مداد كثير اسالته الجولة التي يقوم بها الملك محمد السادس في بلدان إفريقيا الناطقة بالانجليزية، والتي تشترك في اتخاذها تاريخيا مواقف مناهضة للوحدة الترابية للملكة المغربية، أو على الأقل سلبية، تجاه حق المغرب التاريخي في أقاليمه الصحراوية، إما عبر الاعتراف بجمهورية الوهم التي أعلنت عنها الجزائر بلسان جبهة البوليساريو، أو باتخاذ مواقف سلبية من مقترحات المغرب العديدة لإنهاء هذا النزاع المفتعل، وآخرها مقترح الحكم الذاتي لساكنة أقاليمه الجنوبية، ضمن سياق أعم هو مقاربة “الجهوية الموسعة” لمختلف جهات المملكة. وهكذا، وبعد محطات رواندا وتنزانيا، جاءت زيارات أثيوبيا ومدغشقر ونيجيريا، والتي يفترض أن تتبعها زيارات مماثلة لكل من كينيا وزامبيا. زيارات توجت بالتوقيع على عشرات المشاريع والاتفاقيات، التي صيغت بذكاء شديد عماده الإجابة على الأسئلة التنموية الملحة لهذه الدول، وتقديم حلول عملية ومجربة للمشاكل الاقتصادية والاجتماعية والبيئية التي تتخبط فيها هذه الدول جراء عقود من سوء التسيير، والإدارة غير الراشدة للموارد.
ولو تجاوزنا عملية مراجعة الأمثلة المتعددة لما أوردناه آنفا، للغوص أكثر في تجليات هذا التطور غير المسبوق في السياسة الإفريقية للمغرب، بل وفي مجمل الأداء الدبلوماسي للمملكة، للوقوف على مدى عمق هذا التحول، فسنكتفي بالمرور على بعض أبرز الأمثلة التي شهدتها هذه الجولة التي نقلت العاهل المغربي إلى دول لم يكن ممكنا تخيلها وفق المقاربات التقليدية، نظرا للبعد الجغرافي، الحاجز اللغوي، والمواقف الدبلوماسية غير الودية:
- يمكن اعتبار قرار المغرب بالعودة إلى عائلته الإفريقية المجتمعة تحت سقف “الاتحاد الإفريقي” أساس هذا التحول الاستراتيجي الكبير، ليس فقط لقبوله الدخول رغم وجود “جمهورية الوهم” ضمن سجل إعضاء الاتحاد، ولكن الأهم هو إدراكه أن الحروب التي تخاض بالنيابة عبر الأصدقاء، رغم صدق جهودهم المخلصة، فإن نتائجها تبقى محدودة، وهو ما أثبتته عقود الغياب التي تجاوزت الثلاثة، وأن لا بديل عن الدخول المباشر للمعركة، مسلحا بالطبع بأصدقائه الأوفياء الأفارقة، وما أكثرهم. تحول يمكن الرجوع به أبعد قليلا، إلى المرحلة التي بدأ المغرب يعمق فيها علاقاته بشركائه الأفارقة التقليديين في غرب ووسط القارة، بإعطائها الطابع العملي التنموي، بدل الاكتفاء بالاطمئنان إلى متانتها السياسية. لقد أثبت المغرب لمواطني هذه الدول، أنه بلد شريك يعول عليه، وهو يهدف إلى تكريس تعاونه معهم لما فيه فائدتهم مباشرة، بل وزاد بفتح أبوابه لأئمتهم وطلابهم، وشاركهم خبرته الأمنية المشهودة، وأضفى المشروعية على تواجد مواطنيهم اللاجئين في المغرب، مقدما نموذجا حضاريا وإنسانيا خلف أطيب الأثر في صفوف مواطني وقيادات هذه البلدان الصديقة. أثر وصلت أصداؤه لباقي دول القارة، وجعلتها أكثر تقبلا، بل وتطلعا، للدخول في علاقات مماثلة مع هذا البلد العريق، الذي يوجد لديه الكثير مما يشاركهم إياه من تجارب تعود على بلدانهم والمغرب بالخير العميم.
- وجاء استهداف المغرب للبلدان الأقطاب في شرق ووسط وغرب القارة، ليرفع سقف التحدي عاليا. لم يستسهل المغرب اللجوء إلى الدول الصغيرة من أجل إحداث النقلة المطلوبة، ومحاولة استقطاب أغلبية عددية بسيطة تفيده في معاركه الدبلوماسية مع خصوم وحدته الترابية، بل دق أبواب الدول الكبرى، والتي درج هؤلاء الخصوم على التغني دائما بأنهم يعترفون “بجمهورية الوهم” ويدعمونها، من قبيل نيجيريا وإثيوبيا وكينيا وغيرها. وكالعادة، فالرهانات الكبرى تجلب منافع كبرى، وتحتاج بالمقابل إلى همم عالية، وهو ما أبانت القيادة المغربية أنها أهل له، وقادرة على القيام متطلباته. وهنا تكفى مراجعة نتائج الزيارات الملكية إلى كل من إثيوبيا، قطب شرق إفريقيا، ونيجيريا، قطب الغرب الإفريقي، للتدليل على ما نقول.
- شكل فهم المغرب العميق للرهانات الاقتصادية الكبرى التي دخلت فيها إثيوبيا، أساسا لمقترحه للدخول في شراكة استراتيجية مع هذا البلد. بلد فلاحي ذي ثروات هائلة، والذي انتقل إلى محاولة توفير الماء والكهرباء لمشاريعه الاقتصادية، كلبنة أساسية في نهضته المنشودة، عبر بناء عشرات السدود، لاسيما أضخم سدود القارة “سد النهضة” للاستفادة من مياه النيل أضخم أنهار العالم. فجاء الإعلان عن أكبر مشروع إفريقي للأسمدة ومشتقات الفوسفات، باستثمارات غير معتادة بين الدول الافريقية، تجاوزت 2.5 مليار دولار، ليشكل “ضربة معلم”، إذا عبر هذا المشروع سيكون المغرب أكبر شركاء إثيوبيا في القطاع الفلاحي الذي يعتبره أساس نهضته الاقتصادية المنشودة. ولنا أن نتصور الأثر الاجتماعي الذي سيحدثه دخول الأسمدة المغربية أرض كل فلاح إثيوبي، وعبرها إلى أراضي باقي دول شرق القارة.
- وعلى نفس المنوال، أحسن المغرب قراءة ما تحتاجه نيجيريا بملايينها ال180 وأراضيها الزراعية الشاسعة وثرواتها النفطية والغازية الهائلة، ودخل في شراكة استراتيجية في هذه القطاعات بالذات، مع هذا البلد الإفريقي الذي تجاوز العام الماضي جنوب إفريقيا كأكبر اقتصاد في القارة الإفريقية، للمرة الأولى في تاريخه. إن الشراكة المغربية النيجيرية المجسدة عبر أنبوب الغاز العابر لغرب إفريقيا، مرورا بالمغرب، ووصولا إلى القارة الأوروبية، يعتبر الدرة التي رصعت تاج الزيارة الملكية في إفريقيا، دون أدنى مبالغة. ولو تجاوزنا القراءات السطحية التي نظرت للحدث من زاوية كونه يأتي في إطار “مناكفة” المغرب للجزائر، وبديلا عن المشروع الجزائري لنقل الغاز النيجيري عبر أراضيها، والذي قدمته قبل أزيد من خمس سنوات، نظرا لعجزها عن توفير التمويلات اللازمة لإنشائه!!! فستنفتح أمامنا آفاق باهرة لقراءة الحدث بشكل يتجاوز آثاره الاقتصادية الكبيرة إلى تداعياته السياسية الاستراتيجية. إن أنبوبا سيفتح نافذة لتصدير الغاز النيجيري إلى المغرب وباقي دول غرب القارة، ويسهل بعد ذلك ولوجه إلى الأسواق الأوروبية المتطلبة، سيمكن دول الغرب الإفريقي من طاقة كهربائية تحتاجها وبشدة نهضتها الصناعية المنشودة، وسينسب الفضل دائما لأصحاب الفضل في رؤيته النور، المغرب ونيجيريا. أما الأهم، فإن توقيع نيجيريا للاتفاقية التي ستسمح بمرور الأنبوب عبر الأقاليم الصحراوية المغربية، مع رأس الهرم السياسي المغربي، هو اعتراف عملي مدوٍ بمغربية الصحراء، أبلغ من كل الكلام الذي يحرص على اجترار المواقف التقليدية لنيجيريا تجاه هذه القضية. لقد استأذنت نيجيريا صاحب هذه الأرض، للسماح لها بمرور هذا الأنبوب عبر أراضيه، وما عدا هذه الحقيقة الساطعة ما هو إلا مجرد لغو!!
وختاما، لعل أبلغ دليل على الصدمة التي أصابت المعسكر المعادي لوحدة المغرب الترابية، وهم يرون بناءهم الواهي ينهار أمام أعينهم دون أن يمتلكوا أية وسيلة لإطالة عمره وتعطيل انهياره، هي الردود البائسة والمناورات الصبيانية التي يحاولون عبرها حفظ ماء وجوههم، والتقليل من أهمية هذا التحول الاستراتيجي الهائل الذي سيعجل بإقفال هذا الملف بطريقة لم يكونوا مستعدين لمواجهتها. إن الاستعانة بمفوضة الاتحاد الإفريقي نكوسازانا دلاميني زوما لمحاولة تعطيل دخول المغرب للاتحاد عبر حيل مكشوفة، لا يوازيها بؤسا إلى تلك الأزمة التي اختلقوها خلال القمة العربية الإفريقية، والمؤتمرات الاقتصادية والاستثمارية الإفريقية التي يحاولون من خلالها الإيحاء بوجود “بقايا” قدرة لهم على الوقوف في وجه “المد المغربي” الذي سيجرف لا محالة كل ما يعترض طريق تكريس سيادته على أرضه ومقدراته.