بقلم: هيثم شلبي
بعد تجميد عضوية كل من مالي وبوركينا فاسو وغينيا والنيجر فيه، بدأت التساؤلات تتعالى حول مدى قدرة نيجيريا، والدول العشرة الباقية، على أن تؤمن “للمجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا” (الإيكواس) شروط البقاء والاستمرار، أم أن هذا التجمع الإقليمي في طريقه للتفكك، مع توقع خروج دول أخرى منه، إما بسبب الانقلابات المتوقعة في أي لحظة، أو بسبب الرغبة في التحرر من الهيمنة الغربية! ولأن الدول التي تم تجميد عضويتها بسبب حصول انقلابات عسكرية فيها تتحدث جميعها بالفرنسية، فإن شقيقاتها المتبقيات في التجمع، التي تشترك معها في كونها مستعمرات فرنسية سابقة، لم تعد تتجاوز أربع دول (ساحل العاج، السنغال، بنين، توغو)، مقابل خمس دول تتحدث الإنجليزية (نيجيريا، غانا، ليبيريا، سيراليون، غامبيا)، واثنتان من المستعمرات البرتغالية السابقة (غينيا بيساو والرأس الأخضر)، وبهذا تفقد الدول الفرنكوفونية الغلبة -العددية على الأقل-، دون أن يعني ذلك تلقائيا فقدان فرنسا لنفوذها في المجموعة.
ولو نحينا جانبا مشكلة خضوع أنظمة المجموعة القائمة للتبعية لمستعمريها السابقين، فإن الرأي العام داخل جميع دول غرب أفريقيا دون استثناء، يدفع باتجاه “الطلاق البائن”، وإن بدرجات متفاوتة، عن فرنسا والمملكة المتحدة، بل وحتى تلك التي لا تملك تراثا استعماريا في القارة، كالولايات المتحدة والصين وروسيا وغيرها، ومحاولة البحث عن تحالفات إقليمية تتيح لها تحكما أفضل في ثرواتها، وبالتالي، عوائد تنموية أكبر، وهو ما سيعني مزيدا من التعاون جنوب- جنوب، وتعاظما لمنسوب الندية بين هذه الدول ونظرائها شرقا وغربا. وهنا، تحضر المملكة المغربية، سواء كانت الدولة الأفريقية ناطقة بالفرنسية أم الإنجليزية، وبغض النظر عن قوة علاقتها بالمغرب، وذلك لأسباب عدة أهمها ما تلمسه هذه الدول الأفريقية من نجاح المملكة الشريفة في “فرض” منطق الندية على علاقتها بمستعمرها السابق؛ وريادة قائدها الملك محمد السادس في الترويج “العملي” وليس اللفظي للتعاون جنوب- جنوب وفق معادلة رابح- رابح، والتي تقطع مع تراث سياسي واقتصادي مستمر منذ أزيد من قرنين بين القارة السمراء “والسادة البيض”؛ والعلاقة الضاربة في أعماق التاريخ بين الممالك المغربية المتعاقبة وجوارها في غرب أفريقيا، سياسيا وتجاريا وروحيا وثقافيا؛ والأهم ربما، أن المغرب نجح في تقديم نموذج عملي يثبت إمكانية نجاح هذا النموذج، عبر وضع تجربة مؤسساته وقطاعه الخاص في خدمة أشقائه الأفارقة، وهو ما شكل بديلا للمؤسسات الفرنسية والغربية التي لطالما كانت “الخيار الوحيد” لعلاقات دول غرب أفريقيا مع العالم، في ظل حرص المستعمر السابق على عدم السماح بوجود مؤسسات وطنية قوية ومستقلة، يمكنها ان تشكل تهديدا لمؤسساته ونفوذه.
ضيق الدول الأفريقية بمستعمرها الفرنسي تحديدا، ترجم من خلال كون الانقلابات العسكرية خلال السنوات الخمس الأخيرة، تكاد تقتصر على مستعمرات فرنسية سابقة، مما يعكس حالة “اليأس” الرسمي والشعبي من إمكانية إصلاح العلاقة مع فرنسا، أو تغيير هذه الأخيرة لسلوكياتها الاستعمارية المبنية أساسا على الاستعلاء والنهب. ورغم إدراك الجميع أن الانقلابات العسكرية لا تأتي بحلول حقيقية، إلا أن هذه المجتمعات فقدت الأمل في إمكانية إحداث تغيير حقيقي لرجالات فرنسا الحاكمة، باستخدام “الوسائل الديمقراطية الفرنسية” المتمثلة في الانتخابات، لتجد الإيكواس نفسها مطالبة كل مرة إلى إدانة انقلاب جديد، على رئيس “منتخب ديمقراطيا” ربما للمرة العاشرة تواليا، وتعليق عضوية بلد جديد، بل إنها أحيانا تكون مدفوعة لردود فعل عنيفة تحت ضغط فرنسا تحديدا التي تدافع عن رجالها، كما حصل في حالة النيجر التي تعرضت لحصار خانق، وكادت أن تتعرض لغزو عسكري لولا الدعم الإقليمي وتقاطعات السياسة الدولية!
وهنا، يحق لنا التساؤل: ما الذي يبقي تجمع الإيكواس قائما والحالة هذه؟! الإجابة البسيطة هي أنه لا يزال “مهما” لرعاته والمستفيدين من وجوده، ناهيك عن حاجة دول هذا الجزء من أفريقيا لمنظمة إقليمية على غرار باقي جهات القارة. فرعاته هم مبدئيا الدول المستعمرة السابقة، وتحديدا فرنسا وبريطانيا، أما المستفيدين من وجوده فهم بالأساس دولته القطب، نيجيريا (النتاج المحلي الخام لها 473 مليار دولار)، وبدرجة أقل غانا (74 مليار دولار) وساحل العاج (70 مليار دولار)، وتأتي بعيدا السنغال (28 مليار دولار)، وهي الدول التي تشترك في كون اقتصاداتها متوسطة، بل وصغيرة، إذا ما قورنت بالقائدة نيجيريا. لكن من الضروري استحضار بعض الحقائق التي يمكن أن تضعف من مبرر الوجود هذا، وترجح من يقولون بأن هذا التجمع قد دخل مرحلة التفكك منذ زمن طويل. فالتجارب الأفريقية التي تصلح كدرس لنيجيريا، تقول أن المغرب نجح في التمدد -منفردا- في أفريقيا على الرغم من وجوده في تجمع إقليمي “مجمّد” منذ ثلاثة عقود. كما أن التجمع الخاص بشرق القارة، والذي تقتصر عضويته على ثماني دول، ناجح حتى الآن على الرغم من عدم وجود قطب مهيمن فيه، وكذا المشاكل الثنائية بين دوله. في المقابل، فالتماسك الظاهر للتجمع الخاص بجنوب القارة، يتم بواسطة إفقاد جنوب أفريقيا لباقي محيطها الفرصة لاتخاذ سياسات مستقلة، بكلام آخر، هي تقود وفق منطق الهيمنة، ولا نظن أن في هذه التجربة ما يغري نيجيريا بتكرارها.
لكن، وفي انتظار نضوج شروط “السوق الأفريقية المشتركة” -إن سمح لها بأن تنضج-، ما هو البديل للتجمعين الأكبر غرب وجنوب القارة، اللذان يدوران في فلك نيجيريا وجنوب أفريقيا، رغم اتضاح عجزهما عن استدامة سيطرتهما على محيطهما الأضعف؟ الإجابة الأوضح حتى الآن هي: تجمع “السوق المشتركة لشرق وجنوب أفريقيا” (الكوميسا)، وتجمع “الدول الأطلسية الأفريقية”، واللذان يضمان حاليا 41 دولة (بواقع 21 دولة لكل منهما مع عضوية مشتركة لجمهورية الكونغو الديمقراطية في كليهما)، ومع الانضمام المنطقي لباقي دول شرق وجنوب القارة للأول (تنزانيا، جنوب السودان، أفريقيا الوسطى، موزمبيق، بوتسوانا، وليسوتو)، والانضمام المنتظر لأنغولا وناميبيا الأطلسيتين للثاني، مع انفتاح هذا الأخير على ربط دول الساحل الحبيسة الأربعة به عبر المغرب (تشاد، النيجر، مالي، بوركينا فاسو)، ستنضاف 12 دولة جديدة للتجمعين (بواقع ست دول لكل منهما)، ليصبح العدد الإجمالي لأعضائهما 53، وهو ما يعني جميع الدول الأفريقية باستثناء الجزائر!! الجزائر التي عزلها جنرالاتها عن التجمع الأول “تكبرا”، وعزلتها الجغرافيا والمغرب عن التجمع الثاني “عقابا” على ارتهان حكامها لأوامر المستعمر السابق!
هذا السيناريو وإن بدا غريبا بعض الشيء، لكنه في غاية الواقعية، لا سيما مع وجود هذين التجمعين فعليا، وكونهما الأكبر إقليميا على صعيد القارة الأفريقية، بل ويكادان يكونان متطابقان من حيث الحجم، وإن كان الطابع الاقتصادي طاغيا على الأول، والسياسي الأمني ظاهرا في الثاني، لكن من شأن تبادل الأدوار والتجارب بينهما أن يسد الفجوات في طريق قارة موحدة اقتصاديا وسياسيا وتجاريا وأمنيا، وعلى باقي المستويات، متخلصة من عقدة الارتهان للمستعمر القديم، ومتنبهة لعدم الوقوع في شرك استبداله بمستعمر جديد! قد يتأخر إنضاج هذا التصور قليلا، لكن الذي سيحدد وتيرة هذه التحولات، هو سرعة تخلص الشعوب الأفريقية من وكلاء الاستعمار الذين يحكمونها منذ سنوات الاستقلال الصوري منتصف القرن الماضي!