تغرق ليبيا (الجماهيرية سابقاً) في مزيد من الفوضى وتنذر اوضاعها بصومال جديدة، وليس افغانستان بل ولا حتى لبنان في سبعينياته، رغم ان الساحة اللبنانية كانت «مفتوحة» اكثر مما ينبغي، ليس فقط بعد ان إتكأ الانعزاليون على الوجود الفلسطيني المسلح، كذريعة لاعادة تعريف لبنان «غير العربي»، كما ارادوا له ان يكون، بل وقبل ذلك بكثير، وكلنا يذكر نهايات خمسينيات القرن الماضي ورئاسة كميل شمعون والانزال الاميركي على شواطئ لبنان، وتالياً الاجتماع الشهير على الحدود السورية اللبنانية، الذي جمع الزعيم جمال عبدالناصر رئيس الجمهورية العربية المتحدة بالجنرال فؤاد شباب..
ما علينا…
الذين اطاحوا القذافي على النحو غير المنسجم مع القانون الدولي، هم الذين يتحملون المسؤولية عما آلت اليه الاوضاع في هذا البلد، الذي ظنّ كثيرون انه سيكون «المحطة» ومنصة الانطلاق الى اعادة ترتيب منطقة شمال افريقيا (العربية على وجه التحديد) وتكريس النفوذ في افريقيا في معركة الصراع المحتدم عليها بين اميركا، اللاعب الجديد، الذي أبعد او حجّمَ النفوذ الفرنسي، والصين التي تنتهج دبلوماسية هادئة غير عسكرية ودائماً بلا غطرسة او ميل لسياسة الانقلابات العسكرية او رشوة القادة والاجهزة الأمنية والمؤسسة العسكرية، بل تقدم مساعداتها «السخيّة» لرفع مستوى الخدمات او التأسيس للبنى التحتية او الاستثمار في مشروعات تنموية وخصوصاً طرق المواصلات والسكك الحديدية والمراكز الثقافية والمسارح، اي بما يَصُبُ دائماً في ما بات يوصف بـ «القوة الناعمة».
..هؤلاء وفي مقدمتهم فرنسا (لا فرق هنا بين ساركوزي الذي قاد عملية اطاحة القذافي، وهولاند الذي سار على النهج العسكريتاري نفسه، وبريطانيا (حيث يواصل ديفيد كاميرون رطانته وتصريحاته الجوفاء)، الذين تركوا الليبيين لمصيرهم، بعد ان زرعوا الميليشيات وسلّحوا القبائل والعشائر، واشتروا من استطاعوا شراءه وأوغروا صدورهم على بعضهم البعض، ما اوصل الأمور الى نقطة اللاعودة، ولم تعد المسألة الآن محصورة بتوفير الأمن لـ «الهلال النفطي» الذي من اجله تم غزو ليبيا وتفكيك جيشها واسقاط دولته (غير الدولة في واقع الحال لكنها كانت على الأقل ممسكة بالأمور وحافظة للدور الذي رسمه له الأخ «العبقري» قائد الثورة)..
اللافت في كل ما يجري، هو الصمت الأميركي المريب حيال تدهور الأوضاع في ليبيا، بعد ان انقسم «الثوار» الى حكومتين، احداهما يعترف بها المجتمع الدولي وهي مقيمة في شرق طبرق (وبعض بنغازي) وهي حكومة عبدالله الثني، فيما حكومة طرابلس التي تتدثر بعباءة المؤتمر الوطني العام (بعد ان الغت المحكمة العليا الليبية نتائج الانتخابات) هي التي ترعى المليشيات وتنطق باسمهم وتتحالف مع تركيا وبعض العرب..وتصف الغارات المصرية بأنها مَسّ بـ «السيادة» الليبية!
اميركا التي ابتدعت في المسألة الليبية مصطلح «القيادة من الخلف»، اي انها تترك لحلفائها ان يقوموا بمهمة غزو ليبيا وانتهاك سيادتها واجوائها وإنزال المظليين ورجال الاستخبارات في مدنها وحواضرها، فيما هي تقدم الدعم الجوّي والحماية السياسية والدبلوماسية وتمارس كل انواع الضغوط (اقرأ التهديدات) ازاء كل من حاول عرقلة التدخل العسكري او سعى لتنبيه المجتمع الدولي الى ان قراري مجلس الأمن 1970 و1973 لا يبيحان التدخل العسكري على النحو الذي سارعت اليه لندن وباريس، بل صدرا في الاساس لحماية المدنيين من «المذابح» التي قيل انها ستُرتكب بحقهم من قبل قوات القذافي الزاحفة تجاه بنغازي.. لكن القراءة الغربية مغرضة دائماً ولا تعتني بالتفاصيل او تقيم وزناً للعدالة الدولية او الاعتبارات الانسانية والاخلاقية..
ليبيا.. باتت الآن مصدر قلق دائم ومِرجلا يغلي، بل بركانا يقذف حممه في كل الاتجاهات، ليس بسبب ما حدث مؤخراً وما قارفه ارهابيو داعش من جريمة بشعة ضد عمال مصريين كل جريمتهم انهم اقباط، بل هي تحرق الليبيين انفسهم وتدمر الاقتصاد وما ابقاه «نظام» القذافي من مؤسسات او هياكل آيلة للسقوط، فضلا عن تحول الهضبة الليبية الى ملاذ آمن ومعسكرات تدريب بالذخيرة الحيّة وملتقى لتجار الحروب والسلاح ولكل الآفاقين والمغامرين والقتلة والمهربين، ما بالك الذين جندتهم الاجهزة الاستخبارية الغربية كي يعيثوا فساداً في مصر وتونس والجزائر، وكل ما يمكن لايدي الشر ومخططات الغرف السوداء ان تجد فيه معيقاً لحركتها ومعطلاً او كابحاً لأطماعها..
السنوات الأربع التي مضت على ما سُمي كذبا وزوراً «الربيع العربي» خلقت ردود أفعال سلبية لدى قطاعات واسعة من الجمهور العربي ليس اقله تفضيل هذه الشعوب انظمة الاستبداد (والفساد) على «مشروعات» الانظمة الثورية، التي بشّر بها الربيع العربي، بعد ان ارتهن «الثوار» أنفسهم لأجهزة الاستخبارات الغربية، وبعد ان حولوا البلاد مسرحاً «لهواياتهم» المرضية في السلب والنهب والقتل والتدمير.
هل يحن الليبيون الى نظام القذافي؟ (كما حنين غيرهم ممن مسّهم «شيطان» الربيع العربي)؟
ليس بالضرورة، لكن الحاضر الدموي ليس افضل من ذلك الماضي «الأسود» الذي كان فيه بعض العرب قبل اربع سنوات، وهناك من واصل العيش في «السواد» دون ان تداهمه تلك الرياح..
* كاتب صحفي/”البيان” الأردنية