تمهيد:
إن تفعيل دور مصر العربي الاسلامى، يتوقف على جعل العلاقة بين دور مصر الخاص(الوطني) ودورها العام (القومي، الديني) علاقة تحديد وتكامل، والعكس صحيح، اى أن تعطيل هذا الدور مرتبط بجعل العلاقة بين دور مصر الخاص والعام علاقة تناقض وإلغاء. وبناء على هذا فان المواقف التي تجعل العلاقة بين دور مصر الخاص ودورها العام علاقة تناقض وإلغاء، يلزم منها ”موضوعيا وبصرف النظر عن النوايا الذاتية لأصحابها” تعطيل دور مصر العربي الاسلامى، كما أن المواقف التي تجعل العلاقة بين دور مصر الخاص ودورها العام علاقة تحديد وتكامل يلزم منها تفعيل دور مصر العربي الاسلامى:
اولا: المواقف التي يلزم منها تعطيل دور مصر العربى الاسلامى:
موقف إلغاء الدور العام (العربي الاسلامى) “التعدد المطلق “: من المواقف التي تجعل العلاقة بين دور مصر الخاص ودورها العام، علاقة تناقض وإلغاء، وبالتالي يلزم منها تعطيل دور مصر العربي الاسلامى، الموقف الذي يؤكد على دور مصر الخاص ”الوطني“، لكنه يتطرف في هذا التأكيد لدرجه إلغاء دورها العام ”العربي الاسلامى“، وهو يستند إلى مذهب التعدد المطلق الذي يستند إلى فكره مضمونها – على المستوى الاجتماعي- محاوله تحويل الجزء(الوجود الخاص ” الوطني”) إلى كل قائم بذاته ومستقل عن غيره، كما أن مضمونها – على المستوى الفردي- أن تقرير علاقة الانتماء إلى الوجود الخاص، يقتضى إلغاء علاقات الانتماء الأخرى بما فيها علاقات الانتماء إلى الوجود العام (القومي أو الديني ..)، فهذا المذهب يستند إلى أساس شعوبي، ينكر تحويل الإسلام للوجود الحضاري الشعوبي المصري، إلى جزء من الوجود الحضاري العربي الاسلامى، يحده فيكمله ويغنيه ولكن لا يلغيه.
مذاهب مناهضه الانتماء العربي الاسلامى: على المستوى النظري نجد أن هذا الموقف يتمثل في العديد من المذاهب التي تناهض علاقات الانتماء العربية الاسلاميه لمصر، بعلاقات انتماء أخرى منها :علاقة الانتماء التاريخية الشعوبية “الفرعونية“، أو علاقة الانتماء الاقليميه الجغرافية “المتوسطية”، أو علاقة الانتماء العالمية “الامميه“، أو حتى علاقة الانتماء النخبوية اللغوية- الثقافية – “الفرانكفونية”.
التطبيع: وعلى المستوى الواقعي يمثل توقيع الرئيس أنور السادات اتفاقيات كامب ديفيد مع إسرائيل، تطبيقا عمليا لهذا الموقف الذى يلغى دور مصر العام “العربي”، لأنه باعترافه بإسرائيل- بتوقيعه لهذه الاتفاقيات – انحاز الى الصهيونية ضد العرب.
موقف الغاء الدور الخاص(الوطني) “الوحدة المطلقة”: ومن المواقف التي تجعل العلاقة بين دور مصر الخاص ودورها العام، علاقة تناقض وإلغاء، وبالتالي يلزم منها تعطيل دور مصر العربي الاسلامى، الموقف الذي يؤكد على دور مصر العام “القومي أو الديني أو العالمي…”، لكنه يتطرف في هذا التأكيد لدرجه إلغاء دورها الخاص”الوطني”، وهو يستند في ذلك إلى مذهب الوحدة المطلقة الذي يستند إلى فكره مضمونها – على المستوى الاجتماعي- أن الوجود العام يلغى الوجود الخاص، وبالتالي فان تقريره لوجود عام معين( قومي أو ديني أو عالمي…)، يترتب عليه إلغاء الوجود الخاص(الوطني)، كما أن مضمونها – على المستوى الفردي- أن تقرير علاقة الانتماء إلى هذا الوجود العام المعين،يقتضى إلغاء علاقات الانتماء الأخرى بما فيها علاقة الانتماء إلى هذا الوجود الخاص(الوحدة المطلقة).
مذهب مناهضه الانتماء الوطنى والقومي بالانتماء الديني: وعلى المستوى النظري فانه يلزم – منطقيا – من مذهب ” مناهضه الانتماء الوطني والقومي بالانتماء الديني” تعطيل دور مصر العربى الاسلامى” بصرف النظر عن النوايا الذاتية لأصحابه ”، لأنه يجعل العلاقة بين دور مصر الخاص (الوطني) والعام (الديني – الاسلامى) علاقة تناقض وإلغاء، لان هذا المذهب يستند الى افتراض خاطئ مضمونه أن تقرير علاقة الانتماء الإسلامية يقتضى إلغاء علاقات الانتماء الأخرى بما فيها علاقة الانتماء الوطنية… وهذا المذهب يستند إلى مذهب إنكار وحدات وأطوار التكوين الاجتماعي، وبالتالي يتعارض مع حقيقة إقرار الإسلام كدين لوحدات وأطوار التكوين الاجتماعي المتعددة وهى :الأسرة كما في قوله تعالى ﴿وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة﴾، وقوله تعالى ﴿ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة﴾.والعشيرة كما فى قوله تعالى ﴿وانذر عشيرتك الأقربين﴾ .والقبيلة والشعب كما فى قوله تعالى (وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا . والامه التي مناط الانتماء اليها هو اللسان وليس النسب لقول الرسول (صلى لله عليه وسلم)(ليست العربية بأحد من أب ولا أم إنما هي اللسان فمن تكلم العربية فهو عربي)، كما تتميز باستقرار الجماعات في الأرض، فتكون ديارها، قال تعالى ﴿أنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومني تولهم فأولئك هم الظالمون﴾ (الممتحنة:9) . كما أن مذهب إنكار وحدات وأطوار التكوين الاجتماعي يتعارض مع إقرار الإسلام كدين لعلاقات الانتماء إلى وحدات وأطوار التكوين الاجتماعي (كعلاقات الانتماء : الاسريه، والعشائرية والقبلية والوطنية والقومية …) ومن أدله ذلك : قال تعالى (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ )(الزخرف : 44)، وفى السنة النبوية وردت العديد من الأحاديث التي تشير إلى إقرار علاقات الانتماء المتعددة ما لم تقم على التعصب أو يترتب على الإقرار بها إثم: ورد في الحديث سأل واثلة قال: (يا رسول الله أمن العصبية أن يحب الرجل قومه) قال (لا ولكن من العصبية أن ينصر الرجل قومه على الظلم) (رواه أبن ماجه والإمام أحمد). وقال الرسول (صلى الله عليه وسلم) (اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا لمكة أو أشد) (رواه البخاري ومالك في الموطأ والإمام أحمد), كما اقر علماء الإسلام- استنادا إلى النصوص- علاقة الانتماء الوطنية” كعلاقة انتماء إلى وطن”،على وجه لا يتناقض مع اقرارعلاقة الانتماء الاسلاميه ” كعلاقة انتماء إلى دين، ففي معرض شرح الحديث:عن انس بن مالك (رضي الله تعالى عنه) قال (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أقدم من سفر فأبصر درجات المدينة أوضع ناقته أي أسرع بها وإذا كانت دابة حركها من حبها) (أخرجه البخاري)، قال ابن عبد البر (وفيه بيان ما عليه أكثر الناس من حنينهم إلى أوطانهم، وتلهفهم على فراق بلدانهم التي كان مولدهم بها ومنشأهم فيها)(الاستذكار)،وقال ابن حجر في الفتح والعيني في عمدة القارئ ( فيه دلاله على فضل المدينة وعلى مشروعية حب الوطن والحنين إليه). و يقرر الإمام حسن البنا علاقات الانتماء الوطنية والقومية، بجانب إقراره لعلاقة الانتماء الاسلاميه،حيث يقول (من أول يوم ارتفع صوت الإخوان هاتفا بتحية الجامعة الإسلامية، أن الإخوة الإسلامية إلى جانب الرابطة القومية والحقوق الوطنية، وكان الأخوان يرون أن الدنيا إلى التكتل والتجمع، وان عصر الوحدات الصغيرة والدويلات المتناثرة قد زال وأوشك، وكان الأخوان يشعرون بأنه ليس في الدنيا جامعة اقوي ولا اقرب من جامعة تجمع العربي بالعربي، فاللغة واحدة والأرض واحدة والآمال واحدة والتاريخ واحد) (نقلا عن بيومي، إلاخوان المسلمين والجماعات إلاسلامية في الحياة السياسية المصرية، ص161-162)) ويقول الإمام البنا أيضا (أن تمسكنا بالقومية العربية يجعلنا أمة تمتد حدودها من المحيط للخليج بل لأبعد من ذلك … أن من يحاول سلخ قطر عربي من الجسم العام للأمة العربية، فإنه يعين الخصوم الغاصبين على خفض شوكة وطنة وإضعاف قوة بلاده،و يصوب معهم رصاصة إلى مقتل، هذه الأوطان المتحدة في قوميتها ولغتها ودينه وآدابها ومشعرها ومطامحها) (حسن عشماوي، قلب آخر لأجل الزعيم، ص 25)، ومن النصوص السابقة يتضح لنا خطاْ القول بان الإمام حسن البنا رتب على إقرار بالوجود العام ” الديني – الاسلامى” لمصر، إلغاء وجودها العام “القومي – العربي ” أو وجودها الخاص “الوطني”، وبناء على هذا فانه لا يجوز أن ينسب إلى الإمام حسن البنا الموقف السابق ذكره، والذي يرتب على الإقرار بالدور العام (الديني – الاسلامى) لمصر، إلغاء دورها الخاص (الوطني) إلى الإمام حسن البنا، وان جاز نسبه هذا الموقف إلى قطاع من المنتمين إلى جماعه الإخوان المسلمين، ظهر في مراحل تاليه لوفاه الإمام المؤسس، يرى أن السعي لتحقيق “الوحدة الاسلاميه”، او العمل على اقامه “الخلافة”، او حتى الانتماء إلى جماعه الإخوان المسلمين، يلزم منه إلغاء الوجود الخاص لمصر، وإلغاء علاقة الانتماء إليه، وبالتالي إلغاء دورها الخاص (الوطني).
الاستعمار: وعلى المستوى الواقعي فان الاستعمار بأشكاله المتعددة (كالاستعمار القديم القائم على الاحتلال العسكري، والاستعمار الجديد ”الامبريالي” القائم على التبعية ألاقتصاديه) يلغى فعليا دور مصر الخاص (الوطني) والعام (العربي والاسلامى)، لتصبح مجرد أداه تؤدى الدور الذى يريده المستعمر، وهو ما حدث خلال فتره الاستعمار البريطانى لمصر منذ عام 1882 والى قيام ثوره 23 يوليو 1952، حيث أصبحت مصر واقعيا ـ لا رسميا – اداة تؤدى بها بريطانيا الدور الذي تريده في العالم العربي أو فى تأمين مواصلاتها إلى مستعمراتها فيما يلي العالم العربي شرقا.
ثانيا:الموقف الذى يلزم منه تفعيل دور مصر العربي الاسلامى:
موقف تكامل الدور الخاص(الوطني )والعام(العربي الاسلامى )”الوحده والتعدد” : أما الموقف الذى يلزم منه تفعيل دور مصر العربي الاسلامى فهو الموقف الذي يجعل العلاقة بين دور مصر العام (العربي، الاسلامى.) ودورها الخاص (الوطني) علاقة تحديد وتكامل، وليست علاقة إلغاء وتناقض، اى يجعل الأول يحد كما يحد الكل الجزء فيكمله ويغنيه ولكن لا يلغيه. ويستند هذا الموقف الى مذهب الوحدة والتعدد الذي يستند إلى فكره مضمونها – على المستوى الاجتماعي- أن الوجود العام لا يلغى الوجود الخاص بل يحده فيكمله و يغنيه. كما أن مضمونها -على المستوى الفردي – أن العلاقة بين علاقات الانتماء المتعددة إلى الوجود الخاص والعام هي علاقة تحديد وتكامل وليست علاقة إلغاء وتناقض.
مصر جزء فى موقع القلب من الامه العربيه الاسلاميه : هذا الموقف يستند الى حقيقة موضوعيه غير متوقفة – وجودا او عدما – على وعى أو اراده احد، هي أن مصر بعد الفتح العربي الاسلامى أصبحت جزءا فى موقع القلب من الامه العربية الاسلاميه . وطبقا لهذه الحقيقة الموضوعية فان مصر هى القاعدة لاية تعبئة، و القائدة لاية مسيرة، و الرائدة لأية نهضة للامه العربية الاسلاميه، وانه حينما تكف مصر عن أداء دور الجزء فى موقع القلب من الأمة العربية المسلمة تتقلص الى حد الشلل مقدرة بقية الأجزاء عن أداء أدوارها، فتتقلص الى حد الشلل مقدرة مصر ذاتها على أن تؤدى الدور الذي اختارته (دكتور/ عصمت سيف الدولة/ المحددات الموضوعية لدور مصر فى الوطن العربي)
وهذه الحقيقة الموضوعية تؤكدها الجغرافيا والتاريخ والدين:
أولا: الجغرافيا: حيث ان اقليم مصر يتوسط جغرافيا الامه العربية المسلمة، ويربط بين جناحيها الافريقى والاسيوى.
ثانيا: التاريخ: كما ان التاريخ يخبرنا ان دور مصر سيتغير نوعيا ابتداء من الفتح العربي الاسلامى، فتصبح جزء فى موقع القلب من الدولة العربية الإسلامية، فطالما كانت القيادة المركزية فى دمشق أو فى بغداد قادرة على الدفاع عن حدود الدولة المشتركة كانت مصر تؤدى دور الشريك فى الدفاع عن هذه الدولة المشتركة، أما حين تضعف السلطة المركزية، فقد كانت مصر تعود الى دورها الدفاعى، موحده مع أكثر من قطر عربى آخر ومع سورية على الدوام، وليست منفردة بذاتها كما كانت قبل الفتح العربى الاسلامى.
ثالثا: الدين:
فقد ورد ذكر مصر فى القرآن الكريم في اكثر من عشرين موضعًا، منها ما هو صريح؛ كما في قوله تعالى: ﴿ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ ﴾ [البقرة: 61]، وقوله تعالى: ﴿وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا﴾ [يوسف: 21]، ومنها ما غير مباشر كما في قوله تعالى: ﴿قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ ﴾ [يوسف: 55].
وأوصى الرسول (صلى الله عليه وسلم) المسلمين بمصر وأهلها، فقد روى مسلم في صحيحه عن أبي ذر قال: قال رسول الله “صلى الله عليه وسلم”(إنكم ستفتحون أرضا يذكر فيها القيراط، فاستوصوا بأهلها خيرا، فإن لهم ذمة ورحما).
كما قرر الكثير من العلماء فضل مصر، ورد فى كتاب ” فضل مصر المحروسة” لأبن الكندى، تحت عنوان ” فضل مصر على غيرها” فأقول: فضل الله مصر على سائر البلدان، كما فضل بعض الناس على بعض والأيام والليالي بعضها على بعض، والفضل على ضربين: في دين أو دنيا، أو فيهما جميعا.. فإن ثرب علينا مثرب بذكر الحرمين، أو شنع مشنع، فللحرمين فضلهما الذي لا يدفع، وما خصهما الله به مما لا ينكر من موضع بيته الحرام، وقبر نبيه عليه الصلاة والسلام، وليس ما فضلهما الله به بباخس فضل مصر ولا بناقص منزلتها، وإن منافعها في الحرمين لبينة لأنها تميرهما بطعامها وخصبها وكسوتها وسائر مرافقها، فلها بذلك فضل كبير)
كما ورد في أقوال العلماء ما يفيد بطرق شتى أن مصر هي قلب الامه العربية الاسلاميه:
يقول الإمام ابن تيميه (لا يقوم الإسلام إلا بمصر والشام، ولا يموت الإسلام الا بموت مصر والشام).
وورد في كتاب” فضل مصر المحروسة” لأبن الكندي(وجعلها الله تعالى متوسطة الدنيا) .
وذكَر ابن عساكر في مقدِّمة تاريخه عن أبي بصرة الغِفاري أنه قال: “مصر خزائن الأرض كلها، وسُلطانها سلطان الأرض كلها، ألا ترى إلى قول يوسف: ﴿ قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ﴾ [يوسف: 55.
وقال سعيد بن أبي هلال( مصر أم البلاد، وغوث العباد).
وقال عمرو بن العاص(ولاية مصر جامعة، تعدل الخلافة).
وروى عن شفي بن عبيد الأصبحي، أنه قال(مصر بلدة معافاة من الفتن لا يريدهم أحد بسوء إلا صرعه الله، ولا يريد أحد هلكهم إلا أهلكه الله.)
(مـنـقـول من كتاب فضائل مصر المحروسة لأبن الكندى)
تفسير مقوله “مصر قلب الامه“: هذا الموقف بفسرمقوله ” ان مصر هى قلب الامه العربية المسلمة” – بعد تأكيده لصحتها_ بان هناك تاثير متبادل بين مصر كجزء من كل هو الامه العربية المسلمة، وباقى أجزاء الامه، فالقلب كعضو بالجسم لا حياه له، الا من خلال دوره، قائمه على ورود الدم له من سائر الجسم، وضخه هو للدم الى كل الجسم، ويترتب على هذا ان هذه المقولة تعنى – طبقا لهذا التفسير – ان اى تغيير شامل فى الوطن العربى، لابد ان يمر من خلال مصر، دون أن يعنى هذا انه يجب ان يبداْ فى مصر، كما ان هذا الموقف يرفض تفسير موقف” إلغاء دور مصر العام ” لهذه المقولة، لانه يضع مصر فى موقع التأثير دون التأثر، ويقوم على اعتبارها كل قائم بذاته ومستقبل عن غيره، وأن غاية شرود الجزء من الكل – وهو ما يلزم من هذا التفسير – الفشل والشلل للأجزاء جميعا.
قياده كفاح الامه ضد الاستعمار والصهيونية: وعلى المستوى التطبيقي فان الدور الذي أدته مصر كقاعدة وقائدة ورائدة للامه العربية المسلمة فى كفاحها ضد الاستعمار القديم ” العسكري” والجديد “الاقتصادي/ الامبريالي“، والاستيطاني ”الصهيوني” فى عهد الزعيم جمال عبد الناصر (رحمه الله)، يمثل تطبيقا عمليا للموقف الذي يجعل العلاقة بين دور مصر العام (العربي الاسلامى) والخاص(الوطني)علاقة تحديد تكامل، وليست علاقة إلغاء وتناقض، والذي يستند إلى حقيقة ان مصر هي جزء في موقع القلب من الامه العربية الاسلاميه.
تكامل الدورين العربي و الاسلامى :وهنا نوضح خطا إنكار دور مصر الاسلامى خلال عهد الزعيم جمال عبد الناصر، حيث ان هذا الإنكار يستند الى افتراض خاطئ مضمونه أن جمال عبد الناصر اكد على دور مصر العام (القومي- العربي ) لكنه الغى دورها العام الدينى – الاسلامى )، وهو افتراض خاطئ لأنه يتناقض مع حقيقة أن عبد الناصر اتخذ موقفا ايجابيا من علاقه الانتماء الاسلاميه، على المستويين النظري والتطبيقي :فعلى المستوى يحدد عبد الناصر في كتاب فلسفة الثورة (1953) الدوائر الثلاث التي يرى أن مصر تنتمي إليها،وأن دورها الخارجي يجب أن يتوزع بينها، وهى الدائرة العربية و الدائرة الأفريقية و الدائرة الإسلامية، . اما على المستوى التطبيقي فقد اتخذ عبد الناصر موقفا ايجابيا من علاقة الانتماء الاسلاميه تمثل في الكثير من المظاهر أهمها: أنشأ مدينة البعوث الإسلامية التي كان ومازال يدرس فيها عشرات الآلاف من الطلاب المسلمين القادمين من سبعين دولة إسلامية ويقيمون فيها مجانا. وأنشأ منظمة المؤتمر الإسلامي التي جمعت كل الشعوب الإسلامية . وترجمة القرآن الكريم إلى كل لغات العالم . وتسجيل القرآن كاملا على أسطوانات وشرائط للمرة الأولى فى التاريخ و توزيعه مسجلا في كل أنحاء العالم . وتنظيم مسابقات تحفيظ القرآن الكريم على مستوى الجمهورية والعالم العربي والعالم الاسلامى. ووضع موسوعة جمال عبد الناصر للفقه الإسلامي والتي ضمت كل علوم وفقه الدين الحنيف في عشرات المجلدات وتم توزيعها في العالم كله. و افتتاح فروع لجامعة الأزهر فى العديد من الدول الإسلامية،بالاضافه إلى بعثات الأزهر لنشر الإسلام فى أفريقيا وأسيا . ومسانده الدول الإسلامية فى كفاحها ضد الاستعمار (الدين والدولة والثورة: رفعت سيد أحمد، النبي والفرعون: جيل كيبل،المؤامرة ومعركة المصير: سعد جمعة،تقرير مجلس الكنائس العالمي لعام 1974،تقرير الحالة الدينية فى مصر عام1982، الإسلام فى عهد جمال عبد الناصر: عمرو صابح). وهنا يجب الاشاره إلى أن الصراع الذي حدث بين جماعه الأخوان المسلمين – او قطاع منها- وجمال عبد الناصر لا ينفى ما سبق ذكره من موقف ايجابي لعبد الناصر من علاقة الانتماء الاسلاميه لمصر ود ورها الاسلامى، لان هذا الصراع لم يكن صراع ديني بل صراع سياسي، وقد اقر بعض قيادات جماعه الإخوان المسلمين بهذه الحقيقة، يقول د.عبد المنعم أبو الفتوح عضو مكتب إرشاد جماعة الإخوان المسلمين سابقا، في الحلقة الأولى من مذكراته التي حملت عنوان (شاهد على تاريخ الحركة الإسلامية في مصر)، التي قامت بنشرها الشروق (ورغم أن نظرتي تغيرت تماما عن جمال عبد الناصر فلم تصل يوما إلى تكفيره، فقد كنت أرى أنه من الصعب أن نقول إن جمال عبد الناصر كان ضد الإسلام أو عدوا له كما كتب البعض، ومازلت أرى أن الصراع بينه وبين الإخوان كان صراعا سياسيا في الأساس، بدليل أنه استعان بالعديد من رجالهم في بداية الثورة كوزراء مثل الشيخ الباقورى والدكتور عبد العزيز كامل)، هذا الصراع السياسي هو محصله لخلاف فكرى حول قضايا سياسيه عديده منها قضيه العلاقة بين ادوار مصر المتعددة الخاصة والعامة، ففي حين توصل جمال عبد الناصر من خلال التجربة إلى ان الموقف الصحيح من العلاقة بين دور مصر الخاص (الوطني) والعام (العربي الاسلامى ) هو الذي يجعل العلاقة بينهما علاقة تحديد وتكامل، وليست علاقة إلغاء وتناقض، فان قطاع من المنتمين لجماعه الاخوان المسلمين- هو ذات القطاع الذي قاد الصدام مع عبد الناصر – ظهر فى مراحل تاليه لوفاه الإمام المؤسس، رتب على الإقرار بالدور العام (الدينى – الاسلامى) لمصر، الغاء دورها الخاص (الوطني)، فضلا عن إلغاء دورها العام (القومى)، وهو ما يخالف موقف الإمام حسن البنا، لذى جعل العلاقة بين هذه الأدوار المتعددة علاقة تكامل وليست علاقة تضاد كما سبق ذكره.
تفعيل دور مصر العربي الاسلامى بين ما هو ممكن وما ينبغي ان يكون : إن تفعيل دور مصرالعربى الاسلامى، لا يمكن أن يتم بالقفز مما هو كائن (تعطيل دور مصر)، الى ما ينبغى ان يكون(التفعيل الكامل لدور مصر العربي الاسلامى)، بل بالاستناد إلى التدرج كسنه الهيه قررها الإسلام والتزم بها الرسول(صلى الله عليه وسلم)”المرحلتين المكية والمدنية ”، وطبقا لها فان للتغيير مرحلتين ” يشكلان عند الحديث عن دور مصر العربي الاسلامى مرحلتي تفعيل هذا الدور”، وهاتين المرحلتين هما:
مرحله الممكن “الاستطاعه” (التفعيل الممكن لدور مصر العربى الاسلامى):المرحلة الأولى هي التي يمكن التعبير عن هذه المرحلة بمصطلح الاستطاعة والتى يستدل بها بتقرير النصوص لقواعد الاستطاعة (فَاتّقُوا ْاللّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُواْ وَأَطِيعُواْ)، ورفع الحرج (مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ) [المائدة: 6]، والوسع (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا) [البقرة:286] وهى مرحله الانتقال مما هو كائن( الذى يتمثل -عند الحديث عن دور مصر العربي الاسلامى – في تعطيل دور مصر العربي الاسلامى)، إلى ما هو ممكن (الذي يتمثل – عند الحديث عن دور مصر العربي الاسلامى – في التفعيل الممكن لدور مصر العربي الاسلامى) وتتضمن هذه المرحلة العديد من الخطوات ومنها:
– رفض المواقف التي تجعل العلاقة بين دور مصر العام (العربي، الاسلامى) ودورها الخاص (الوطني)علاقة إلغاء وتناقض” بصرف النظر عن أساسها الايديولوجى”، والالتزام بالموقف الذي يجعل العلاقة بين هذين الدورين علاقة تحديد وتكامل.
-الالتزام بموقف قائم على الحرص على وحده مصر وسلامة أرضيها وسيادة شعبها على ارضها ومصلحتها – وهو ذات الموقف من كل الأقاليم والشعوب العربية – والتأكيد على آن دور مصر العام العربي الاسلامى لا يلغى كل ذلك، بل يحدده كما يحدد الكل الجزء فيكمله ويغنيه، وبه تصبح أراضى مصر ليس إقليم مصر فقط، بل كل الاراضى العربيه بما فيها إقليم مصر، وتصبح السيادة ليست سيادة الشعب المصري على اقليم مصر فقط، بل سيادة الشعب العربي بما فيه الشعب المصري على كل الاراضى العربيه بما فيها اقليم مصر، وتصبح المصلحة ليست مصلحة مصر فقط، ولكن مصلحة الامة العربية كلها بما فيها مصلحة مصر.
-التمييز بين النظم السياسية المصرية والدولة المصرية، فمفهوم ألدوله اشمل من مفهوم النظام السياسي أو السلطة، حيث أن الدولة تشمل لسلطه “النظام السياسي” والشعب والأرض، وبالتالي فان اتخاذ موقف سلبي من نظام سياسي مصري معين، لا يبرر اتخاذ موقف سلبي من ألدوله المصرية او الشعب المصري.
-التأكيد على أن الجيش المصري هو مؤسسه وطنيه وقوميه، فهو ملك للشعب المصري أولا وللشعب العربي ثانيا، وقد خاص عبر التاريخ أشرس المعارك دفاعا عن مصر والامه العربية، وبالتالي اتخاذ موقف سلبي من نظام سياسي مصري معين، لا يبرر محاوله تحطيمه ماديا او معنويا، فضلا عن ان ذلك لا يخدم الا الكيان الصهيوني، كما الحفاظ عليه وتطويره هو ضمان للحفاظ على استقرار مصر ووحدتها، وضمان لإيقاف للنزوع التوسعي للكيان الصهيوني فى الحاضر، وهو يدخل تحت باب الإعداد للمعركة القادمة ضد الصهيونية فى المستقبل، قال تعالى (واعدوا لهم ما استطعتم من قوه) .وهذا الموقف الايجابي من الجيش المصري يتسق مع ما قررته بعض الأحاديث النبوية، فعن عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) قال: سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: (إذا فتح الله عليكم مصر، فاتَّخذوا فيها جندًا كثيرًا، فذلك الجند خير أجناد الأرض)، فقال له أبو بكر: ولِمَ يا رسول الله؟ قال: (لأنهم وأزواجهم في رباط إلى يوم القيامة) (أخرجه: ابن عبد الحكم في فُتوح مصر، وابن عساكر، وفيه ابن لهيعة عن الأسود بن مالك الحميري عن بحر بن داخر المعافري، ولم أرَ للأسود ترجمةً إلا أن ابن حبان ذكَر في الثِّقات أنه يَروي عن بحر بن داخر ووثَّق بحرًا.)، وهو ما أكده التاريخ،حيث أوقف الجيش المصري الغزو المغولى التترى، وتصدى للصليبين، وواجه الاستعمار القديم فى مصر وخارجها، وخاص معارك عديدة ضد الكيان الصهيوني (حرب 1948، حرب الاستنزاف 1967- 1970، حرب اكتوبر 1973..)
-السعي لتحقيق كل الخطوات الممكنة تجاه الوحدة العربية والاسلاميه، بشكل سلمى مؤسساتي تدريجى.
-رفض التطبيع مع العدو الصهيوني.
*التاكيدعلى أن أقباط مصر مكون اساسى من مكونات النسيج الوطني المصري، وإنهم مساوون لغيرهم من المواطنين في الحقوق والواجبات، استنادا الى حق المواطنة الذي اقره الإسلام “وثيقة المدينة ”، وان اى مساس بأرواحهم أو أعراضهم او ممتلكاتهم يتعارض مع موقف الإسلام الايجابي من مواطني الدولة الاسلاميه من غير المسلمين، والقائم على الحفاظ على حياتهم وإعراضهم وأموالهم وكفاله حريتهم الدينيه، كما يتعارض مع الأمر الذي وجهه الرسول (صلى الله عليه وسلم) للمسلمين بان يستوصوا بالقبط خيرا، روى مسلم في صحيحه عن أبي ذر قال: قال رسول الله “صلى الله عليه وسلم”(إنكم ستفتحون أرضا يذكر فيها القيراط، فاستوصوا بأهلها خيرا، فإن لهم ذمة ورحما)، وروى الطبراني والحاكم عن كعب بن مالك مرفوعا (إذا فتحت مصر فاستوصوا بالقبط خيرا، فإن لهم ذمة ورحما.)(صححه الألباني). قال ابن الأثير في النهاية(معنى قوله: فإن لهم ذمة ورحما. أي أن هاجر أم إسماعيل عليه السلام كانت قبطية من أهل مصر)، وروى ابن الجوزي في كشف المشكل أن سفيان سئل عن قوله “فإن لهم ذمة ورحما” فقال(من الناس من يقول هاجر كانت قبطية وهي أم إسماعيل، ومن الناس من يقول كانت مارية أم إبراهيم قبطية)، وقال المناوي في فيض القدير: (فإن لهم ذمة) ذماما وحرمة وأمانا من جهة إبراهيم بن المصطفى صلى الله عليه وسلم، فإن أمه مارية منهم (ورحما): قرابة، لأن هاجر أم إسماعيل منهم).
مرحلة ما ينبغي أن يكون” العزم”(التفعيل الكامل لدور مصر العربي الاسلامى ) : المرحلة الثانية هي التي يمكن التعبير عنها بمصطلح العزم، والتي من أدلتها مفهوم العزم الذي يرتبط بما ينبغي ان يكون كما في قوله تعالى(وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأمور)( لقمان: 17)، وهى مرحله الانتقال مما هو ممكن إلى ما ينبغي أن يكون، الذي يتمثل- عند الحديث عن دور مصر العربي الاسلامى – في التفعيل الكامل لدور مصر العربي الاسلامى.
*أستاذ فلسفه القيم الاسلامية في جامعه الخرطوم