الجزائر: دستور القفز بالمظلات

تشبه سياسة النظام الحاكم في الجزائر طقوس لعبة ذلك الصياد الذي يحرك صنارته مرات في الهواء ومرات كثيرة يغمسها في البحر عندما تعلق ببقايا قارب قديم محطم وغارق في قاع البحر، ليوهم الناس بأنه قاب قوسين من القبض على سمكة خرافية تطعم اليتامى الذين جوعهم بخل اللئام.
في هذا السياق يذكرني هذا الوضع بالكاتب والشاعر الفلسطيني الراحل معين بسيسو الذي أصدر منذ سنوات كتابا بعنوان “أدب القفز بالمظلات”، وحدثنا فيه عن الكتابة العشوائية التي تتسم بالارتجالية وغياب التخطيط اللذين يؤديان بصاحبهما حتما إلى السقوط في هوة الأدب الاستعجالي.
إن هذا النمط من اللعبة التي تتكرر دائما قد أصبح مكشوفا ولا يمكن تغطيته بالغربال إلا أمام جوقة العميان. مرة يخرج النظام الجزائري ورقة فضيحة عبدالمؤمن خليفة ثم يغلقها متى شاء، وحينا يطلع علينا بملف سرقات وزير النفط السابق شكيب خليل وحاشيته ومن ثم يسدل عليها أحجار الصمت، وحينا آخر يرمي في الفضاء إشاعات مفادها أن الجزائر مهددة من قوى أجنبية حتى يقدم نفسه أنه حامي الحمى وهكذا دواليك.
وفي هذه الأيام أطلق بالون إغواء سياسي له أبعاد نفسية ويتمثل في أنه سيقوم بمعجزة تعديل الدستور من أجل الفصل بين السلطات، وتعزيز الحريات والديمقراطية، وتكريس التوجه نحو اقتصاد متنوع، ووضع الشباب على قمة هرم الانفراج الاجتماعي والاقتصادي وغيرها من الوعود التي لن تتحقق سوى في حدائق جمهورية أفلاطون.
تقول التسريبات التي أطلقها النظام الجزائري أن الرئيس عبدالعزيز بوتفليقة سيبحث مع المجلس الدستوري آليات تعديل مسودة الدستور عبر البرلمان، وأنه قد أحال هذه المسودة إلى كل من هذا المجلس نفسه وإلى مجلس الأمة والبرلمان في آن معا، للنظر فيها وإثرائها على مقاس محدد سلفا.
وبالمقابل تكفل الوزير عمار غول بالنيابة عن مؤسسة الرئاسة وأطنب في الكلام مبرزا أن المطلوب من الجميع مباركة الأحزاب و“فسائل” المعارضة قبل فوات أوان للفرصة التي أتاحها لهم بصيغة الجمع مستشار الرئيس بوتفليقة أحمد أويحيى الذي كان يلقب نفسه بالمشرف على الملفات القذرة عندما كان رئيسا للوزراء منذ عدة سنوات.
وبالمقابل أيضا صرحت لويزة حنون، زعيمة حزب العمال، بأن البرلمان فاقد للشرعية وغير مفوض قانونيا وشعبيا للقيام بتعديل الدستور. حتى هذه اللحظات من الزمن الجزائري لم نسمع عن ردود فعل ما يسمى بالمعارضة التي تعودنا عليها كظاهرة صوتية داخل الفنادق الفخمة وفي منتجعات البذخ السياسي المغلقة.
وفضلا عن ذلك فليس هناك موقف شعبي يذكر في الجزائر العميقة، في الأرياف والمدن، بخصوص مسودة هذا الدستور، كما أن تنظيمات وجمعيات المجتمع المدني المرتبطة عنوة، أو بالترغيب الناعم المزين بالتلويح بالأموال والمناصب “مستقبلا” لم ترفع عقيرتها ولم تدل بدلائها إلى بئر هذا الموضوع.
وهنا ينبغي طرح الأسئلة التالية: لماذا يخاف النظام الجزائري الحاكم من تعميم مسودة الدستور على الساحة الشعبية الواسعة بكل ثقة وأريحية لمناقشتها بحرية، إذا كان المقصود من تعديل الدستور حقا هو خدمة الشعب الجزائري واستشارته وأخذ رأيه والإنصات إليه بجدية ومن ثمَ العمل وفقا لمصالحه العليا؟ كيف يمكن تعديل الدستور من طرف كمشة من الموظفين في دواليب النظام، وجوقة من المحسوبين على السياسة والقانون بمفردهم دون الشرعية الشعبية؟.
لماذا يصر النظام الحاكم على استبعاد الحكومة التنفيذية من النظر في مسودة هذا الدستور علما أن هذه الحكومة تابعة له أصلا وفصلا؟ هل هذه لعبة تمويه بأن الحكومة لا تمثل الشعب، وإذا كانت كذلك فلماذا تحكم هذا الشعب إذن؟ ثم ما معنى هذه الوعود التي توشح بالعسل وتدعي أن هذا الدستور سوف يفصل بين السلطات في الوقت الذي نرى فيه كل السلطات بين يدي سلطة متسلطة واحدة وهي سلطة الرئيس وأجهزته الأمنية والعسكرية الموالية له، وبيادقه وفي الطليعة المقاولون المعروفون كممولين لانتخابات الرئيس بوتفليقة بمليارات الدينارات والذين يُمنحون فيما بعد صكوك المشاريع الكبرى التي تدر عليهم ثروات طائلة؟
ثم ما معنى هذا الوعد بالديمقراطية التي تعني حكم الشعب، من خلال ممثليه المنتخبين شرعيا وبحرية وشفافية، في الوقت الذي يستبعد الشعب نفسه من مناقشة مسودة الدستور؟ ما هو هذا الفصل بين السلطات في الوقت الذي نجد فيه الإعلام جزءا عضويا من أجهزة النظام الأيديولوجية، وخطبة الجمعة تكتب في الغرف المغلقة التابعة للنظام الحاكم؟
منذ أكثر من نصف قرن نادى رئيس جمعيات المسلمين الجزائريين البشير الإبراهيمي بفصل الدين عن الحكومة الاستعمارية، ونحن لا نزال ندور في مربع تبعية الدين قانونيا وسياسيا للحكومة التي تمارس نفس الممارسات الكولونيالية.

هل سيجرؤ النظام الجزائري على فصل الدين عن النظام السياسي وحكومته وأجهزته الأيديولوجية وتلك التي تعمل بالقوة الناعمة لتنويم الشعب، ولا أقول الدولة، لأن هناك تباينا جوهريا بين الدولة والحكومة؟ الدولة هي الشعب وسيادته التاريخية وهويته أو هويات ثقافاته المتحاورة، والمكملة لبعضها البعض، وهي ما يدعوه المفكر فرنان بروديل بالترسيمة الجغرافية التي تشكل شخصيته، وهي بالتالي لغاته كما في حال الجزائر، ومسرحه المتمثل في وحدته الترابية دون أن تحول هذه الحدود إلى سدود فولاذية مغلقة تعزل الجيران والأخوة في التاريخ، والدماء المشتركة، والنسق الثقافي الذي بنى ولا يزال يبني معمار الوعي واللاوعي الجمعيين، وهي الدين ببعده الروحي في صوره الإنسانية وتجلياته العقلانية العلمية وركائزه الحضارية، وهي أيضا حريته وخياراته، أما النظام السياسي وحكومته فليسا سوى مجرد ما يدعوه مفكر أوروبي متنور “بالإدارة” ذات النهج الهندسي المدني، والغايات المتمدنة التي تسيّر شأن الشعب وتأخذ به نحو آفاق الأنسنة، وتحديث العقل والوجدان والسلوك. أين الشعب الجزائري المهمش من كل هذا؟

*كاتب جزائري/”العرب”

اقرأ أيضا

الصحراء المغربية

منزلقات تأويل موقف روسيا من المينورسو

أثار التصويت على قرار مجلس الأمن الدولي بخصوص التمديد لبعثة المينورسو جدلا كبيرا في مختلف …

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *