحال في كثير من الديكتاتوريات العربية وغيرها، يقضي على مقومات بقائها. فزوالها بزوال مالكها. يجب أن تستند سلطة الحاكم على جملة معايير ومفاهيم وقيم وقوانين مجردة عن الفرد أو أي هيئة اجتماعية لها نفوذ على مصير الدولة والمواطنين.
السياسي المنتخب هو الموكّل عن حسن سير مؤسسات الدولة لتقدم أفضل الخدمات للمواطنين وهي مستقلة عنه رغم أن له السلطة الشرعية لطلب تعديلها وتغييرها لتتلاءم مع العصر عن طريق المجلس التشريعي، أي مجلس النواب. مسؤولية الحاكم أمام المؤسسات كبيرة جدا. لا يصح له أخلاقيا وديمقراطيا أن “يتلاعب” بتعكير سيرها وتقرير مصير بعضها بخفة وعدم مسؤولية. أي تطاول عليها جريمة في حق الشعب. على الحاكم ألا يتسرع، رغم أغلبيته البرلمانية، بشطب ما فعله الآخرون قبله والرجوع إلى نقطة الصفر في بناء جديد لمؤسسات تعكس رؤيته الخاصة. هذا يؤدي إلى هدر الطاقات والأموال والطعن بثقة الناس فيها. مثلا عندما تتدخل كل حكومة جديدة في تغيير برامج الدراسة لتتلاءم مع عقيدتها السياسية ولتمجيد “قائدها” الجديد، يهدد هذا من جدية التربية ويعرّضها لنزوات السياسي الذي يحتقر ما تم قبله ويسخّر هذه المؤسسة لأغراض ضيقة بعيدة عن المصلحة العامة ومناقضة للديمقراطية. التربية هي العامود الفقري لكل مجتمع فكل تغيير فيها يحتاج إلى روية ورؤية سياسية بعيدة المدى. ومن الضروري أيضا، للصالح العام، إبعاد الجهاز الإداري للدولة عن النزاعات السياسية الحزبية. بمعنى آخر يجب عدم خلط المسؤولية السياسية بالمسؤولية الإدارية.
لا يمكن عمل الدولة الديمقراطية دون بيروقراطيين وتكنوقراطيين. الإدارة البيروقراطية الحديثة هي أكثر أشكال الإدارة عقلانية. لأنها تتأقلم مع كافة الوظائف بسبب عملها المتواصل والدائم والمنظم رغم تغير الحكام. هذه البيروقراطية/التكنوقراطية تملك كل المعارف المتخصصة. البيروقراطية في النظام الديمقراطي حيادية لأن الموظف فيها يعمل ما عليه دون محاباة. البيروقراطية مفتوحة لكل الأفراد ذوي المؤهلات بدون تمييز عنصري أو طبقي أو ديني أو غيره.
لكن مما يشل أداء المؤسسات أيضا، وجود بيروقراطية سيئة غير فعّالة تحمي المنتفعين من السماسرة وتقبل الرشوة والابتزاز كأمر واقع. بذلك تبتعد المؤسسات عن خدمة المواطنين. من واجب السياسي النظر في تطوير مؤسسات الدولة لتصبح أكثر فعالية لخير المواطنين وترسيخ أخلاقيات جديدة وتحديد المسؤوليات بشكل واضح وبأقل ما يمكن من التعقيدات الإدارية. تمثل مؤسسات الدولة قسما كبيرا من نشاطات الناس ومعاملاتهم مع بعضهم البعض. فهي الرصيد والضامن لمستقبل الشعب. وهي ليست ملكية خاصة للبيروقراطيين. موظفو الدولة هم في خدمة الشعب وليسوا سادة عليه.
هناك أيضا ظاهرة التكنوقراطية وإمكانية تأثيرها السلبي في الحكم الديمقراطي. التكنوقراطية في السياسة هي حكم الخبراء، وبشكل أدق، تأثير الخبراء المتزايد في كافة المستويات السياسية. بسبب خبراتهم الكبيرة يوجهون بشكل مباشر أو غير مباشر القرارات السياسية للحاكم ويلعبون دورا هاما في أمور الدولة. التكنوقراطي يملك المعرفة الواسعة في مجاله. هذه المعارف هي في عصرنا مفتاح الحلول في كثير من الأمور السياسية وغيرها.
تناقض التكنوقراطية مع الديمقراطية ناتج عن تأثير “الخبراء” في القرار السياسي دون أن يكونوا منتخبين. فالعمل السياسي يتحول من يد الحاكم إلى يد أناس يعملون من وراء الستار دون أي شرعية. يزداد تأثير التكنوقراطيين بتزايد صعوبة المشاكل المطروحة أمام السياسي وخاصة إن كان هذا الأخير ضعيفا وقليل الخبرة والثقافة العامة. فهو لا يستطيع مجابهة المختصين ولا يستطيع توضيح الخطط والأطر اللازمة لوضع سياسات واضحة المعالم والأهداف.
من واجب السياسي المفوض من قبل الشعب، أن يكون حذرا من التكنوقراطيين. عليه أن يوسع نطاق الاستشارات للوصول إلى رؤية أوسع للأمور وإيجاد أفضل الحلول وبهذا يضعف من تأثير كبار التكنوقراطيين عليه. من جهة أخرى على التكنوقراطي أن يتحلى بأخلاق عالية لكي لا يتعدى الحدود المرسومة له. فهو “موظف” عند السياسي وليس له تفويض من الشعب للتأثير ولتوجيه القرارات السياسية دون الرجوع الى المسؤولين.
6
النقابات والديمقراطية
النقابات الحرة، المستقلة عن السلطة السياسية، هي عنصر أساسي في بنية الديمقراطية السياسية والاجتماعية. فهي ملاذ للعمال في كل مجالات العمل في القطاع الخاص أو العام. تنطق باسمهم وتدافع عن حقوقهم وتحاول تحسين أوضاعهم. وبما أن غالبية ساحقة من الراشدين هم عمال أو موظفين، يشكلون قطاعا هائلا من المجتمع المدني. وبما أن السياسة تهدف أولا لتحسين أوضاع المواطنين فمن الضروري أن يكون لهم دور سياسي هام. بدون النقابات يبقى الفرد وحيدا أمام جبروت ورحمة رب العمل. فالنقابة هي قوة تحد من سلطة الدولة وسلطة رأس المال لصالح الأغلبية العاملة.
يمكن تحسين العدالة الاجتماعية بالانتساب إلى النقابات وبهذا تنمو الديمقراطية الاجتماعية التي هي أساس الديمقراطية السياسية. الدول الأكثر عدالة اجتماعية هي التي فيها نسبة عالية من العمال النقابيين (82% في السويد)
المجال المفضل لخلق أجواء ديمقراطية هو العمل النقابي الذي يحدد علاقة رب العمل بالعمال بشكل واضح وسليم في المؤسسة. فمشاركتهم في الإنتاج وتسيير المؤسسات هي ضرورة ديمقراطية وضرورة اقتصادية، أظهرت دراسات متعددة في دول متقدمة أن المنظمات النقابية القوية، تساهم ايجابيا في الانتاجية ورفع مستوى دخل العمال ونمّو أكبر للعدالة الاجتماعية. ولقد بينت التجارب كذلك أن إشراك العمال في إدارة الشركات كما هو الحال في السويد مثلا أدى الى تحسين الانتاجية والى علاقات اجتماعية سليمة. التفاوض بين أرباب العمل والنقابات تساعد على تبادل المعلومات واتخاذ القرارات الملائمة لكل الأطراف شرط أن تدور في أجواء شفافة . هذه التعاملات بين الاطراف تساعد على تخفيف البطالة وعدم خفض المعاشات وإيجاد حلول ملائمة للشركة وللاقتصاد العام، هذا الحوار الاجتماعي يبني ويضمن نمو وازدهار اقتصادي عادل ومستمر يهتم بالناس وبالبيئة.
ترى المنظمة العالمية للنقابات أن مفهوم العمل اللائق بالإنسان يعني حصول كل شخص، رجل أو امرأة ،على عمل منتج وفي أجوار من الحرية والعدالة والأمان والكرامة. مفهوم العمل هذا له أربعة ركائز: تشجيع زيادة فرص العمل، ضمان حق العمل، الضمان الاجتماعي والحوار الاجتماعي.
النزعة الديكتاتورية نراها غالبا في مجالات العمل، خاصة في اقتصاديات البلاد النامية. فرب العمل يأمر والعمال ينفذون . فالفرد يعامل كآلة يمكن تحريكها من مكان إلى آخر، أو عزلها تبعا لمشيئة ونزوات المسؤول ومتطلبات العمل والإنتاجية المقررة بأقل ما يمكن من التكلفة.
حق الاضراب في الديمقراطيات المعروفة هي من الحقوق المعترف بها في دساتير هذه الدول. الإضراب هي ظاهرة إجتماعية أساسية وملازمة للديمقراطية. في حال استهتار قوى رأسمال أو الدولة بحقوق العمال والموظفين، من الضروري لهؤلاء أن يحتجوا ويضربوا عن العمل للحصول على حقوقهم وحصصهم المشروعة من الخيرات. بهذا يتولد في المجتمع توازن بين الاطراف. للتقليل من كثرة الاضرابات يجب زيادة نسبة النقابيين وإعطاء فرص أكبر للمفاوضات المباشرة بين أرباب الاعمال أو مدراء المؤسسات والنقابات للوصول الى حلول معقولة.
الحياة النقابية مدرسة ممتازة للتمرس بالديمقراطية عن طريق الحوار واتخاذ القرارات والتصويت الحر واختيار القيادات والدفاع عن مكاسب العمال.
7
الديمقراطية والمجتمع المدني
للديمقراطية أبعاد اجتماعية عدا أبعادها السياسية. المجتمع المدني بتنظيماته أو جمعياته التي يكونها الناس بعيدا عن السياسة في الدول حديثة العهد مع الديمقراطية، يوجد توازنا بين قوة الدولة وقوة الأفراد، بين القانون في التشريع وبين حق الفرد في التفكير والتعبير الحر. ويخلق علاقات اجتماعية بين الأفراد بعيدة عن الدولة تكون بمثابة صمام أمان ضد جبروت الدولة التي تبغي الشمولية أي السيطرة على كافة نشاطات المجتمع.
من مصلحة الدولة والمجتمع أن يكون لهذه الجمعيات صوت حر ومسموع لأنها تعكس اهتمامات المواطنين المباشرة في كافة نشاطاتهم العامة. فهم يحملون تجارب وخبرات هائلة يمكن أن تنمي المجتمع وتساعد أيضا الحكومة على اتخاذ قرارات صائبة. على الحكومة أن تأخذ جديا بعين الاعتبار ما يصدر عن المجتمع المدني ليس بالشكل المتسرع وغير المشروط ولكن باختيار أفضل المذكرات المرفوعة إليها لدراستها والاستفادة منها للمصلحة العامة. أما الجمعيات المدنية فعليها واجب بناء “شرعيتها” على مصداقية مشاركتها الجدية لرفع مستوى الحوار وتقديم مساعداتها وخبرتها لخير المصلحة العامة.
لكن المجتمع المدني هو خليط غير منسجم ومتعدد الاتجاهات وقد يتناقض مع بعضه البعض حتى في الأمور المشتركة. فكل طبقة اجتماعية تعتبر مصالحها متطابقة مع المصلحة العامة. إن جمعيات المجتمع المدني تعكس وجهة نظر أعضائها فقط وليس لها أي تفويض عام كما هو الحال في الحكومات الديمقراطية المنتخبة من الشعب والمسؤولة عن تسيير دفة الدولة. تقوية المجتمع المدني يجب ألا يبقى تنفيسا عن مشاكل الشعب وألا ينوب عن العمل السياسي المباشر عن طريق الأحزاب. العمل السياسي لإصلاح شؤون الدولة والمجتمع هو الوسيلة الأكثر نجاعة والأكثر ديمقراطية.
انتشار الجمعيات المدنية في الديمقراطيات الغربية ظاهرة أساسية في الحياة العامة. يوجد في كندا مثلا والتي تحوي نحو33 مليون نسمة، مئات الآلاف من الجمعيات المدنية غير الحكومية. منها الكبيرة ذات النفوذ الواسع كالنقابات وجمعيات رجال الأعمال ومؤسسات عالمية مثل العفو الدولية… إلى جمعيات صغيرة تدافع عن قضاياها من بيئية إلى فنية أو دينية…
نموذج عن تأسيس جمعية مدنية
ليس من السهل تأسيس جمعيات عربية أو العمل فيها تبعا للمفاهيم والقواعد الديمقراطية. المجتمعات العربية تستند غالبا على الزعامات من حيث الحكم والتي تعتبر نفسها مالكة للسلطة. هذه الزعامات العائلية أو العشائرية أو الدينية أو الطائفية… أصبحت كشيء بديهي في التفكير الاجتماعي والسياسي. كيف التوفيق بين العقلية الأولية والعقلية الحديثة في تأسيس الجمعيات العربية؟ ما مصدر السلطة، ما هي حقوق وواجبات الأعضاء، كيف يتخذ القرار، ما هي آلية “طبخ” الأمور لتنضج وتصبح جاهزة، كيف يتحاور الأعضاء مع بعضهم، هل هناك طرقا سليمة وفعالة للحوار..؟
الجمعيات في أي مجتمع ديمقراطي ، ليست ملكية فردية أو ورشة خاصة يتحكم بها الإداري كما يشاء. العمل الجماعي هو من خصائص هذه الجمعيات، وهو من أصعبها خاصة بالنسبة لأفراد يعملون في المجال الخاص. لأن عقلية العمل الجماعي هي عقلية منفتحة بالضرورة على الآخر. الهدف هو الوصول إلى أفضل الحلول وليس إلى حل مقدم من فلان استنادا إلى مركزه الاجتماعي أو الإداري أو المالي. تلاحم الأفكار والإرادات في العمل الجماعي هو من الضمانات الأساسية للنجاح. والإمعان في الرأي الآخر مفيد جدا، ولو كان مخالفا أو ناقضا أو معدلا لما يقوله البعض. بهذه الطريقة تتطور الأمور. فتناحر الأفكار وحوارها يؤدي، إن تم بشكل سليم، إلى فهم أفضل للأمور من حيث أننا نأخذ بالاعتبار جملة أبعاد الموضوع لتوسيع الرؤية واستنباط حلول أفضل.
السلطة والإدارة ضرورية في تسيير الأمور، ولكن السلطة عوضا عن أن تكون خدمة للناس قد تتحول إلى تسلط بخروجها عن قواعد العمل الجماعي. لذا يجب أن تحدد المسؤولية بشكل واضح في نظام داخلي كي لا يختلط الحابل بالنابل وتميل الأمور إلى صراع على السلطة وتفتح الأبواب أمام الحيل والمناورات الهدامة. فالسلطة هي بمثابة تفويض من أعضاء الجمعية تعطى إلى الإداريين لتسيير الأمور بأفضل ما يمكن حسب تطلعات الأولين. لكن حين تنفصل الإدارة عن قاعدتها وتتحرك دون أي اعتبار لها، تتجه بذلك إلى منزلق خطير قد يطيح بالجمعية ككيان جماعي.
العمل الطوعي في هذه الجمعيات غير النفعية خاصة، هو بمثابة العامود الفقري لها. هذا العمل المجاني يتطلب من إداراتها أن تحس به وتقدره كل التقدير. فشعور المتطوعين بأنهم حققوا شيئا ما لخير الناس هو إحساس يغني النفس. من الضروري تشجيعه لفائدة الجمعية وبقائها ونموها. لكن عندما تدخل في هذه الجمعيات النيّات النفعية بكافة أشكالها تصبح القضية لا أخلاقية ومكيافيلية لأنه تحايل على المبادئ المعلنة. هذا السلوك يصبح أكثر قبحا عندما يصدر عن الإداريين المنتخبين والحائزين على ثقة الأعضاء. عندها تتسبب الإدارة في انهيار معنويات المتطوعين في العمل الجماعي للأسباب المذكورة، يصبح من الضروري على الجمعية العامة، المطالبة في تغيير سلوك الإداريين أو فصلهم في اقرب فرصة وانتخاب أفراد أكثر إحساسا بواقع الأمور وأكثر ديمقراطية، لإنقاذ ما يمكن إنقاذه. من السهل نسبيا تخريب الجمعيات ومن الصعب جدا إعادتها إلى الحياة.
هناك مبدأ هام آخر في السلوك الديمقراطي، من الضروري أخذه على محمل الجد، وهو انه يمكن خسارة معركة انتخابية أو تصويت ما في لجنة أو جمعية عامة أو مجلس إدارة لصالح الآخر دون الخجل من ذلك أو الشعور بالإحباط أو المذلة لأن العملية تمت بشكل واضح وسليم. إن إرادة الأعضاء هي التي تقرر النتائج في النهاية وليس من المشين الرضوخ لإرادة الأغلبية.
مبادئ الجمعيات بلا أهداف نفعية
إن تأسيس الجمعيات بلا أهداف نفعية في المجتمعات الحديثة هو من أهم أركان ممارسة الديمقراطية المباشرة. هذه الممارسة تغني المجتمع المدني بأنواع لا تحصى من النشاطات السياسية والاجتماعية والفنية والرياضية… كل الدول الديمقراطية تحيط هذه الجمعيات بقوانين أساسية لكي تمارس فيها النشاطات بحرية سليمة. المبدأ الأساسي في أي جمعية بلا أهداف نفعية هو أن السيادة في إرادة أعضائها. هذه الإرادة تعبر عن نفسها وبشكل رسمي عن طريق اجتماعات الجمعية العامة. وقراراتها تعتبر كقانون لها وهي ملزمة لكل الأعضاء.
من جملة حقوق أعضاء الجمعية العامة:
1. تعديل النظام الأساسي والداخلي.
2. انتخاب الإداريين وعزلهم.
3. قبول أو رفض كل قرارات وأعمال مجلس الإدارة.
4. حل وتصفية الجمعية.
5. الإطلاع على كافة شؤون الجمعية.
6.حق حضور الجمعية العامة والتصويت واتخاذ القرارات الملزمة للجميع.
7. الإطلاع على كافة سجلات الجمعية: محاضر الجمعية العامة، محاضر مجلس الإدارة وخطتها المستقبلية وكل الاتفاقات المعقودة.
8. يحق لعدد محدد من أعضاء الجمعية، مثلا (10 في %) الدعوة إلى جمعية عامة استثنائية.
9. توجيه الجمعية بهدف تحسين إدارتها.
10.دفع الاشتراك السنوي في حال وجوده.
11.الاشتراك بنشاطات الجمعية.
هناك أيضا بعض النقاط التي تحدد، غير ما ذكر أعلاه.