منذ الحادي عشر من سبتمبر 2001م الماضي والعالم يعُجُّ بمتغيراتٍ سريعةِ الوقع، سريعةِ التشكيل، سريعةِ التحضير؛ بدءًا من أكبرِ تحالفٍ دولي إلى أصغرِ عصابةٍ من رجال مسلحين، وكلُّها مُتغيراتٌ تسبحُ باتجاهٍ واحد: من الغرب ضد الشرق، من حضارة غربية ضد حضارة شرقية…
ربما يكون من المُجدي أن نعودَ بالذاكرة إلى عام 1993م عندما كتب صامويل هنتينغتون مقالهُ المُؤطِّر لفكرة “صدام الحضارات”، مباشرةً بعد إعلان انتهاء الحرب الباردة مع الاتحاد الروسي وحلفائه التقليديين، فكان هنتينغتون مُنظّرًا للُعبةِ “علاءِ الدِّين” الذي سيقود “الماردَ”: أسيرَ قُمقُمِ المِصباحِ السِّحري؛ فصارَ الغربُ يستثمرُ القصة ويلعبُ دورَ “علاء الدين” مع المارد: (=”العالم” الإسلامي) أسيرَ قُمقُمِ الجَهلِ والتَخلُّف والتبعيةِ والوعودِ المُزيَّفةِ؛ يُنفذُ وعودَ السيد من حيث يَدري أو لا يَدري!! وإذا كانت حكايةُ علاء الدين والماردِ خياليةً فإن حكايةَ صراعِ الغرب والشرق ليست خيالية؛ بل جذورها مُرتويةٌ بالدماء والأحقادِ والتآمراتِ والخياناتِ والزيفِ والخداع؛ لذا لن يَغيبَ عن بالِ الغَربِ (=”علاء” الدين) أن يَرعَى قُمقُمَ العالم الإسلامي (=”المارد”)، ويزيدَ من تحصيناتهِ لئلا ينفجرَ في لحظة غفلةٍ قد تأتي على حياةٍ علاءِ الدين نفسِه!!
وصاموئيل هنتينغتون مَهَّد للخوف الفكري من الإسلام وحامليه إلى العالم (=”العرب”)، وهو في نظريته يُرجعُ أساسَ الخوفِ منَ الإسلامِ إلى أمرَين:
الأولِ تاريخيٌّ؛ ويتعلق بتاريخ الصراع بين الجارين المتقابلين على طول البحر المتوسط. والثاني ـ وهو الأهم ـ يتمثل في نهضة وتصاعد “الأصولية الإسلامية”، التي لا تعجبها القِيَم الغربية بكل ما تتبهرج به لأعين سكان الأرض اليوم، بل إنهم الأقدر ـ بما لديهم من قيم روحية وأخلاقية ـ على كشف زيوفها، وعليه فهذه الحركة الأصولية في نظر الغرب تكره حضارتهم!!
لم يقف هنتينغتون ولا بيدهام الأمريكيان عند هذا الحد، بل راحا يغوصان إلى جوانب تحمل مظاهر خوف محتملة أكبر بالنسبة للغرب، ويُوحيان إليه أنه ليس في أمان؛ لأن “القمقم” ليس مُحكم الإغلاق، والمارد كثير التململ والحركة بداخله، فتعداد المسلمين في ازدياد ويُغَطّون مساحات شاسعة وهم واسعوا الإمكانات والطاقات، ولهم تجربة تاريخية مميزة، كما أنهم لم يتجاوبوا لمحاولات الامتزاج والذوبان، وهم صنف يستعصي على الغرب حتى وهم بين ظهرانيهم في المهجر؛ بهذه المعطيات هم قادرون ـ دون غيرهم ـ على قلب موازين القوى في أي لحظة!!
في مقابل هذا الاتجاه الصدامي، وقف مفكر فيلسوف آخر وحده لينظّر مفهوما مقابلا هو “الحوار” بدلا من “الصدام”، ذلك هو الفيلسوف روجيه جارودي الفرنسي، الذي دعا في كتابه “حوار الحضارات” إلى قبول الآخر من منظور “إنساني”، لأنه وُجد في الأرض للنفع والتحاور لا للضرر والتصادم.. لكن فكره وفلسفته ضاعا اليوم في دخان “القمقم” المنبعث وغبار “علاء الدين” المتصاعد!!
بعد الحادي عشر من سبتمبر نجد أنفسنا أمام حركة عالمية جديدة، ونظام أرضي يولد للتو، سبقته إرهاصات وتنبؤات وأفكار وخيالات ومخططات، كلها .. كلها لا تخرج عن محيط “الإنسان” و”حضارته”.. وهما موضوعان لطالما أغفل دراستهما العالم العربي والإسلامي، دون أن ننكر بعض المحاولات الفردية غير المدعومة، في حين كان الغرب يوليهما أهمية قصوى على مستوى المؤسسات والهيئات المدعومة حكوميا وأهليا؛ ليستفيد منهما في كل ميدان يخوضه..
“الإنسان” و”الحضارة” هما موضوع علم واحد، هو علم الأنثروبولوجيا (=”الأنسنة):” أخطر علم اجتماعي على وجه الأرض اليوم، ولكن.. ماذا نعرف عنه؟ وهل استغلته السياسات العربية في تحركاتها في صراع مفروض عليها العمدة فيه سلاح الثقافة والفكر، أم كان حاله كحال الصناعات العربية والمعارك العربية والاستنكارات العربية و.. و.. و.. العربية؟
يقول محمد الحداد: “يعتبر علم الأنثروبولوجيا من أحدث فروع العلوم الاجتماعية التي تطوّرت في القرن العشرين الميلادي وأخذت مكانها بين العلوم الاجتماعية الأخرى؛ نتيجة لتقدّم أساليب البحث والدراسة، ولزيادة الاهتمام بهذا التخصص في العالم بشكل عام وفي الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وفرنسا بشكل خاص. لقد جذب هذا التخصصُ الجديدُ منذ نشأته اهتمامَ الكثير من الدّارسين والباحثين المهتمين بدراسة مجتمعات العالم الثالث والتغيراتِ التي تطرأ عليه، فأقبلوا عليه يدرسون موضوعاته ويحددون أبعاده.. وكان لجهودهم الرائدة في ذلك أثر كبير في إرساء دعائمه وبلورة مفاهيمه وتعميق أصوله..”.
“مما يزيد في أهمية الأنثروبولوجيا في الوقت الحاضر، أن الاتجاه نحو دراسة التغيرات الاجتماعية والثقافية في مجتمعات العالم الثالث، قد بلغ من الشمول حدا كبيرا، فالدول النامية تحاول أن تطوي مسافة التخلف بينها وبين المجتمعات المتقدمة، إلا أنها لا تستطيع ذلك إلا من خلال فهمٍ متكاملٍ لطبيعة الحياة الاجتماعية والثقافية للمجتمع، وهذا الفهم المتكامل لا يتم إلا من خلال الاستعانة بالدراسات الأنثروبولوجية بالإضافة إلى بقية التخصصات الاجتماعية الأخرى”.
* الأنثروبولوجيا وعلاقته بالاستشراف والاستعمار:
هذا المفهوم ـ على ما فيه من ملاحظات موضوعية من حيث الهدف والمضمون ـ هو ما يُدرّس في أغلب الجامعات العربية، إن لم نقل كلها دون استثناء، لأجيال المجتمعات العربية والإسلامية (النامية)!! .. وليس عيبا أن نراجع مناهج تعليمنا وأطروحاتها الأيدلوجية، بل العيب أن نبقي على حالة الاجترار وتعبية الفراغ الثقافي بعلوم لم تُفصّل على قياسنا، إن ما يُذكر في كتبنا الأكاديمية عن هذا العلم على غير حقيقته الواقعية؛ إذ بات من المعلوم في الأدبيات وثيقةِ الصلة أن علم الأنثروبولوجيا هو امتداد مُحسّن وراثيا من (الاستشراق) و(التبشير)، اللذين كانا يصُبَّان في مصلحة (الاستعمار)، وهذا الأخير ـ بمفهومه الكلاسيكي ـ لعب دورا مهما في تطوير واستغلال الدراسات الأنثروبولوجية الأولية، خاصة تلك التي أجريت على بلاد العالم الثالث المستعمَرة؛ وتحديدا خلال الفترة التي امتدت من أوائل القرن الماضي العشرين وحتى قبيل الحرب العالمية الثانية، إلا أن المسار قد تحدد بجلاء وتوجّه إلى التخصص الأكاديمي الذي يصُبّ في مصلحة القوى المستعمِرة من مطالع الخمسينيات..
فعلى صعيد الحركات التبشيرية، خاصة حين انكشف للأعين الدور البارز للمنظمات التبشيرية العاملة باسم دولها داخل الجيب المستعمَر، إذ بزوال القوات المستعمِرة، بدأت الدول المستقلة حركةً ترمي إلى التخلص من هذه الأعين التي عليها، ومن ساعتها بدأت المنظمات التبشيرية تتوجس خِيفةً على مكانتها أمام ساسة دولها، فكان الاتفاق على الانتقال من مرحلة الإرساليات المتعددة إلى الإرساليات المُوَحَّدة، على حد عبارة مؤلف كتاب: من الإرساليات إلى الإرسالية (From Missions to Mission, by: Pierce Beaver)، بمعنى: وجوب قيام اتجاه واحد في التبشير بدلا من اتجاهاتٍ كثيرة مختلفة متعادية، وخلاصة آراء هذا الاتجاه هي: نقل ساحة الصراع من تحت سيطرة السلاح إلى سيطرة العقل والحوار، ومن هنا بدأت فكرة ما يُسمى (حوار الأديان) التي تطورت هي بدورها في مشروع صدام الحضارات تحت الضغط الصهيوني؛ فبعد أن صعب على المنصرين أن يتَّصلوا بالناس، وخصوصا بالمثقفين وذوي المكانة الاجتماعية، لجأوا إلى هذه الحيلة التي تقوم على نَفَرٍ مُدَرَّبٍ من المثقفين ذوي الكلمة المؤثرة في الجماهير يُجابِهون أناسا من قوميات مختلفة في مناقشات عَلَنية ـ بأي وسيلة إعلامية كانت ـ لا تَمُتُّ بظاهرها إلى المسيحية، بل غايتها الحقيقية زعزعة العقائد بِجَرِّ الناس إلى القول والرد، ثم النفوذِ من خلال الأخطاء والجمل المتشابهة إلى التأثير على ذوي النفوذ والدراية السطحية، وصولا إلى أصحاب القرار السياسي الذي يتحكم في مصائر الشعوب ..
إن الحوار بين المبشرين وأتباع الديانات الأخرى، وبخاصة المسلمون ثم اليهود، أمر ليس بالجديد، لكن الحادث في المرحلتين اللاحقتين أبعدُ وأخطرُ أثرا .. فالمرحلة الأولى (=”أيام” الاستعمار الكلاسيكي)، كان الحوار كالمعاهدات؛ يظفر بالغنائم فيها من كان أقوى يدا وأرفع صوتا، أما في المرحلة الثانية (=”ما” بعد الاستقلال)، فإن الأثر أصبح أضعافا مضاعفة لأمرين:
الأول: أن الاستعمار الكلاسيكي عندما خرج، فرّخ أنظمة وأدوات موالية عملت على تذويب باقي الروابط التي تشكل الهوية العربية أو الإسلامية بين هذه الشعوب وبين معتقداتها؛ إما عن طريق مسخ اللغة والثقافة، أو عن طريق إشباع الغرائز البهيمية لينصرفوا عن قضيتهم الأم، أو عن طريق لقمة العيش، أو بالحديد والنار؛ وشعبٌ هذا حاله لن يكون بمقدوره أن يُعزّز الجانب العلمي أو الثقافي: سلاحَه الذي يقاتل به في المرحلة القادمة .. هذا من جانب المُحَاوَر..
الثاني: وبالمقابل، كان الجانب الآخر في الصدام (=”المُحاوِر)” يستعد بكل ما أوتي من قوة وفّرته له جيوش قديمة من المستشرقين، ثم المبشرين، ثم المستعمرين، فضلا عن دراسته الأكاديمية المنظمة ـ بالمعطيات التي استجمعها المذكورون له سلفا ـ عن كل ما يتعلق بهذا الشعب؛ بَدأ من تاريخه السحيق في القدم ووصولا إلى لسانه وثقافته، فيتجابه الاثنان بأسلحة غير متكافئة .. والنتيجة الحتمية لابد أن تكون واضحة أمامنا بهذه المظاهر الحسية المعرفية .. هذا على صعيد حركة التبشير ..
وعلى صعيد الاستشراق كمادة علمية (=”أكاديمية”)؛ فإن الموضوع قديم جديد؛ إذ كان الاستشراق موجودا ومزاولا منذ أكثر من ألف عام إبّان الحضارة الإسلامية في العراق والأندلس وتركيا، وكان المصطلح في ذاته متذبذب المفهوم غير أن (المُنتِج) و(الموضوع) و(المقصود) و(أشكال المعرفة) معلومة واضحة؛ فـ(المنتج) لهذه المعرفة ـ في الغالب ـ غربي غير شرقي، يُضيّق نطاق دراسته ليحصرها في الشرق العربي، أو يوسعها لتشمل دول الجوار.. و(الموضوع) هو الآخر الشرقي ووطنه: فكرا ولسانا ودينا وثقافة ..
و(المقصود) ليس هذا الآخر، الذي هو موضوع هذه المعرفة، فلا شأن له بها، بل أنتجت لتخدم منتِجِها في مواجهته لهذا الآخر؛ في لغة يفهمها، وإطار مرجعي يعقله.. و(أشكال المعرفة) هذه للتصور الغربي متنوعة جدا ويمتد طيفها ولا يقصر، فقد تتخذ: شكل رسالة جامعية ليحصل الباحث بعدها على درجة علمية؛ أو شكل كتاب علمي للمتخصصين في الميدان؛ أو شكل كتاب عام لجمهور الناس؛ أو شكل بحث قصير يشارك به في ندوة أو مجلة مُحكَّمة؛ أو شكل مقالة عامة ترصد أي جانب من جوانب الحياة أو الشخصيات الشرقية؛ أو شكل تقرير صحفي أو إخباري يبث عن طريق وسائل الإعلام المتنوعة؛ أو شكل مذكرة شخصية انطباعية لأي انعطاف حضاري؛ أو شكل يوميات ومشاهدات للمغامرين المكتشفين؛ أو شكل كتاب الرّحَّالات المتخصصين الذين يُدوِّنون غرائب وعجائب العالم؛ أو شكل دليل سياحي مُصوّر عن الشرق؛ أو شكل تحليل سياسي يُقدم لأصحاب القرار، خاصة فيما يتعلق بقضايا الساعة؛ أو أي شكل من أشكال الفن الروائي: كالقصيدة والقصة القصيرة والرواية والمسرحية التي تتناول الشرق وأهله؛ الفيلم الروائي أو السينمائي الذي يجعل الشرق وأهله موضوعا له، أو يستوحي منه الأحداث؛ أو اللوحات الفنية التصويرية، ولغة الصورة ليست بحاجة إلى ترجمة؛ أو شكل الطرفة التي يرويها الغربي عن الشرقي (=”الآخر)؛” أو شكل البناء الهندسي المستوحى من الشرق وأنماطه..
والخلاصة.. مصطلح “الاستشراق”، بمعناه الواسع، كان يشير حتى الحرب العالمية الثانية إلى (توجّه ثقافي محدد) في أوربا وأمريكا الشمالية، وبمعناه الضيّق إلى (الدراسات الشرقية الإسلامية)..
وقد عُقد المؤتمر الدولي الأول للمستشرقين في باريس عام 1873م، وتم تأسيس الاتحاد الدولي للمستشرقين عام 1951م.. لكن مصطلح “مستشرق” و”استشراق” بدأ يخضع لمساءلات جادة ومختلفة في مؤتمر موسكو الدولي للمستشرقين عام 1960م، إلى أن انعقد مؤتمر باريس عام 1973م حيث تم تغيّر اسم المؤتمر نفسه.. ذلك أن الناظرين إلى الشرق من أوربا لم يعد يقتصر على الأوربي الصليبي فقط، بل انخرط في صفوفهم الشرقي نفسه، ولذلك غدا مصطلح “الشرق” وما يلحق به مجازيا أكثر منه حقيقي، فصار الاتجاه السائد مُذّاك اليوم الحديث عن (العلوم الإنسانية) في آسيا وشمالي أفريقيا، والباحثون الاستشراقيون سابقا صاروا يعرفون بثقافتهم التخصصية وبحقلهم المعرفي، وإذا أوغلنا في التخصص لنتعرف دارس الشرق الإسلامي نرى أن المصطلح المتعارف اليوم هو “الدراسات الشرقية”.. ومُحصّلة القول: إن الدراسات الاستشراقية انضوت تحت مسمى الدراسات الإنسانية صائرة إلى فرع منبثق عنها.
* استغلال اليهود هذا العلم في إثبات وجودهم المزعوم في فلسطين:
ولم يقف الأمر عند استغلال القوى الاستعمارية علمَ الأنثروبولوجيا لصالح مطامعها وأهدافها، بل تعداه إلى استغلال قوًى طائفيةٍ طُُفَيليةٍ أخرى هذا العلمَ لإثبات كيانها ووجودها؛ أعني الحركةَ اليهودية العالمية، التي استجمعت قواها ونظّمت صفوفَها من مطالع القرن التاسع عشر بعد وعد نابليون بونابرت لها بوطن قومي على أرض فلسطين عام 1798م، وما إن انتهت التدابير الأولية ووضعُ البروتوكولات المُسَيِّسَة للحركة العالمية الصهيونية، وقيادة الصهيوني النمساوي ثيودور هرتزل لمشروع اليهودية العالمية في اجتماع مدينة بال السويسرية عام 1898م، حتى بدأ الزحف إلى الأرض الموعودة يستتبعه حفزٌ مُماثلٌ على الولوج إلى دراسة واستغلال هذا العلم الخطر التأثير، فضلا عن المكائد والدسائس السياسية والاقتصادية .
إن الدولة العبرية تستمد بقاءها الاستيطاني، ومن ثَم سياستَها الحركيةَ، من معتقدها الروحي، وهذا المعتقد قائم في نفوس اليهودية المتصهينة على ثلاث دعامات أسطورية لاهوتية، وفهمُ هذه الأساطير، يُطلعنا على المحاور الرئيسة الداخلية التي استَخدَمَت فيها الحركةُ اليهوديةُ والصهيونيةُ علمَ الأنثروبولوجيا في تراثها القديم وتاريخها الحديث كما سنرى لاحقا، والأساطير اللاهوتية الثلاث هي:
الأسطورة الأولى: الوعد الأبوي (=”وعدُ” إبراهيم)، ودليلها من سفر التكوين “سأعطي نسلك هذه الأرض من وادي العريش إلى النهر الكبير؛ نهر الفرات” [إصحاح/15]، الأسطورة الثانية: شعب الله المختار، ودليلها من سفر الخروج “، ثم قل لفرعون: هذا ما يقول الرب: إسرائيل هو ابني البكر، قلت لك: أطلق ابني ليعبدني، ولكنك رفضت إطلاقه، لذلك سأهلك ابنك البكر” [ إصحاح/4]. الأسطورة الثالثة: التطهير العرقي، ودليلها من سفر يشوع “واستولوا عليها ودمروها مع بقية ضواحيها التابعة لها، وقتلوا ملكها وكل نفس فيها بحد السيف، فلم يُفلت منها ناجٍ، على غرار ما فعلوا بعجلون، وهكذا قضوا على كل نفس فيها”، ويشوع هذا هو غلام موسى عليه السلام [ إصحاح/10].
وعلى هذا الأساس، راحت تنصب الدراسات الأنثروبولوجية (اليهودية) بفروعها، مُثبتةً أن اليهود هم الشعب الأصلي للأرض الموعودة (=”فلسطين”)، وأكبر مِثال على ذلك مواصلتهم حفر أساسات المسجد الأقصى بحثا عن الهيكل المزعوم، وتجنيدُهم كل الطاقات لإثبات زعمهم، بل ذهبوا إلى ما هو أبعد من ذلك حين استغلوا نظرية داروين في (أصل الأنواع)، لإثبات أن السلالة اليهودية هي الوحيدة على وجه الأرض التي تعود إلى آدم (=”الإنسان” الأول)، وهذا يعني بالضرورة أنهم خارج نطاق النظرية وتطبيقاتها بخلاف سائر البشرية (=”المخلوقات” الشبيهة) التي تنطبق عليها نظرية داروين في النشوء والتطور، بل إنهم استغلوا هذا العلم أيضا في ميدان الأبحاث الجينية (=”علم” الفصائل الدموية والتركيب الجيني) لشعوب ما يعرف بالشرق الأوسط، حيث أُجرِيَت في العام الماضي (2000م) دراسة جينية للكروموزوم (Y) الذكري على شرائحَ واسعةٍ من يهود العالم وشرائحَ أخرى مقابلة من عرب الهلال الخصيب (اللبنانيون والفلسطينيون والسوريون والأردنيون إضافة إلى العراقيين)، ونشرت جريدة الشرق الأوسط [عددها 7849 بتاريخ 25/5/2000] نتائج هذه الدراسة التي أثبتت أن اليهودَ والعربَ من نسل واحد.
وقد أحدثت هذه الدراسة ضجة واسعة بسبب الرواج الكبير الذي تزامن ونتائجها، خاصة من قبل اليهود وأجهزتهم الإعلامية.. وليس الهدف هنا التطرق إلى تفاصيل هذه التجربة بقدر ما أريد التركيز على الدور الفاعل الذي يمثله هذا العلم في تغيير قناعات الشعوب إن بالحق أو الباطل.. وهذا يُفسّر لنا عدم خلو الدولة العبرية اليوم من مركز دراسات أو كلية مُلحقة بجامعاتها الخمس تُعنَى بعلم الأنثروبولوجيا، أو أيِّ فرع تابع له على أقل تقدير.
* باحث أنثروبولوجي من الجزائر/ مجلة “العصر”