بقلم: مروة نظير
تُعد القوات متعددة الجنسيات العاملة في سيناء أحد أهم دعائم معاهدة السلام المصرية مع إسرائيل التي وقعت في 1979، إذ تمارس تلك القوات مهامها على الحدود المصرية الإسرائيلية منذ عام 1981. وقد تشكلت هذه القوات بدعم أمريكي، وتتخذ من روما مقرًّا رئيسيًّا لها، مع وجود مكتَبَيْ اتصال في كل من القاهرة وتل أبيب. وتمارس عملها عبر شبكة تضم 35 برج مراقبة و”نقطة تفتيش” ومركز مراقبة على طول الشريط الممتد شرق سيناء. أما الجنود المشاركون في هذه القوات فينتمون إلى 13 دولة هي (أستراليا، وكندا، وكولومبيا، والتشيك، وفيجي، وفرنسا، وإيطاليا، وهولندا، ونيوزيلاندا، والنرويج، وأوروجواي، وبريطانيا، والولايات المتحدة)، بالإضافة إلى طاقم المراقبين المدنيين الأمريكيين البالغ عددهم 15 مراقبًا. وتقسم ميزانيتها بالتساوي بين القاهرة وتل أبيب وواشنطن.
وتضطلع هذه القوات بمهمة أساسية هي التأكد من امتثال كلٍّ من مصر وإسرائيل بالأحكام الأمنية الواردة في اتفاقية كامب ديفيد. وهو ما انعكس في أربع مهام تفصيلية هي:
• تشغيل نقاط التفتيش ودوريات الاستطلاع ومراكز المراقبة على امتداد الحدود الدولية وعلى الخط (ب) وداخل المنطقة (ج).
• التحقق الدوري من تنفيذ أحكام الملحق الأمني مرتين في الشهر على الأقل، ما لم يتفق الطرفان على خلاف ذلك.
• إجراء تحقيق إضافي خلال 48 ساعة بناء على طلب أحد الأطراف.
• ضمان حرية الملاحة في مضيق تيران.
كما أضيفت لها مهمة خامسة في سبتمبر 2005، وهي مراقبة مدى التزام قوات حرس الحدود المصرية بالاتفاق المصري الإسرائيلي الموقع في أول سبتمبر 2005 والمعدل في 11 يوليو 2007.
وفي ظل تغيرات المعادلة الأمنية التي تشهدها سيناء منذ يناير 2011، ثم تردي الوضع الأمني بشكل خاص في أعقاب أحداث 30 يونيو 2013، فقد كان وضع تلك القوات محلا للجدل مرات عدة، سواء في إطار دعوات إعادة النظر في اتفاقية كامب ديفيد بمختلف مكوناتها، أو عدم ملائمة الظروف الأمنية لوجود هذه القوات.. إلخ.
بيد أن الفترة الأخيرة شهدت بروز أبعاد أخرى للجدل بشأن القوات متعددة الجنسيات، وذلك مع ما أُثير عن علاقاتها مع مختلف الأطراف في سيناء، فضلا عن الغموض الذي يكتنف مستقبلها بين من يؤكد أن هذه القوات في طريقها لمغادرة سيناء، ومن يرون أنها ستشهد تعزيزًا في المستقبل المنظور.
أولا- غموض العلاقة مع الأطراف الفاعلة في سيناء:
تعرضت القوات متعددة الجنسيات في سيناء للعديد من التغيرات ذات الطابع الأمني خلال السنوات الماضية، لا سيما مع تغير خارطة الفاعلين السياسيين في شبه الجزيرة التي تشهد توترات وعدم استقرار أمني واضح. بيد أن التخوفات الرئيسية في هذا الصدد بدأت مع احتمالات تحول هذه القوات إلى رقم في المعادلة الأمنية في المنطقة. وقد تجلى ذلك في مناسبات عدة، مثل تعرض القوات لاعتداءات من قبل الإسلاميين عندما أطلق مسلحون صواريخ استهدفت مطار الجورة الذي تستخدمه هذه القوات، وتزايدت هذه المخاوف حين أعلنت جماعة “ولاية سيناء” (فرع تنظيم “داعش” في مصر) تبنيها الهجوم، واصفة القوات الدولية بـ”القوات الصليبية التي تدعم إسرائيل”.
أما أبرز ما أثار الانتباه في هذا الصدد، فهو غياب القوات الدولية عن خارطة أهداف جماعات الإسلام السياسي في سيناء، مما دفع بعض وسائل الإعلام إلى الحديث عن وجود تفاهمات خاصة بين منتسبي الجماعات الإسلامية في سيناء وبين القوات متعددة الجنسيات، بموجبها يحتمي أفراد هذه الجماعات بالقوات الدولية للهرب من غارات الجيش، والتزود بالوقود، وعلاج المصابين، مقابل التعهد بعدم تنفيذ هجمات ضد تلك القوات، وتحذيرها من أماكن العبوات الناسفة. وتُشير التقارير الإعلامية إلى أن العناصر الإرهابية حفرت أنفاقًا للاحتماء بها أسفل نقاط المراقبة الخاصة بالقوات متعددة الجنسيات بمنطقتي “اللفيتات” و”قوز أبو رعد” بشمال سيناء، لعلمها أن الطائرات المصرية لن تقصف نقاط المراقبة الدولية.
وعلى العكس تمامًا من ذلك، يؤكد آخرون أن السبب وراء عدم مهاجمة العناصر الإرهابية لمعسكرات القوات الدولية هو بالأساس أن تلك المعسكرات مؤمنة بشكل جيد من قبل قوات الأمن المصرية بمجموعة من الكمائن، فضلا عن خشية تنظيم «ولاية سيناء» من انسحاب هذه القوات، واستبدالها بأعداد إضافية من القوات المصرية مما سيمثل ضغوطًا على أفراده، وبالمنطق ذاته فإن وجود القوات المصرية في محيط معسكرات القوات الدولية يدحض إمكانية قيام الإرهابيين بحفر أنفاق للاختباء داخلها.
ثانيًا- الحاجة للتعديل.. سوابق ومبررات:
على مدار سنوات عملها شهدت القوات متعددة الجنسيات العديد من التغييرات على تكتيكات عملها تفاعلا مع المتغيرات، فعلى سبيل المثال، فإنّ ميزانية القوة قد تراجعت وثبتت عند 51 مليون دولار طيلة عِقد كامل منذ منتصف التسعينيات حتى عام 2005، قبل أن ترتفع في الأعوام الأخيرة لتواكب التغيرات في قطاع غزة وفي مصر، ولكنّها لا تزال أقل مما كانت عليه في السنوات الأولى، وأقل مما كانت عليه عام 1988.
ففي 2014 بلغت ميزانيتها نحو 82.6 مليون دولار، وانتهت السنة المالية بعجز يبلغ 606 آلاف دولار، ومن المتوقع أن ترتفع الفجوة إلى 9 ملايين دولار في السنة المالية 2016 و20 مليون دولار في 2020. ومن جهة أخرى فإن تعداد القوات عمومًا قد انخفض من حوالي 2700 إلى حوالي 1700. كما انخفض تعداد القوات الأمريكية خصوصًا من 1200 عام 1982 إلى 700 تقريبًا، وانخفضت قوات الدولتين الرئيسيتين الأخريين المشاركتين بشكل رئيسي -وهما كولومبيا وفيجي- من 500 إلى 350 تقريبًا لكل منهما. كما طرحت فكرة إنهاء عمل تلك القوات من قبل مصر التي طلبت في الاجتماع السنوي للقوة عام 1994 أن يتم إنهاء عمل القوة، أو تقليل حجمها، أو حصر مسرح عملياتها في المنطقة الحدودية، بدلا من كامل مناطق سيناء، وذلك توفيرًا للنفقات التي تقوم مصر بتسديد ثلثها دون أن ترى أن لها عائدًا مناسبًا.
وخلال الأسابيع الماضية أُعيد طرح فكرة مراجعة عمل تلك القوات حينما أشارت بعض وسائل الإعلام الأمريكية المعروفة بقربها من دوائر صنع القرار في واشنطن إلى أن إدارة الرئيس باراك أوباما، تدرس حاليًّا مستقبل قوات متعددة الجنسيات في سيناء، وأن واشنطن تدرس خيارين سيجري تنفيذ أحدهما على المدى الطويل، وهما تعزيز القوات بالسلاح، أو سحبها تمامًا.
ومن استقراء ما ساقته واشنطن من دوافع في هذا السياق يمكن القول إن واشنطن تشعر بالقلق بشأن تدهور الأوضاع الأمنية في شمال سيناء، بما يعرض القوات متعددة الجنسيات -بما فيها القوة الأمريكية- للخطر، لا سيما وأن تسليح القوات خفيف، مما يجعلها هدفًا سهلا لتنظيم “داعش”، وهو ما سيفتح جبهة جديدة في الحرب التي تقودها الولايات المتحدة ضد التنظيم. ويربط المراقبون المخاوف الأمريكية في هذا السياق بتراجع مؤشرات الصراع العربي الإسرائيلي بشكل ملحوظ، فضلا عن وجود تفاهمات مستقرة بين مصر وإسرائيل، وبلوغ التنسيق الأمني بينهما درجةً غير مسبوقة، خاصةً في مجال مكافحة الإرهاب. الأمر الذي يعني مقبولية الدفع بانتفاء المبرر لاستمرار وجود تلك القوات في ظل التفاهمات الحاصلة بين الجانبين.
ثالثًا- مؤشرات ودوافع رفض إنهاء عمل القوات الدولية:
تحمل ردود الأفعال الرسمية للأطراف المعنية مؤشرات عدة على أن فكرة إنهاء عمل القوات متعددة الجنسيات لا تتمتع بالقبول، بل وغير قابلة للتطبيق في الوقت الراهن، فقد أعلن المتحدث الرسمي باسم وزارة الخارجية المصرية أن هذا الأمر لم يُطرح من قريب أو بعيد بشكل رسمي، لافتًا إلى أن القوات متعددة الجنسيات موجودة في سيناء، وفقًا لاتفاقية دولية، وهناك أطراف لهذه الاتفاقية، وأي قرار يتعلق بشأنها يجب أن يؤسس على مشاورات من هذه الدول والاتفاق فيما بينها فضلا عن التنسيق المسبق.
وفي تحرك رمزي داعم لتلك التصريحات، قام الجيش الثاني الميداني بتنظيم يوم رياضي لأفراد القوة بمقر قيادة الجيش، تخلله عقد لقاء بين قائد الجيش الثاني الميداني وقائد القوة متعددة الجنسيات، لتنسيق أنشطة وأعمال القوة في سيناء والإجراءات التي تقوم بها القوات المسلحة لتأمين عناصر القوة أثناء تنفيذ مهامها.
أما على الجانب الإسرائيلي، فقد اعترض المتحدث باسم السفارة الإسرائيلية في القاهرة على فكرة سحب القوات متعددة الجنسيات من سيناء، موضحًا أن القاهرة وتل أبيب تنظران إلى القوات متعددة الجنسيات المتواجدة في سيناء كعامل رئيسي للحفاظ على اتفاق السلام بين الجانبين. وفي السياق ذاته تلفت التصريحات الإسرائيلية الانتباه إلى موافقة الإدارة الأمريكية مؤخرًا على زيادة ميزانية القوات متعددة الجنسيات العاملة في سيناء.
وفي حقيقة الأمر فإن القراءة المتأنية لمعطيات الوضع الراهن في المنطقة ترجح أن هناك ما يُمكن اعتباره توافقًا في المصالح بين الأطراف الثلاثة المعنية (أي: مصر، وإسرائيل، والولايات المتحدة) يدفع باتجاه ضرورة المحافظة على وجود هذه القوات، ودعم استمرار عملها. إذ يمكن القول إن جميع الأطراف المعنية باتفاقية السلام متفقة على محورية مهمة القوات الدولية في سيناء.
فمن ناحية أولى، يرتبط وجود القوات متعددة الجنسيات باتفاق يحدد حجم القوات المصرية وتسلحها في سيناء، وبالتالي فهي تعمل كجهة ضامنة لأن أي تجاوز للاتفاق يتم بعلم وموافقة طرفيه، وبالتالي من المهم وجود هذا الضامن لكي لا يتم اتهام أي من الطرفين لاحقًا بخرق الاتفاق دون موافقة الطرف الآخر، لا سيما وأن عدم الاستقرار الأمني الذي يعصف بالمنطقة قد يتطلب إجراءات أمنية أكثر تشددًا، وهو ما يتطلب وجود قنوات شرعية تسمح بتمرير تلك الإجراءات دون مسٍّ بالتفاهمات التي تم الاستقرار عليها، وهو ما تُدركه جميع الأطراف المعنية.
وفي السياق ذاته، تُدرك الدول الثلاث أن إنهاء وجود هذه القوات يستتبع إجراء تعديلات مهمة على البنود الأمنية في اتفاقية كامب ديفيد للسلام بين الجانبين، لا سيما فيما يخص القيود المقيدة لحركة القوات المصرية في سيناء وللقوات الإسرائيلية في المنطقة (د)، على نحو يسمح بخلق ضمانات بديلة للطرفين قادرة على ملء الفراغ الأمني الذي سينتج عن سحب هذه القوات حتى وإن كان وجودها رمزيًّا.
ومن ناحية ثانية، ليس من مصلحة مصر على وجه الخصوص أن يتم إنهاء عمل القوات الدولية المتواجدة على أراضيها تحت دعاوى أنها تغادر لأنها غير آمنة، ولأن الوضع في سيناء مضطرب، إذ سيشكل ذلك ضربة قاسية لصورة مصر واستقرارها وسعيها لاجتذاب الاستثمارات ودعم الاقتصاد. بل إنه قد يصبح مقدمة لأي ادعاءات مفادها أن الاضطرابات في سيناء أسفرت عن هجمات إرهابية ضد إسرائيل انطلاقًا من الأراضي المصرية استلزمت ردًّا من جانب تل أبيب، وهو سيناريو يبدو كارثيًّا ولا يحقق صالح أيٍّ من الفاعلين في المنطقة أو المعنيين بشأنها، لا سيما في ظل استمرار التوترات في البؤر المشتعلة على العديد من المسارات، مثل سوريا والعراق واليمن وأخيرًا في لبنان.
رابعًا- السيناريو المرجح: تطوير مهمة القوات الدولية:
يُمكن القول إن هناك توافقًا بين الفاعلين الرئيسيين على استمرار وجود القوات متعددة الجنسيات الآن ولبضع سنوات قادمة على أقل تقدير، إلى حين إيجاد حل دائم لأزمة سيطرة حماس على قطاع غزة، ولحين القضاء على مشكلة الجماعات الإرهابية الموجودة في سيناء. بيد أن بقاء تلك القوات على حالها يبدو غير مقبول، ومن ثم فهناك حاجة بل توجه نحو إعادة النظر في ولايتها ومحددات عملها لتتمكن من مواكبة المعطيات الحالية.
وهذا ما يؤكد أن أي تعديل في الترتيبات المتعلقة بالقوات متعددة الجنسيات في سيناء في المستقبل القريب، سيكون بتعزيز تواجدها وليس بسحبها، ولعل هذا ما يفسر موافقة الإدارة الأمريكية على زيادة ميزانية هذه القوات، فضلا عن قيام وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاجون) بتوفير رادارات مضادة للهاون ومعدات اتصال أفضل لتلك القوات.
وهذا ما يفسر أيضًا التأكيد المستمر من قبل الإدارة المصرية على أن مواجهة الإرهاب في سيناء تخدم الشرق الأوسط والعالم بأكمله. إلى جانب تأكيد مختلف الأطراف على عدم اعتراض القوات متعددة الجنسيات على الضربات التي توجهها القوات المصرية ضد التنظيمات المتطرفة في سيناء.
ومن المؤشرات ذات الأهمية أيضًا في هذا السياق اللقاءات التي تتم بين كبار المسئولين العسكريين المصريين وقيادات القوات الدولية، والتي كان من أبرزها لقاء الفريق محمود حجازي -رئيس أركان حرب القوات المسلحة- بمدير عام القوة متعددة الجنسيات، لبحث سبل التعاون مع القوات المسلحة، وأوجه التعاون المشترك بين الجانبين، والدور الذي يقوم به الجيش لتسهيل عمل القوات الدولية في ضوء التحديات الحالية في سيناء، فضلا عما أثير عن طرح مبادرات ورؤية واضحة لمواجهة الإرهاب بسيناء بشكل استخباراتي، لتحقيق استراتيجية للقضاء على الإرهاب.
وكما سبقت الإشارة، فإن هذه القوات ليست مخولة ولا مجهزة لمواجهة الإرهاب في سيناء، أو لتقديم الدعم للقوات المصرية في هذا الصدد، ومن ثمّ فإن تطوير وظيفة القوات متعددة الجنسيات في سيناء ليكون لها دور أمني بالإضافة إلى دورها الحالي الذي يقتصر على المراقبة، يتطلب إعادة النظر في تشكيل وتطوير تسليح وتوزيع هذه القوات.
في النهاية، ومع الاعتراف بأن المصلحة المصرية في اللحظة الراهنة تتطلب قبول استمرار وجود القوات متعددة الجنسيات في سيناء مع التأكد من تأمينهم بشكل كامل وربما قبول تطوير محددات عملها وزيادة دورها، فعلى صناع القرار في القاهرة المحافظة على هامش واسع من المناورة خلال عملية التفاوض بشأن المحددات الجديدة لعمل هذه القوات، كاشتراط وجود زيادة القوات من الجنسيات الأخرى العاملة في البعثة، لا سيما القوات من دول العالم الثالث، فضلا عن الضغط بهدف زيادة أعداد وتسليح القوات المصرية الموجودة على أرض سيناء بموجب اتفاقية كامب ديفيد للسلام ضمانًا لاستمرار بسط سيطرة القاهرة على مجمل أراضي سيناء بعد انتهاء مشكلة الإرهاب.
* المركز الاقليمي للدراسات الاستراتيجية