أشياء كثيرة تبعث على الغضب وتسبب الحزن لدى كل عربي ومسلم تجاه ما يجري في الجزائر، سواء تعلق الأمر “بمهزلة” قرار استمرار الرئيس “العاجز” بوتفليقة في الحكم حتى نهاية ولايته الرابعة عام 2019، أو الانسداد السياسي والدستوري في هذا البلد الذي يناضل أهله للخروج من أسر المفاهيم الاشتراكية البائدة، من قبيل خرافات الحزب الواحد والقائد الملهم والجيش الوطني، ومرورا بالضغط الاقتصادي الذي يتفاقم بتأثير لوبيات الفساد وتراجع موارد الثروة الوحيدة بعد أزيد من ستين عاما على الاستقلال، وانتهاء بما نطالعه بحسرة من أرواح بريئة تزهق في غرداية بوابة الصحراء، ويتم إعتبارها بتسرع “صراعا عرقيا بين عرب وأمازيغ، أو مذهبي بين مالكيين وإباضيين”.
ولعل أكثر ما يزيد من غليان الشارع الجزائري، ويسبب القلق لدى كل غيور على هذا الشعب العظيم، هي حالة “العمى” والمكابرة التي يوجد فيها سادة النظام. فهم الوحيدون الذين يصرون على الاستمرار في مهزلة أن الرئيس بوتفليقة في كامل الأهلية للاستمرار في الحكم أربع سنوات أخرى، مع أن كل طفل جزائري يدرك من مجرد مطالعة الصور المفبركة التي تبثها “اليتيمة” بأنه لم يعد كذلك منذ عامين مضيا، وربما قبل ذلك. سلوك لا يكلف سادة النظام أنفسهم عناء شرحه للناس: أليس في الجزائر، البلد الزاخر بالكفاءات، من هو أهل لتولي منصب الرئيس؟ أم أن الجزائريين لا يزالون قاصرين عن اختيار من يكلفوه مقاليد إدارة شأنهم العام، ولذا محكوم عليهم أن يبقوا في “قاعة انتظار” توافق رجالات الجيش والأعمال على “خليفة” للرئيس العاجز، وما عليهم بعدها سوى مباركة الاختيار والخروج إلى الشوارع احتفالا بظهور “المهدي المنقذ”.
وبالانتقال إلى غرداية: لماذا تختص دون غيرها من ولايات الوطن بالتعصب الطائفي والمذهبي؟ أم أن هذا التعصب موجود في كل مكان وينتظر الفرصة أو الشرارة للانفجار؟ لماذا يتعايش العرب والأمازيغ، المالكيون والإباضيون في وئام –ظاهري على الأقل- في مناطق مختلفة من الجزائر، بينما لا يستطيعون ذلك في غرداية ومحيطها؟ أم أن نظرية الحرب الطائفية ما هي إلا شجرة تحاول أن تحجب غابة “صراع الأجنحة” داخل سدة الحكم، كما يروج في المئات من مواقع التواصل الاجتماعي؟؟ ولو صدقنا أن الأمر فعلا يتعلق بصدام طائفير مذهبي، ألا يتولد لدينا أسئلة أكثر حرقة: أين هي الدولة التي لم تستطع بعد ستين عاما من الاستقلال أن تبني مفهوما “للمواطنة” يقف قبل وفوق الانتماءات الفرعية للطائفة والمذهب والعشيرة؟ أي تعليم تلقى هؤلاء؟ ماذا صنعت الأجهزة الأمنية من أجل حماية أرواح الناس وممتلكاتهم؟؟ أين ذهبت مداخيل النفط بحيث لم تستطع حل مشكلة عقارية بسيطة لجزء بسيط من سكانها لدرجة صنعت مثل هذا الاحتقان؟ ما أهمية الترويج “لفتوحات” الدبلوماسية الجزائرية الرسمية في مالي وليبيا، إذا كان النظام بدبلوماسييه العباقرة عاجزون عن صنع واستدامة اتفاق بين شركاء الوطن الواحد؟ وماذا..؟ وأين..؟ وكيف..؟ ولماذا…؟ وعشرات الأسئلة الحارقة الأخرى.
الخطير في الأمر، أن سادة النظام وهم يتصارعون على تنصيب “خليفة” لبوتفليقة، يستخدمون من جهة أسلحة محرمة “إنسانيا” بجعل الناس وحياتهم واختلافاتهم المذهبية والطائفية وقودا لصراعاتهم، ومن جهة أخرى، يسمحون لعشرات المشاكل الاجتماعية والاقتصادية والسياسية بأن تتفاقم لدرجة نقترب فيها من الحالة التي “يتسع الرتق على الراتق” ويصعب فيها تجنب مصير دول صممت أنظمتها الاستبدادية على التضحية بمستقبل مواطنيها وحياتهم وممتلكاتهم من أجل خوض معاركها الشخصية، ولنا في ليبيا والعراق وسوريا واليمن ومصر خير مثال.
إن استخدام التنوع الطائفي والمذهبي والذي لطالما كان مصدر غنى وفخر لنا أجمعين، سلاحا في صراعات أهل الحكم، أو إهمال الاحتقان القائم بين الطوائف تبعا لغياب العدالة الاجتماعية في أوساط هذه الفئات، من شأنه أن يوصل –لا قدر الله- شرارة غرداية إلى مناطق القبايل وغيرها من المناطق التي لطالما تعايش فيها العرب والأمازيع دون مشاكل، مستظلين براية لا إله إلا الله، بعيدا عن أي تمييز مذهبي.
لجميع ما سبق، نقول أن الدماء الزكية التي سالت، ويمكن أن يسيل المزيد منها –لا قدر الله- في غرداية ومناطق أخرى، ما هي إلا إعلان مدوّ لفشل الدولة في الجزائر، وتحديدا حكم العسكر فيها، في صياغة مفهوم ناضج للمواطنة، يحترم الخصوصيات الاجتماعية والثقافية والمذهبية لهم، كما أنه يشكل في المحصلة جرس إنذار أخير لهذه الطبقة المتنفذة، بأن استمرار مصادرة حق الجزائريين في الحلم والعيش الكريم والتمتع بثرواتهم الوطنية بالتساوي دون تمييز، سيعجل في تقريب “ساعة الحسم” التي نتمنى أن تمر بسلاسة دون فواتير باهضة، وهو ما لا تتفق معه للأسف تجارب الأنظمة الاستبدادية العربية. حفظ الله الجزائر، وتغمد بواسع رحمته كل من قضوا في غرداية الصابرة.