خلال المؤتمر العام الرابع عشر لجبهة البوليساريو، والذي عقد في ديسمبر الماضي، وفي حضور رئيس الجبهة الراحل محمد عبد العزيز، الذي كان يدرك مع المقربين منه أن السرطان قد بلغ مراحله الأخيرة في جسده، وأن ما تبقى له من أيام سيكون فيها طريح الفراش في أحد المصحات الطبية التي تحاول تخفيف آلام هذه المرحلة، تم فرض أمرين غريبين، بدأت الأصوات تتعالى حولهما خلال الأيام القليلة المتبقية على عقد المؤتمر الاستثنائي الذي سيختار خلفا لعبد العزيز، يومي الثامن والتاسع من شهر يوليو المقبل: رفض طلب عبد العزيز بالإعفاء، وفرض شرط جديد يجب استيفاؤه من قبل المرشحين لخلافته: شرط التجربة القتالية.
ويمكن اعتبار رفض طلب إعفاء عبد العزيز مفهوما، نظرا لغياب الاتفاق على خليفة له، ولأن الجبهة تقيم في الجزائر، وجناح السلطة الداعم لها ليس من بين مفرداته “الإعفاء لأسباب صحية”، وليس أبلغ من ذلك دليلا سوى وجود رئيس “عاجز” وفق مختلف التعريفات والاجتهادات الطبية والصحية العربية والدولية، ومع ذلك يصرّ نفس الفريق أن يحكم باسمه، إلى أن يتكشف للجميع أنه “ميت منذ زمن طويل”!! لكن عند وضع رفض الإعفاء بجانب شرط التجربة القتالية ، تصبح القصة مختلفة، ويتضح الهدف الذي يسعى إليه جناح السلطة الجزائرية الداعم للبوليساريو.
لقد بدا واضحا الآن، وفي أجواء التحضير لاختيار خليفة لعبد العزيز، أن رفض تنحي هذا الأخير، لم يكن بأي حال اعتزازا بمكانته أو عرفانا بخدماته، ولكن بالأساس، لأن إجراء انتخابات اختيار الخلف دون وجود شرط التجربة القتالية ، سيفتح المجال أمام مرشحين محتملين أقوياء من قبيل محمد خداد وعبد القادر الطالب عمر وحمة سلامة وابراهيم محمد محمود (أكريكاو). وعليه، كان لزاما أن يرفض طلب عبد العزيز بالتنحي، ويترك لملك الموت تحديد ساعة مغادرته للمنصب، ويفرض جناح العسكرة ومسانديهم داخل دائرة القرار الجزائري شرط التجربة القتالية، ليتم لها ما يخططون له حاليا: فرض ابراهيم غالي مرشحا وحيدا لخلافة الرئيس الراحل.
لكن ما سبق ذكره، والجدل المحتدم حاليا حول هذا الشرط وتفسيراته، تشي بأن مؤتمر جبهة البوليساريو الاستثنائي –الذي يدور جدل مماثل حول استثنائيته- ربما يكون الأخير عمليا في تاريخ الجبهة، إذا فشل المؤتمرون على اختيار مرشح توافق حقيقي، وهو الأمر المشكوك فيه بشدة. إن وجود ابراهيم غالي على رأس اللجنة التحضيرية، وإعلانه المنفرد عن نيته بالترشح لخلافة عبد العزيز، وتمسكه المنتظر بالتفسير الضيق لمادة شرط التجربة القتالية ، بكونها تلك التي مورست في الجبهات قبل بدء سريان وقف إطلاق النار عام 1991، وضرورة اقترانها بتقلد مسؤوليات قيادية حربية فيها، واستنكاف القادة الثلاثة الآخرين الذين ينطبق عليهم هذا الشرط عن الترشح، ونقصد: محمد لمين البوهالي، عبد الله الحبيب، والبشير السيد، كل ذلك يقول بأن ابراهيم غالي، رجل المخابرات الجزائرية الأول في البوليساريو، في طريقه لتسلم الرئاسة دون منافس. لكن بالمقابل، فالجدل الدائر حول هذه المادة التي هبطت على المؤتمر الأخير “بالباراشوت” يمكن أن يحسم في أحد اتجاهين: الأول، توسيع هذا المفهوم ليشمل كل المهام ذات الطبيعة العسكرية والأمنية، وبالتالي يدخل لمنافسة غالي أحد الطامحين: خداد، سلامة، أكريكاو، أما الثاني فهو نجاح غالي وداعميه في فرض التفسير الضيق، وبالتالي تشريع الأبواب أمام انقسام الجبهة الواضح، بطريقة تنهي وجودها عمليا.
للمزيد: هل تتحول البوليساريو إلى عبء على النظام الجزائري.. ويبدأ قادتها باللجوء إلى المغرب؟!!
إن بذور الانقسام تجد ما يغذيها من خلال الاستقطاب القبلي الحالي الموجود حاليا في اوساط القيادة العليا ومناصريهم، وأجواء التشكيك في “الوطنية” والاتهامات بالفساد واستغلال المنصب والتكسب غير المشروع، والتي يراها الموطنون الصحراويون المحتجزون بأعينهم دون حاجة لتأكيدها من مصادر خارجية محايدة.
وبعيدا عن البوليساريو، تشي محاولة توريث رئاسة البوليساريو لابراهيم غالي تحديدا، بالأزمة التي يعاني منها جناح السلطة الجزائرية الداعم للمهمة التاريخية للبوليساريو: معاكسة الوحدة الترابية للمغرب، ونقصد به جناح من تبقى من معاوني رئيس المخابرات العسكرية السابق الفريق محمد مدين (توفيق)، وأنصاره داخل محيط الرئيس بوتفليقة. إن عدم قدرة هذا الجناح على إيجاد مرشح توافقي يحظى بدعم الصحراويين الحقيقي، وخوفه من اختيار بديل عن رجله في الجبهة، وغياب أية بدائل لاستراتيجية الجناح في علاقته بالمغرب، تجعله أكثر تمسكا بسياسة الهروب إلى الأمام، وذلك في مواجهة، أساسا، الجناح المضاد لهم داخل معادلة السلطة، والذي يتقوى بالأصوات المتعالية المطالبة بإحداث تغيير في السياسة الجزائرية المتبعة ضد المغرب منذ أزيد من خمسة عقود، انحيازا لمصالحهم الوطنية قبل أي اعتبار آخر.
بهذا المعنى، يفقد المؤتمر الاستثنائي المقبل للبوليساريو أية أهمية تغري بالمتابعة، ليحل محلها متابعة أشد إثارة وتأثيرا تتعلق بصراع أجنحة الحكم في السلطة الجزائرية، ونراهما جناحين بالأساس: الجيش في مواجهة الرئاسة، مع من يدور في فلكهما. أما البوليساريو، فمصيرها معروف سلفا: الزوال، وهو الأمر الذي سيعجل من اقترابه الطريقة التي يدير بها الجناح الجزائري الداعم مقاليد الأمور في الجبهة والمخيمات، حيث أنه بفرضه ابراهيم غالي، سيشرع الباب أمام الانشاقاقات وهروب القيادات الخاسرة من القارب الغارق، ويعطي دعما معنويا هائلا لقوى التمرد الكامنة في أوساط المحتجزين، للقيام بثورة تكنس من تبقى من سجّانين يمنعون عودتهم الطوعية إلى حضن وطنهم الأم: المغرب.
إقرأ أيضا: سيناريوهات قيادة جبهة البوليساريو إلى مصيرها المحتوم.. التفكك!!