يحلو للبعض ممن يعتبرون أنفسهم إعلاميين أو محللين سياسيين، أن يخضعوا كل حركة تقوم بها قيادة وحكومة المملكة المغربية والجزائر في خانة “المناكفات” الساسية، على خلفية التوتر القائم بين البلدين نظرا لموقف السلطة في الجزائر من ملف الوحدة الترابية للمغرب. وحتى مع عدم إمكانية النفي الكلي لوجود بعض السلوكيات الهادفة لتسجيل النقاط هنا أو هناك، لكن الفروقات مع ذلك بين خطط واستراتيجيات ومشاريع البلدين تبقى واضحة للعيان، وتسجل تفوقا عمليا واضحا لصالح المغرب.
وعليه، ولو شئنا وضع عناوين عريضة لمجمل الممارسات والاستراتيجيات الخاصة بالبلدين الجارين، يمكن القول بثقة، أن سر النجاح المغربي يكمن في استراتيجيتها المتسمة بـ: الاستباقية، الواقعية، المبادرة، والتنوع، في مقابل نظيرتها الجزائرية المتسمة بـ: الهروب إلى الأمام، العناد، الأساليب المتجاوزة، والنظرة الأحادية. فروقات تتضح وبشدة من خلال البون الشاسع في استراتيجيات البلدين تجاه: تداعيات الحراك الشعبي في 2011، تنويع الاقتصاد، الإصلاح السياسي، العلاقات الإفريقية، وغيرها مما يصعب حصره في سطور معدودة.
ولو أخذنا آخر الأمثلة الدالة، المتمثل في كيفية إدارة المغرب لعلاقاتها الإفريقية، مقابل الجمود الذي تعرفه الإدارة الجزائرية لهذه العلاقات، لاكتشفنا الهوة الشاسعة التي تفصل ما بين “استراتيجية المبادرة” المغربية، و “استراتيجية ردود الأفعال” الجزائرية. لقد امتلكت القيادة المغربية الشجاعة لمراجعة مواقفها الخاصة بمقاطعة “الاتحاد الإفريقي”، وقررت العودة إليه رغم تواجد الكيان الوهمي داخله. ويخطئ من يحصر تحركات العاهل المغربي في دول شرق ووسط وغرب إفريقيا، في كونها محاولة لأخذ مباركة الدول التي تعترف بالبوليساريو على مثل هذه العودة، إذ أن أبلغ دليل على ما نقول، هو أن الملك محمد السادس قد أخذ سلفا مثل هذه المباركة عبر الرسالة التي وقعها رؤساء 28 دولة إفريقية من حلفائه، للمطالبة بتجميد عضوية البوليساريو في المنظمة القارية، قبل أن تقلع به الطائرة من الرباط، وهي الأغلبية التي تضمن له العودة إلى شغل مقعده بغض النظر عن مباركة من زارها من الدول.
إن دخول المغرب لكل هذه الدول من بوابة التعاون جنوب- جنوب، وعبر مشاريع حقيقية تقدم لهذه الدول إجابات واقعية وحلولا مجربة لمشاكلها الاقتصادية والتنموية، لا تهدف فقط إلى توثيق علاقاته بهذه المجتمعات البعيدة جغرافيا ولغويا، بل ستكرسه لاعبا قاريا بجانب كل من جنوب إفريقيا وكينيا، مع تفوقه عليهما في التواجد في أربعة أنحاء القارة، وعدم الاكتفاء بالريادة في محيطه الإقليمي غربها.
إن القراءة الدقيقة للخطوات المغربية الطموحة، لا ينبغي لها التوقف عند الأرقام التي تتحدث عن واقع اليوم، بل يجب لها أن تستشرف الواقع الذي سيتبلور بعد عقد من الزمن. فجنوب إفريقيا التي تتخبط في مشاكلها الاقتصادية والفساد المستشري في مختلف أروقتها، وكينيا التي تدرك أن إمكانياتها بالكاد تكفي للتنافس على الريادة في شرق إفريقيا، في ظل الصعود المنتظر لجارتها إثيوبيا، سيكرسان موقع المغرب كرائد لمجمل قارة المستقبل، إفريقيا، مستفيدا من استقراره السياسي والاجتماعي، وتماسكه الأمني والروحي، وانفتاح وتنوع اقتصاده، وشراكاته الدولية المتعددة.
وأمام هذا الواقع الآني والمستقبلي، ماذا يمكن لسلطة جزائرية تعتمد نفس الرؤى والسياسات منذ الاستقلال وحقبة الحرب الباردة، أن تفعل؟ إن الطريقة المضحكة التي حاولت من خلالها السلطة في الجزائر مواجهة التجذر المتسارع للمغرب في مختلف أرجاء القارة، عبر تنظيم منتدى- فضيحة للاستثمار الإفريقي، دون أن تجرؤ حتى على تأمين ظروف العمل الاقتصادي والمصرفي لمقاولاتها الوطنية، ناهيك عن تقديم أي شيء للمقاولات الإفريقية، يوضح بجلاء أن هذه السلطة لا تزال بعيدة جدا عن الرد على الخطوات المغربية الطموحة. كما أن التخبط الذي يسم محاولاتها لكسب ود جيرانها المباشرين في النيجر ومالي وغيرهما، في الوقت الذي تضرب عرض الحائط جميع المعايير الدولية والإنسانية في التعامل مع مواطني هذه الدول، الذين ساقهم سوء أوضاعهم المعيشية للتواجد كمهاجرين في الجزائر، كل ذلك يجعل الحكم المسبق على فشل السياسة الجزائرية برمتها في إفريقيا غير مجاف للصواب.
ولكل ما سبق، فاختيار الجزائر المضي قدما في اختيار المقاربة التنافسية مع أشقاء الدم والنضال والجوار، بدلا من المقاربة التعاونية، التي تقطع مع كل السياسات المبنية على معاكسة المغرب في ملف وحدته الترابية، محكوم عليه سلفا بالفشل، بل وبالهزيمة التي يمكن أن يكون ثمنها النظام نفسه. كما أن مثل هذا التنافس الذي يشهد اختلالا واضحا في موازين القوى الواقعية لصالح المغرب، لن يدفع ثمنه سوى المواطن الجزائري الذي يعاني بشكل متزايد، بسبب هدر موارده على عناد عبثي لا يسنده منطق أو عقل أو مراعاة لأواصر دم أو كفاح. ولهذا لا نملك إلا الدعاء الصادق بأن يقيض لهذا النظام من يرشد سلوكه ويعدل سياساته ويجعل مصلحة مواطنيه، لا كبرياءه الجريح، هي الموجه لخطواته وقراراته، بما يطوي صفحة الخلاف للأبد بين الجارين الشقيقين، ويشرع الباب أمام محاولة تعويض العقود الضائعة على شعوب منطقة المغرب الكبير برمتها.