بقلم: هيثم شلبي
يوما بعد آخر، يتأكد المراقبون للشأن الجزائري، ناهيك عن الجزائريين أنفسهم، أن أزمات النظام العسكري الحاكم قد تراكمت وتعددت وتفاقمت إلى الحد الذي لم تعد إمكانية الرهان على حلها، أو حتى التخفيف منها، واقعية! أزمات قطعت خط الرجعة، وفاقم عناد جنرالات الجزائر، مدنيين وعسكريين، من تبعاتها، وتضخم فواتيرها، إلى الحد الذي أصبحت تهدد وجود الدولة الجزائرية نفسه، بل ومستقبل البلاد لأجيال مقبلة! قد يرى البعض في هذا التشخيص تهويلا، لكننا سنجتهد في إلقاء الضوء على أبرز الأزمات فقط، لاستحالة حصرها بالدرجة الأولى، لنعرف أن التشخيص السابق لا يحمل ذرة من تحامل أو مبالغة.
ففي الجانب السياسي، تثبت التجارب أن العقلية التي تحكم اختيار المسؤولين لشغل المناصب العليا متجذرة لدرجة يصعب الرهان على تغييرها. ولا أدل عن ذلك من إلقاء نظرة على أعمار المسؤولين الحاليين والسابقين للتأكد من هذه الحقيقة. فإذا كان الحراك الجزائري في 2019 قد فجّره إصرار هذا النظام (الذي لم يتغير منه سوى رأسه فقط) على التجديد لرئيس يعلم كل طفل في الجزائر بأنه لا يستطيع حتى “تبديل حفاظاته”، فإن بديله كان رئيسا في الثمانين، وقائد جيش في نفس السن، ورئيس سلطة تشريعية في منتصف التسعينات!! في بلد الغالبية العظمى من سكانه لم تبلغ منتصف العشرينات من عمرها!! ولا تقتصر خطورة هذه الأزمة على تكلس النظام وحرمانه من التجدد فحسب، بل في الصفات التي تواكب التقدم في السن لهذه الدرجة، من قبيل العناد، والانفصال عن الواقع، وسرعة الانفعال، وعدم القدرة على التفكير السليم في القضايا المعقدة متعددة الأبعاد؛ باختصار، القدرة على اتخاذ القرارات التي تحسن علاج الأزمات التي تمر بها الجزائر، حاليا ومستقبليا.
أزمة اخطر تتعلق في هيمنة الجانب العسكري على جميع مفاصل الدولة، لدرجة نكاد نجزم أن الجزائر تفتقر لأي مرفق مدني، أو يدار بطريقة مدنية. والإدارة هنا، تعني مجمل العملية، وليس الشق التنفيذي فيها فقط، والذي وإن أدير عبر تكنوقراط مدنيين، لكنه يدار بعقلية عسكرية “نفذ ثم ناقش”! وعليه، فالسلطة التنفيذية في الجزائر، بدءا من الرئاسة، ومرورا بالحكومة ووزرائها، وانتهاء بالسلطات المحلية (كالولاة مثلا)، لم تكتسب بوما ما، فضيلة الاستقلال عن التأثير والعقلية العسكرية، وإنما كانت تلعب دائما في هامش مدني، يضيق ويتسع، حسب شخصية الجالس في قصر المرادية، وطبيعة تحالفاته مع رئاسة الأركان أو قيادة المخابرات.
ثالث الأزمات السياسية، تهم “تصحر” الحياة السياسية في الجزائر، سواء في شقها الحزبي أو المجتمع المدني. فالأحزاب كلها تدين لولي نعمتها (جهاز المخابرات غالبا، ورئاسة الأركان أحيانا) سواء كانت في الغالبية أو المعارضة، لدرجة أن المراقب منا للشأن الجزائري، ينقلب على قفاه من الضحك، عندما يقدم لنا عبد الرزاق مقري، وقبله شيخه محفوظ نحناح، ومجمل حركته (حمس) على أنهم “معارضون” ينتمون إلى أكبر أحزاب “المعارضة”. أما المجتمع المدني، فهو يعيش في ظل قوانين مكبلة للحريات، تجعل من قدرته على ممارسة “حرية التنفس” إنجازا بحد ذاتها! وبذلك، فلا يمكن -والحالة هذه- الحديث عن حياة سياسية في الجزائر، لا في معناها الفعلي، ولا حتى المجازي.
آخر الأزمات، وربما أخطرها، تتعلق بالطريقة “المرضية” التي يدير بها النظام الجزائري “عداءه” للمغرب ووحدته الترابية! إدارة تفرض عليه عزلة إقليمية ودولية متزايدة، وهدرا مضطردا لأموال هو في أمس الحاجة إليها لعلاج أزماته الاقتصادية، وغضبا شعبيا من شأن انفجاره أن يودي بالنظام برمته، وهم يرون هذا العداء العبثي العقائدي التي تتوارثه الحكومات الجزائرية المتعاقبة منذ الاستقلال، دون أن يتوقف أحدها لإجابة الجزائريين: ما هي الفائدة الحقيقية التي تعود عليهم من هذا النزاع المفتعل حول وحدة المغرب الترابية؟!
وإذا انتقلنا إلى الشق الاقتصادي فسنطالع نفس “الخراب”. فالكلام -تجاوزا- عن كون الاقتصاد الجزائري يتبع نمطا “اشتراكيا موجها” هو حديث اصطلاحي غير دقيق على أرض الواقع، حيث الأدق علميا أن ننفي عنه صفتي التوجيه والاشتراكية!! فلو كان الاقتصاد الجزائري يملك وجهة واضحة، فما كان هذا حاله من التخبط والارتجال. إما اذا اعتقدنا أنه موجه من طرف السلطة التنفيذية التي يقف على رأسها عبد المجيد تبون، نكون في حقيقة الأمر قد قلنا نكتة تجلب لنا سخرية كل من يسمعنا. فهذا الرجل الفاقد للأهلية لقول أو إصدار أمر، أو حتى لاستيعاب ما يقدم له من مسودات قرارات، يعيش حالة “حملة انتخابية” دائمة، لا تنتهي إلا عندما تبدأ الحملة الانتخابية الفعلية للرئاسيات التي تليها. فقد أثبتت ست سنوات من تسييره -على فرض أنه المسيّر- عن كذب جميع وعوده وإحصائياته وأرقامه، وإنه أدمن هذا “الواقع الافتراضي” الذي صنعه بالكذب المستمر، لدرجة صار صعبا عليه الخروج منه ورؤية الواقع كما هو. أما صفة الاشتراكية فهي لا تقل تهافتا، فلا المغانم ولا المغارم يتم توزيعها بين الجزائريين بطريقة عادلة، والأصح أن نسميه “اقتصاد مافيوي” سمته الريع والنهب بشكل يندر مثيله.
اقتصاد يعتمد على مورد واحد هو النفط والغاز، وكل الحديث عن إمكانية وجود اقتصاد جزائري حقيقي خارج هذه الدائرة هو محض دجل وجهل ودعاية كاذبة. فوجود اقتصاد حر، يعتمد على قطاع خاص متطور، يحتاج جملة من الشروط لا تتوفر الجزائر على أبسطها، من حرية منافسة، وقطاع بنكي متطور (ولا تعني تكنولوجيا كما يفهما مسؤولو الجزائر)، ويد عاملة مدربة وخبيرة، وعلاقات متشابكة مع الاقتصاد الدولي، وبيئة عمل ليس لها أي علاقة بالعسكر وعالمهم، وغيرها من الشروط التي تحتاج الجزائر إلى عقود من العمل لتحقيقها، لكن بعد التخلص من نظامها العسكري. أما اختصار المقومات الجزائري في شعار “اللي يسال ييجي يخلص”، للدلالة على عدم وجود ديون خارجية على البلد، فهو ماركة “تبونية” مسجلة، للتدليل على الإعلام الدعائي الغبي، والذي “يهرف بما لا يعرف”!!
إن طبيعة النظام الجزائري الحالي التي تمركز السلطات في يد قائد الجيش السعيد شنقريحة، وتغوله بالتالي على جناح الرئاسة الذي يشغله أضعف رؤساء الجزائر في تاريخها، وجناح المخابرات الذي يقوده بقايا جنرالات العراب “توفيق”، تسهم في حصر المشكلة والحل في شخص الجنرال شنقريحة، في حالة غير مألوفة في النظام الجزائري تاريخيا، حيث كان توازن الأجنحة الثلاثة، وإن بطريقة نسبية، عرفا ثابتا في النظام الجزائري. ولأن النظام الجزائري بطبيعته “مشخصنا” لا يملك أي هامش للحركة خارج قرارات هذه الأجنحة الثلاثة، وتغيب فيه الحياة السياسية والاقتصادية خارج فلك هؤلاء الأقطاب، فإن بداية التوجه نحو مواجهة الأزمات المتفاقمة في البلاد لا يمكن ان تتم خارج عملية إعادة ضبط التوازن بين هذه الأجنحة، وإحداث تغيير جذري في التركيبة القيادية لها! وهو ما يستدعي إخراج الجنرال شنقريحة المهيمن على النظام الجزائري من المشهد، واستبداله بقائد صغير سنا وبدون خلفية أيديولوجية (العداء للمغرب) إما مباشرة أو بعد فترة انتقالية محدودة؛ يلي ذلك إنهاء وجود الرئيس تبون في قصر المرادية، لأنه لا البلد ولا النظام يتحملان وجوده في الحكم و”بهلوانياته” لأربع سنوات أخرى (الانتخابات المقبلة في 2029)؛ وأخيرا تأسيس جهاز مخابرات محترف، لا علاقة له بالسياسة ولا بإرث الجنرال توفيق من قريب أو بعيد، ومنع تحوله إلى جناح مستقبلا، بل وإنهاء مفهوم الأجنحة المستمر منذ الاستقلال. فما هي حظوظ إحداث التغييرات المطلوبة وكيف؟
من المؤكد أن الرجال الثلاثة الذين يقفون على رأس هذه الأجنحة، والذين هم للصدفة المحضة من نفس العمر تماما (80 سنة)، ونقصد الرئيس تبون والجنرال شنقريحة والجنرال حسان، لا يمكن تصور أن يقوموا بهذه المهمة إراديا، حتى لو تأكدوا بأن النظام الجزائري برمته ينهار. فماذا يبقى؟ إجبارهم على ذلك!! بمعنى حدوث انقلاب عسكري سواء كان “ناعما” أو “خشنا”! بمعنى أن يمتلك جنرال مؤثر القدرة والجرأة، بمساعدة جنرالات آخرين، على تنحية الجنرال شنقريحة بطريقة هادئة، مع وعده بعدم الذهاب للسجن على عشرات الجرائم التي ارتكبها خلال خدمته العسكرية، ليقوموا بعد ذلك بعزل الرئيس تبون بداعي “عدم الأهلية” سواء الصحية أو العقلية، ويتنحى بهدوء إذا أراد أن لا تفتح ملفاته المخزية وما أكثرها. أما الجنرال حسان، فيكفي إجراء مكالمة هاتفية معه تخبره بعدم الحضور للمكتب غدا، ووعده بعدم الرجوع للسجن لتنجز المطلوب. لكن ما العمل إذا تعذر تنفيذ هذا الانقلاب الناعم الهادئ الذي يضمن مصالح الجميع؟! البديل هو انقلاب “تقليدي” خشن، من طرف جنرالات شباب يمكنهم إنجاز المطلوب سابقا، دون مراعاة مشاعر الشيوخ المسلطين على رقاب العباد، وإرسال الأقطاب الحاليين إلى مكانهم الطبيعي: السجن.
ختاما، قد يبدو ما نقوله صعب التصور، لكن أمام تعذر استمرار النظام الجزائري في إدارة البلد في ظل الأزمات الحالية؛ وفي ظل التفاقم اليومي لهذه الأزمات؛ وإذا أردنا تجنب انهيار الدولة الجزائرية كدولة، وحصر الانهيار في النظام فقط، فلم تترك “مافيا” الحكم التي توارثت آلياته عمن سبقوها منذ الاستقلال، سبيلا آخر للحل سوى “الانقلاب العسكري”، الذي ندعو صادقين أن يتم بأقل الأثمان الممكنة، ويحفظ وجود الدولة الجزائرية، ويؤسس لحكم مدني حقيقي، ويحقق ما يصبو إليه هذا الشعب العظيم!