بقلم: عبد القادر العلمي
اتسع تداول مصطلح (المواطنة) لما يحمله من معاني المشاركة في الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، إذ إن صفة (المواطن) لا تعني فقط الانتساب للوطن، والارتباط به كتابع، وإنما هو بهذه الصفة عنصر فاعل في مختلف المجالات، له كيانه المستقل، وقناعاته الخاصة، ومن حقه أن يعبر بحرية عن آرائه واختياراته الشخصية، وأن يضطلع بدور إيجابي في الحياة العامة.
ولا يستقيم البناء الديموقراطي لأي دولة دون تجلي روح (المواطنة) في علاقات كل فرد (مواطن) بمؤسسات الدولة التي يعد الهدف الأساسي من وجودها هو خدمة (المواطنين) وتوفير ما يحتاجون إليه في حياتهم الفردية والجماعية، من أمن واطمئنان واستقرار، والسهر على تنظيم شؤونهم العامة انطلاقا من خياراتهم، ووفق رغباتهم وحاجاتهم، وفي المقابل يرتبط الأفراد (المواطنون) بالولاء الكامل ل (الوطن) الذي لا يعني مجرد حيز جغرافي، وعلم يرفرف فوق البنايات الرسمية، وإنما يشمل في مفهومه الواسع مجموعة من القيم والمبادئ والقضايا التي تعكس الإرادة العامة للمواطنين.
وسنتناول الموضوع من خلال ثلاثة محاور:
ـ ماهية المواطنة وتطور مفهومها
ـ مقومات المواطنة
ـ التربية على المواطنة
أولا: ماهية المواطنة وتطور مفهومها:
أ _ ماهية المواطنة:
ولتحديد ماهية مصطلح (المواطنة) نرجع إلى أصل الكلمة فنجد أنها بالنسبة للغة العربية من الكلمات المستحدثة ، ودخلت إليها على الأرجح في إطار ترجمة التراث الغربي الحديث، وهي تقابل كلمة (Citizenship) في اللغة الإنجليزية، وكلمة (Citoyenneté) في اللغة الفرنسية، وكلمة (Ciudadania) في اللغة الإسبانية، ويأتي الاشتقاق من كلمة (City) الإنجليزية، و(Cité) الفرنسية، و (Cuidad) الإسبانية، وتعني هذه الكلمات في اللغات المذكورة المدينة؛ أما أصل مصطلح )المواطنة (فهو يوناني، ويرجع لكلمة (Politeia) المشتقة من كلمة (Polis)وهي المدينة.
وقد اشتقت كلمة المواطنة في اللغة العربية كما هو واضح من الوطن، وجاء في كتاب لسان العرب لابن منظور أن » الوطن : المنزل الذي تقيم به، وهو موطن الإنسان، ومحله، والجمع أوطان« وتترجم كلمة المواطنة في بعض المعاجم العربية، بأنها الاسم الذي يطلق على حقوق وواجبات المواطن، وكلمة المواطن وفق المفهوم الغربي الذي اشتق منه، هو الفرد الذي ينتمي لدولة معينة، ويقيم فيها بشكل معتاد ولو لم يولد بها كحالة اكتساب الجنسية، ويحدد الدستور والقوانين العلاقات بين المواطن والدولة وتشمل الحقوق والحريات والامتيازات التي يتمتع بها المواطن، وواجباته ومسؤولياته والتزاماته تجاه وطنه، وبالتالي يمكن القول بأن المواطنة تعني الروابط القانونية والسياسية التي تجمع الفرد المواطن بوطنه.
وقد وجد عدد من الكتاب في كلمتي المواطن والمواطنة ضالتهم لنقد كلمات موجودة في التراث العربي ولا تستقيم مع المفاهيم الديموقراطية الحديثة، وكمثال على ذلك كتاب خالد محمد خالد (مواطنون لا رعايا) وكتاب فهمي هويدي (مواطنون لا ذميون)؛ وأصبحت الكتابات العربية الحديثة بصفة عامة تستعمل (المواطنة) كمصطلح يفيد المشاركة والمسؤولية والمساواة والكرامة في مجتمع ديموقراطي.
وجاء في معجم المجلس الأوربي حول (مصطلحات التربية على المواطنة الديموقراطية) المنجز من طرف (Karen O’shea) «أن المواطن بصفة عامة يطلق على شخص يعيش مع أشخاص آخرين في مجتمع معين »(1) ولا تفرق بعض المراجع الغربية بين المواطنة والجنسية، وتعرف موسوعة (كولير) الأمريكية المواطنة (Citizenship) بأنها » أكثر أشكال العضوية اكتمالا في جماعة سياسية« (2)؛ وتعرفها دائرة المعارف البريطانية بأنها »علاقة بين فرد ودولة، يحددها قانون هذه الأخيرة، وما تشمله تلك العلاقة من واجبات وحقوق في ذات الدولة ..وتخول للمواطن على وجه العموم حقوقا سياسية مثل حق الانتخاب وتولي المناصب العامة«، وجاء في موسوعة الكتاب الدولي أن المواطنة (Citizenship) هي عضوية كاملة في دولة، أو في بعض وحدات الحكم، وتخول للمواطنين بعض الحقوق كالتصويت وتولي المناصب العامة، وعليهم واجبات كدفع الضرائب والدفاع عن بلدهم )3(.
ب _ تطور مفهوم المواطنة:
ومفهوم المواطنة في العصر الحاضر يجد جذوره في الفلسفة اليونانية وفي الممارسة الديموقراطية البدائية في أثينا، ولو أن تلك الممارسة كانت تقصي النساء والعبيد، فقد كانت تنبني على مبدأ تساوي الذكور الأحرار في اتخاذ القرارات المتعلقة بتدبير الشأن العام، أي التساوي في المشاركة السياسية، الأمر الذي يشكل عنصرا جوهريا في المفهوم الحديث للمواطنة.
ولا نعثر على كلمة (المواطنة) في التراث العربي الإسلامي، غير أن ما تعبر عنه هذه الكلمة في العصر الحاضر، من قيم الحرية والعدل والمساواة والمشاركة والمسؤولية، تعد من المبادئ التي دعا إليها الإسلام، وإن كانت الممارسة السياسية منذ حكم الأمويين لم تتقيد بالمبادئ الإسلامية الصحيحة، كما أن عدم تطوير نظام الشورى، والصراعات الدموية من أجل الاستفراد بالحكم واحتكار السلطة، وغياب حرية النقد السياسي، وانعدام فرص التقويم العقلاني لأساليب تدبير الشأن العام، كل ذلك أدى إلى إبعاد المجتمعات الإسلامية عن تعاليم الإسلام ومقاصده، وحال دون انخراطها في التطور السياسي الذي عرفته شعوب وأمم أخرى، عرفت كيف تستفيد من الحضارتين الإغريقية والرومانية، ومن المبادئ التي ارتكز عليها الإسلام نفسه.
وإذا كانت أوربا الغربية قد عرفت مرحلة من السبات العميق خلال القرون الوسطى، حيث سادت أنظمة من الحكم الفردي المطلق، الذي لا يقيم اعتبارا للمواطنة، فإن الفكر السياسي والقانوني في دائرة الحضارة الغربية منذ القرن الثالث عشر، قام بصياغة مبادئ، واستنباط مؤسسات، وإبداع وتطوير آليات جديدة للحكم، أمكن بعد إدخالها حيز التطبيق بكيفية تدريجية، تأسيس وتنمية نظم حكم قومية مقيدة للسلطة، وتم ذلك من خلال حركات الإصلاح التي لم تتحقق أهدافها دائما بشكل عفوي، أو بخطوات سلسة، وإنما اقترن نضال تلك الحركات بثورات شعبية أتت على نمط الحكم المطلق، الذي يجمع فيه الحاكم الفرد كل السلط، وتتركز بين يديه كل القرارات، وفتحت المجال لقيام الديموقراطية، التي تجعل الشعب هو مصدر السلطات، والإرادة العامة هي مناط الحكم.
وتعد الثورة الفرنسية من أهم تلك الثورات التي عرفتها أوربا، ومعها عرف مفهوم المواطنة تطورا هاما حيث تمت القطيعة مع الطقوس والعلاقات الفيودالية، وصدر بيان حقوق الإنسان والمواطن سنة 1789، فأصبح مفهوم المواطنة يشمل الحقوق المدنية والسياسية، والحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، مع إقرار مبدأ المساواة أمام القانون، وعدم إقصاء الأقليات أو أي فئة في المجتمع.
وأثرى فلاسفة الأنوار المفاهيم السياسية بمصطلحات جديدة، مثل )المجتمع المدني(، و)الرأي العام(، و )السيادة الوطنية(.. مما ساهم في توسيع مفهوم المواطنة، ليشمل مختلف الأدوار التي يمكن أن يقوم بها الأشخاص المواطنون، وسائر المجالات التي تهم حياتهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وأعطى )جان جاك روسو( من خلال مقولته الشهيرة:) الإرادة العامة( مفهوما أوسع للمواطنة يرتكز على تدبير شؤون المجتمع من لدن أشخاص مدنيين فاعلين، والذين هم أساس مشروعية ممارسة السلطة،(4) ويحدد (سييس) صفات المواطن الفاعل من خلال التمثيلية التي تجعل المواطنة لا تنحصر فيمن لهم أهلية الانتخاب، أي أن الذين لم يبلغوا بعد سن التصويت لا تنتفي عنهم صفة المواطنة، وأن المنتخب يمثل الأمة بكاملها خلال ولاية محددة المدة، وتخول المواطنة حق متابعة المؤسسات التمثيلية، ومطالبتها بتحقيق الرغبات العامة، وبذلك لا يكون الأفراد المواطنون مجرد تابعين خاضعين، وإنما مشاركين فاعلين)5(.
ومع تطور الديموقراطية، أصبحت الحقوق التي تخولها المواطنة، كالمشاركة في الحياة السياسية وفي اتخاذ القرارات، ترتبط بحرية تأسيس الأحزاب والنقابات والجمعيات المدنية، وحرية الانتماء إليها، والمشاركة من خلالها في تكوين الرأي العام، وبلورة توجهاته؛ وهنا يتبين الارتباط الوثيق بين المواطنة والديموقراطية، فلا مواطنة دون توفر مقومات النظام الديموقراطي السليم، الذي يقوم أساسا على سلطة المؤسسات المنبثقة من الشعب، ويضمن الحريات الفردية والجماعية، واحترام حقوق الإنسان، والتعددية الحزبية التلقائية، التي يفرزها اختلاف المصالح، وتعدد وجهات النظر حول أساليب تدبير الشأن العام.
والعلاقة بين المواطنة، والمواطن، والوطن، لا تنحصر في الاشتقاق اللغوي، وإنما تمتد إلى الارتباط الوثيق في المضامين، فلا مجال لتجسيد مفهوم المواطنة بما يعنيه من مشاركة ـ مباشرة أو غير مباشرة ـ في تدبير الشأن العام، ومسؤولية تجاه الوطن، دون وجود مواطن يُدرك بوعي حقوقه وواجباته، في المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، ويشعر بأنه معني بما يجري داخل الفضاء الذي يسمى الوطن، فلا مواطنة بدون مواطن، ولا مواطن بدون ولاء للوطن، وتفاعل إيجابي مع قضاياه، وانخراط حقيقي في شؤونه.
وفي العصر الحديث الذي يتميز بالتكتلات السياسية والاقتصادية الكبرى، بدأت تبرز أشكال جديدة للمواطنة، لا تنحصر فيها روابط المواطن بالدولة التي ينتمي إليها، وإنما تتسع هذه الروابط لتشمل مجموعة من الدول التي تجمع بينها مواثيق لتنسيق وتوحيد مواقفها وبرامجها السياسية والاقتصادية والثقافية، كما هو الحال بالنسبة للاتحاد الأوربي.
ثانيا: مقومات المواطنة:
من خلال ما تقدم يتبين أن )المواطنة( ليست وضعية جاهزة يمكن تجليها بصورة آلية عندما تتحقق الرغبة في ذلك، وإنما هي سيرورة تاريخية، ودينامية مستمرة، وسلوك يكتسب عندما تتهيأ له الظروف الملائمة، وهي ممارسة في ظل مجموعة من المبادئ والقواعد، وفي إطار مؤسسات وآليات تضمن ترجمة مفهوم المواطنة على أرض الواقع؛ وإذا كان من الطبيعي أن تختلف نسبيا هذه المتطلبات من دولة إلى أخرى، ومن زمن إلى آخر بسبب اختلاف الثقافات والحضارات، والعقائد والقيم، ومستوى النضج السياسي، فإنه لابد من توفر مجموعة من المقومات الأساسية المشتركة، ووجود حد أدنى من الشروط التي يتجلى من خلالها مفهوم المواطنة في الحياة اليومية للمواطنين، وفي علاقاتهم بغيرهم، وبمحيطهم السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي.
وفيما يلي نشير إلى أهم المقومات والشروط التي لا مجال للحديث عن المواطنة في غيابها:
1) المساواة وتكافؤ الفرص:
لا تتحقق المواطنة إلا بتساوي جميع المواطنين والمواطنات في الحقوق والواجبات، وتتاح أمام الجميع نفس الفرص، ويعني ذلك التساوي أمام القانون الذي هو المرجع الوحيد في تحديد تلك الحقوق والواجبات، وإذا كان التساكن والتعايش والشراكة والتعاون من العناصر الأساسية التي يفترض توفرها بين المشتركين في الانتماء لنفس الوطن، فإنها تهتز وتختل في حالة عدم احترام مبدأ المساواة، مما يؤدي إلى تهديد الاستقرار، لأن كل من يشعر بالحيف، أو الحرمان دون حق مما يتاح لغيره، وتنغلق في وجهه أبواب الإنصاف، يصبح متمردا على قيم المواطنة، ويكون بمثابة قنبلة موقوتة قابلة للانفجار بشكل من الأشكال.
والوطن الذي تتعدد أصول مواطنيه العرقية، وعقائدهم الدينية، وانتماءاتهم الثقافية والسياسية، لا يمكن ضمان وحدته واستقراره إلا على أساس مبدأ المواطنة الذي يرتكز على منظومة قانونية وسياسية واجتماعية وأخلاقية متكاملة، والمساواة كمقوم رئيسي للمواطنة، تعني أنه لا مجال للتمييز بين المواطنين على أساس الجنس، أو اللون، أو الأصل العرقي، أو المعتقد الديني، أو القناعات الفكرية، أو الانتماء والنشاط السياسي والنقابي والجمعوي، واختلاف الفئات وصفاتها وانتماءاتها لا يجعل أيا منها أكثر حظا من غيرها في الحصول على المكاسب والامتيازات، كما لا يكون سببا في انتقاص الحقوق، أو مبررا للإقصاء والتهميش، وحسن تدبير الاختلاف والتعدد لا يتم إلا في إطار المواطنة التي تضمن حقوق الجميع، وتتيح لكل المواطنين والمواطنات القيام بواجباتهم وتحمل المسؤوليات في وطنهم على أسس متكافئة، وإرساء مبدأ المواطنة في منظومة الروابط والعلاقات التي تجمع بين أبناء الوطن الواحد وبينهم وبين مؤسسات الدولة، لا يمكن أن يقوم على إلغاء الصفات والانتماءات والمعتقدات وغيرها من خصوصيات بعض الفئات، وإنما يقوم على احترامها، وإتاحة أمامها فرص المشاركة في إغناء الوطن وتنمية رصيده الثقافي والحضاري.
ولحماية مبدأ المساواة بين جميع المواطنين والمواطنات داخل المجتمع الذي تتناقض فيه المصالح والأغراض، فإنه لابد من وجود ضمانات قانونية وقضاء مستقل وعادل يتم اللجوء إليه من طرف كل من تعرضت حقوقه للمس أو الانتهاك من لدن الآخرين سواء كانوا أشخاصا طبيعيين أو اعتباريين.
والدستور المغربي على غرار معظم الدساتير في العالم ينص على أن » جميع المغاربة سواء أمام القانون« (6)، ويلاحظ أن المشرع استعمل كلمة(المغاربة) عوض (المواطنين والمواطنات) التي تحيل بشكل واضح من الناحية الاصطلاحية على مبدأ المواطنة، كما يلاحظ أن واقع الحياة اليومية في مختلف المجالات ما زالت تعرف الكثير من التجاوزات التي تخل بالمبدأ الدستوري الذي يقر المساواة، وتحول بالتالي دون تجلي قيم المواطنة، ولذلك لا تقف بعض الدساتير في الديموقراطيات الغربية عند حد تسجيل المبدأ، وإنما تذهب إلى أبعد من ذلك لضمان احترامه في الممارسة، مثل الدستور الإيطالي الذي بعد تأكيده على أن » لكل المواطنين نفس القدر من الكرامة الاجتماعية، وهم سواء لدى القانون، دون تمييز في الجنس، أو العرق، أو اللغة، أو الدين، أو الأفكار السياسية، أو الأوضاع الشخصية والاجتماعية« يضع على الدولة مسؤولية »إزالة جميع العوائق الاقتصادية والاجتماعية التي تحد في الواقع من حرية المواطنين والمساواة بينهم، وتحول دون التنمية التامة للشخصية الإنسانية، ودون مشاركة جميع العاملين الفعلية في بنية البلاد السياسية والاقتصادية والاجتماعية« (7).
2) المشاركة في الحياة العامة:
ولا يكفي ضمان المساواة والتكافؤ في القوانين المسطرة، والأنظمة المتبعة، وفي الممارسة، لكي يتجلى مبدأ المواطنة، وإنما لابد كذلك من المشاركة الفعلية للمواطنين والمواطنات في الحياة العامة، الأمر الذي يتطلب توفر استعدادات حقيقية لدى كل المشتركين في الانتماء للوطن، وهذه الاستعدادات لا تتوفر إلا في حدود ضيقة في ظروف قمع الحريات، ومصادرة الفكر المتحرر من التبعية والخنوع، وفي ظل الأنظمة التي تناهض العمل السياسي الذي يحمل رؤية انتقادية، أو موقف معارض للحكام وللسياسات المتبعة؛ ففي مثل هذه الظروف التي تعرفها المجتمعات المتخلفة عموما، ومنها البلاد العربية والإسلامية، يلاحظ انزواء كثير من الكفاءات، وبروز الفردانية، والابتعاد عن المشاركة في الحياة العامة، والنفور من العمل السياسي، وغير ذلك من الظواهر المناقضة للمواطنة، فالأنظمة القمعية، ولو اختفت وراء ديموقراطيات شكلية، مسؤولة عن تقليص فرص المشاركة، ومدمرة لقيم المواطنة؛ ولا يتأتى نمو استعداد المواطنين والمواطنات للمشاركة في الحياة العامة إلا في ظل حرية الفكر والتعبير، وحرية الانتماء والنشاط السياسي والنقابي والجمعوي، وفي إطار الديموقراطية التي يكون فيها الشعب هو صاحب السيادة ومصدرا لجميع السلطات.
والمشاركة في الحياة العامة تعني أن إمكانية ولوج جميع المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية متاحة أمام الجميع دون أي ميز، بدءا من استفادة الأطفال من الحق في التعليم والتكوين والتربية على المواطنة وحقوق الإنسان، واستفادة عموم المواطنات والمواطنين من الخدمات العامة، ومرورا بحرية المبادرة الاقتصادية، وحرية الإبداع الفكري والفني، وحرية النشاط الثقافي والاجتماعي، وانتهاء بحق المشاركة في تدبير الشأن العام بشكل مباشر كتولي المناصب العامة وولوج مواقع القرار، أو بكيفية غير مباشرة كالانخراط بحرية في الأحزاب السياسية، وإبداء الرأي حول السياسات المتبعة، والمشاركة في انتخاب أعضاء المؤسسات التمثيلية على المستوى المحلي والوطني والمهني.
وعندما تتاح الفرص المتكافئة للمشاركة أمام كل الكفاءات والطاقات يكون المجال مفتوحا للتنافس النوعي الذي يضمن فعالية النخب السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، ويضفي الحيوية على المشهد الوطني، مما يساهم في خلق واقع ينشد التطور المتواصل والارتقاء المستمر.
والمشاركة بالمفهوم الواسع المبين أعلاه، تعني توفر فرص الانخراط التلقائي في مختلف مجالات الحياة العامة وحقولها، ولذلك فهي تختلف عن الإشراك الذي ينطوي على مفهوم المنح من سلطة عليا تحكم بأمرها، لرعايا تابعين خاضعين لنفوذها، لأن الإشراك بهذا المعنى يتناقض مع مفهوم المواطنة ويتعارض مع مقوماتها.
3 ) الولاء للوطن:
ويعني الولاء للوطن أن الرابطة التي تجمع المواطن بوطنه تسمو عن العلاقات القبلية والعشائرية والحزبية، ولا خضوع فيها إلا لسيادة القانون، وأن هذه الرابطة لا تنحصر في مجرد الشعور بالانتماء وما يطبع ذلك من عواطف، وإنما تتجلى إلى جانب الارتباط الوجداني، في إدراك واعتقاد المواطن بأن هناك التزامات وواجبات نحو الوطن لا تتحقق المواطنة دون التقيد الطوعي بها.
ولا تتبلور في الواقع صفة المواطن كفرد له حقوق وعليه واجبات، بمجرد توفر ترسانة من القوانين والمؤسسات، التي تتيح للمواطن التمتع بحقوقه والدفاع عنها في مواجهة أي انتهاك، واستردادها إذا سلبت منه، وإنما كذلك بتشبع هذا المواطن بقيم المواطنة وثقافة القانون، التي تعني أن الاحتكام إلى مقتضياته هو الوسيلة الوحيدة للتمتع بالحقوق وحمايتها من الخرق، وبالتالي لا مجال لاستعمال العلاقات الخاصة مع ذوي النفوذ، أو الاحتماء بمركز الفرد في القبيلة أو العشيرة، وهي ظواهر ما زالت حاضرة في الكثير من العقليات والسلوكيات داخل مجتمعنا المغربي والمجتمعات المتخلفة عموما.
ويعني الولاء للوطن شعور كل مواطن بأنه معني بخدمة الوطن، والعمل على تنميته والرفع من شأنه، وحماية مقوماته الدينية واللغوية والثقافية والحضارية، والشعور بالمسؤولية عن المشاركة في تحقيق النفع العام، والالتزام باحترام حقوق وحريات الآخرين، واحترام القوانين التي تنظم علاقات المواطنين فيما بينهم، وعلاقاتهم بمؤسسات الدولة والمجتمع، والمساهمة في حماية جمالية ونظافة المدينة أو القرية التي يقيم بها، وحماية البيئة فيها، والمشاركة في النفقات الجماعية، والانخراط في الدفاع عن القضايا الوطنية، والتضامن مع باقي المواطنين والهيئات والمؤسسات الوطنية في مواجهة الطوارئ والأخطار التي قد تهدد الوطن في أي وقت، والاستعداد للتضحية من أجل حماية استقلال الوطن، والذود عن حياضه، وضمان وحدته الترابية، والارتكاز في ذلك على مبدأ عام يُفترض أن يربط بين مختلف فئات المواطنين وهو اعتبار المصالح العليا للوطن فوق كل اعتبار، وأسمى من كل المصالح الذاتية الخاصة والأغراض الفئوية الضيقة.
والولاء للوطن لا ينحصر في المواطنين المقيمين داخل حدود التراب الوطني، وإنما يبقى في وجدان وضمير وسلوك المواطنين الذين تضطرهم الظروف للإقامة في الخارج، لأن مغادرة الوطن لأي سبب من الأسباب، لا تعني التحلل من الالتزامات والمسؤوليات التي تفرضها المواطنة، وتبقى لصيقة بالمواطن تجاه وطنه الأصلي حتى ولو اكتسب الجنسية في دولة أخرى.
ثالثا: التربية على المواطنة:
إذا كان التعلق العاطفي بالوطن يوجد لدى الإنسان بالفطرة، فإن الوعي بمقومات المواطنة، وما يتبعه من إحساس بالمسؤولية، والتزام بالواجبات نحو الوطن، يكتسب بالتعليم والتأهيل، عن طريق الأسرة، والمدرسة، ووسائل الإعلام، والثقافة، والمجتمع، وإذا كانت كل هذه القنوات تتكامل أدوارها في إشباع الأجيال بقيم المواطنة، فإن النتائج لابد وأن تكون ملموسة في تسريع وتيرة ارتقاء المجتمع وتحضره.
وفي ضوء أحكام الاتفاقية الدولية لحقوق الطفل المعتمدة سنة 1989، فإن الطفل الذي يجب أن يلج المدرسة، وأن يحظى بتنشئة اجتماعية في ظروف جيدة، لا يمكن النظر إليه كمجرد تلميذ ينبغي إعداده لكي يكون مواطنا في المستقبل، فهو مواطن في الأصل، وتربيته على المواطنة تعني تحضيره للمشاركة الفاعلة في خدمة وطنه، وتزويده بالمعارف والمهارات والقيم التي تؤهله لتحمل المسؤوليات في المجالات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والبيئية، وتُعده للمساهمة الإيجابية في تطوير المجتمع نحو الأفضل.
وهناك اهتمام متزايد في الدول الديموقراطية في غرب أوربا كفرنسا بموضوع التربية على المواطنة (8) وتأسست لجان للتنسيق على مستوى الاتحاد الأوربي في هذا المجال، سبق أن أعدت برنامج عمل مشترك للتربية على المواطنة الديموقراطية (E.C.D.) يهم الفترة (2001- 2004) وتم التحضير لجعل سنة 2005 سنة أوربية للمواطنة بالتربية (9).
ويحدد المكتب الدولي للتربية (B.I.E. )، أربعة أبعاد للتربية على المواطنة وهي:
حقوق الإنسان: كونية حقوق الإنسان، والمساواة في الكرامة، والانتماء إلى المجتمع.
الديموقراطية: إعداد الفرد للحياة السياسية والمدنية.
التنمية: إكساب اليافعين والشباب الكفاءات والمؤهلات الضرورية لمواكبة التغييرات الاجتماعية والاقتصادية والتكنولوجية لمحيطهم، ومقومات التنمية المستدامة.
السلام: كنتيجة وسيرورة المواطنة المستمدة من حقوق الإنسان، والهادفة للتنمية المستدامة.(10)
ومن أبرز أسباب ومظاهر التخلف في معظم بلدان العالم الثالث، النقص في التربية على المواطنة، وما يترتب عن ذلك من ضعف الإحساس بالمسؤوليات والالتزامات تجاه الوطن؛ وإذا كان من الممكن تبرير اقتران هذه الظاهرة السلبية بأشخاص لم يلجوا المدرسة، أو انقطعوا عنها في مستويات متدنية، فإنه من الغريب أن تقترن بأشخاص يُفترض أنهم من النخبة، بالنظر لمستوياتهم التعليمية، ومواقعهم المهنية والاجتماعية، والتزام الأفراد بمقومات المواطنة يرتبط بالسلوك الحضاري الذي قد يتحلى به أحيانا مواطن عادي ولو لم ينل حظه الكافي من التعليم، وقد لا يتحلى به شخص حاصل على شهادات عليا ومتحمل لإحدى المسؤوليات في الدولة.
ومن المؤسف أن نرى أشخاصا يرددون كلمة المواطنة كشعار، ولا يترجمون في سلوكهم اليومي ما تفرضه المواطنة الحقيقية من واجبات والتزامات، كمن تسيطر عليهم الأنانية الذاتية فيعيشون لأنفسهم فقط، ويعتبرون أن الوطن يجب أن يوفر لهم ما يحتاجون إليه من خدمات عامة متنوعة دون أن يساهموا بأي عمل لصالح هذا الوطن، أو الذين يتهربون من أداء الضرائب، أو يتعمدون الغش في نشاطهم المهني، أو يستغلون مواقع النفوذ للارتشاء وممارسة المحسوبية والزبونية، وتشجيع الوصولية، أو ينهبون المال العام، أو يستغلون الممتلكات العمومية لمصلحتهم الخاصة، أو يهربون الأموال إلى خارج البلاد، والذين يهمشون اللغة أو اللغات الوطنية، ويعملون على إحلال لغة أجنبية محلها، فلا يستعملونها للتعرف على الثقافات الأجنبية، وللتحاور مع الأجانب، وإنما يستعملونها في حياتهم اليومية، ويتحدثون بها داخل محيطهم الاجتماعي، ومع أبنائهم، وما يتبع ذلك من استلاب وتنكر للقيم وللثقافة الوطنية.
وعندما لا تتوفر وحدة المدرسة، ولا يتلقى أبناء الوطن الواحد نفس التعليم، فيتوجه أبناء بعض الأسر الميسورة إلى البعثات الأجنبية، بدافع البحث عن الجودة في التعليم، ويتوجه الآخرون إلى التعليم الوطني الرسمي أو الخاص، فإن الآثار المترتبة عن ذلك لا تنحصر في هدم مبدأ تكافؤ الفرص بين المواطنين، وإنما ينتج عن ذلك أيضا التناقض في السلوك، والتضارب في القيم، لأن التعليم الأجنبي فضلا عن تلقينه باللغة الأجنبية، فهو يغرس في التلميذ قيما ومفاهيم وسلوكيات ترتكز على المرجعية الثقافية للمدرسة الأجنبية التي تلقى تعليمه فيها، ويصبح بعيدا ـ ولو لم يرغب في ذلك ـ عن لغته وثقافته الأصليتين، وتحصل فجوة بينه وبين باقي المواطنين.
ولذلك فإن التربية على المواطنة، فضلا عما تتطلبه من توجيه سليم، وقدوة صالحة، داخل الأسرة والمجتمع، تتوقف على وحدة المدرسة، التي ترتكز على مبدإ أساسي وهو أن التربية والتعليم حق لكل طفل، وتضمن تكافؤ الفرص والمساواة بين جميع أبناء الوطن الواحد، سواء كانوا من أسر ميسورة أو فقيرة، أو كانوا من سكان الحواضر أو البوادي، وتتوحد في تلقين نفس المناهج التي ترتبط بالمحيط الاقتصادي والاجتماعي والثقافي، ولا تقتصر على إعطاء التلاميذ مجموعة من المهارات والمعلومات، وإنما تشبعهم بالإضافة إلى ذلك، بقيم المواطنة والديموقراطية وحقوق الإنسان، وتنمي لديهم الإحساس بالمسؤولية، وحب العمل الجماعي، وقبول الاختلاف، والتعايش مع الآخر، وتغذيهم بقيم التسامح، ونبذ العنف والإقصاء، والاعتدال وعدم التطرف، وأخذ المعرفة على أساس النسبية، وتعود التلاميذ على المناقشة والتحليل، واستعمال الفكر، والاحتكام إلى العقل في الاستنتاج، والتمرس بالتعبير عن الرأي، في إطار الحوار المنتج، وتحفزهم على الابتكار والمبادرة الشخصية، وتؤهلهم لولوج عالم المعرفة من أوسع أبوابها، والانفتاح على القيم الإنسانية الكونية.
ولا يمكن تحقيق كل ذلك عن طريق مادة دراسية ضمن برامج التعليم، وإنما يتم ذلك عبر مناهج وطرق التلقين في مختلف المواد، ومن خلال أسلوب تعامل المعلمين والأساتذة والمؤطرين مع التلاميذ، وبمشاركة هؤلاء في اختيار نظام تسيير القسم الدراسي، وتسيير المؤسسة التعليمية بصفة عامة، وذلك بواسطة ممثلين يختارونهم بطريقة ديموقراطية؛ وعندما تتوفر المدرسة بكل الشروط والمواصفات المذكورة، يمكن أن نطلق عليها: (المدرسة المواطنة).
وفي المغرب يلاحظ خلال السنوات الأخيرة، أنه من الناحية النظرية، أصبح موضوع التربية على المواطنة غير غائب عن الاهتمامات الرسمية، ويتجلى ذلك من خلال بعض الخطب الملكية، وبرنامج التربية على حقوق الإنسان بالتعليمين الأساسي والثانوي، وميثاق برلمان الطفل الذي حدد من ضمن أهدافه «التربية على الديموقراطية والمواطنة والتسامح» (11) غير أنه من خلال الواقع الذي تعرفه بلادنا وغيرها من البلدان التي ما زالت تعاني من التخلف، يبدو أن هناك مسافة غير قصيرة ما زالت تفصلنا عن إقامة المدرسة المواطنة، بالشروط والمضامين المبينة أعلاه، لتصبح أبوابها مفتوحة أمام جميع أبناء الوطن دون أي ميز، مع خلق مناخ ثقافي وإعلامي واجتماعي ملائم للتربية على المواطنة، ولا يمكن اجتياز هذه المسافة ببساطة، وإنما تحتاج إلى إرادة قوية وجهد كبير، يرتبط بشكل وثيق بالعمل على إقامة مجتمع ديموقراطي حقيقي.
ـــــــــــــ
هوامش:
1) معجم مصطلحات التربية على المواطنة الديموقراطية، عن موقع المجلس الأوربي في شبكة الأنترنيت.
2) أنظر أحمد صدقي الدجاني، مسلمون ومسيحيون في الحضارة العربية الإسلامية، القاهرة، مركز يافا للدراسات والأبحاث، 1999، ص 96.
3) علي خليفة الكواري، دراسة حول مفهوم المواطنة في الدولة الديموقراطية، العدد 30 من سلسلة كتب المستقبل العربي حول الديموقراطية والتنمية الديموقراطية في الوطن العربي، بيروت 2004 ص 93.
4) Luc Ferry et Alain Renaut, philosophie politique de droits de l’homme à l’idée républicaine, P.U.F.1985, p :87.
5) م.س. ص 94,
6) الفصل الخامس من دستور المغرب (1996).
4) المادة 3 من الدستور الإيطالي.
5) Dominique Bolliet, L’éducation à la citoyenneté,
(http://www.2.ac-Lyon.fr/enseigne/ses/ecjs/educ-blliet.html.
6) http://www.edu-int.org/2003-09-fr.
7) المكتب الدولي للتربية – B.I.E. –http://www.ibe.unesco.org
8) الفقرة 3 من ميثاق برلمان الطفل.