بقلم: هيثم شلبي
لا ينفك إعلام الجنرالات في الجزائر عن الترويج لكذبته الدعائية البائسة، حول حصول بلاده على عضوية مجلس الأمن غير الدائمة “بأغلبية ساحقة”، متجاهلا عن عمد بأن العملية برمتها كانت تزكية لشاغلي المقاعد الخمسة من قارات العالم المختلفة، اللهم باستثناء تصويت وحيد حول ممثل القارة الأوروبية، مني فيها مندوب روسيا البيضاء بهزيمة نكراء نتيجة خروجه على مرشح الإجماع الخاص بالقارة.
بكلمات أبسط، فالدول الأربعة التي دخلت مجلس الأمن منذ بداية العام نالت تقريبا نفس عدد الأصوات (184)، في عملية تزكية ليس فيها مرشح منافس للجزائر أو غيرها، وبالتالي فلا داعي حقيقي لحالة هذا الفخر الزائف؛ ناهيك عن كون المقاعد العشرة غير الدائمة في مجلس الأمن “لا تحل ولا تربط” فيما يخص العالم، وقاراتها التي تمثلها، بل ولا حتى بلادها نفسها في حال كانت هي موضوع التصويت.
وكمثال على ذلك، فوجود الجزائر في مجلس الأمن لن يفيد القارة الأفريقية مطلقا -عكس الدعاية الكاذبة لأبواق النظام-، بل ولن تستطيع عبر هذا الوجود تغيير حرف واحد في قرار التجديد للمينورسو مثلا، أو إعفاء نفسها من حضور الموائد المستديرة مع ديمستورا ممثل الأمين العام، فأي مبرر لكل هذه الجلبة إذا؟!
هذا الحديث، يجرنا إلى موضوع إصلاح الأمم المتحدة، التي أسسها المنتصرون في الحرب العالمية الثانية قبل قرابة ثمانين عاما، وتحديدا مجلس الأمن، من حيث تركيبته وصلاحياته.
فالكل يعلم أن القوة الحقيقية في المجلس هي في يد الأعضاء الخمسة دائمي العضوية (الولايات المتحدة، بريطانيا، فرنسا، الصين، وروسيا)، وما العشرة أعضاء الباقين سوى “ديكور” لتجميل المنظر ليس إلا.
واقع أثبتته الأزمات العالمية خلال العقود الثمانية الماضية، حيث كان حق النقض (الفيتو) سلاح القوى الخمسة التي تحظى بواسطته بلقب “عظمى”، من أجل تعطيل كل حل لا يروقها، أو يهدد نفوذها الدولي.
صحيح أن حديث إصلاح مجلس الأمن ليس وليد اللحظة، حيث طرح مرارا في السابق قبل أن يتم ترحيله لعدم التوافق على معاييره، وإن كان هناك توافق على مبرراته.
إذ كيف يعقل أن تحظى فرنسا بمقعد تحرم منه ألمانيا أو اليابان أو الهند، فقط لأنها كانت في الجانب المنتصر في الحرب العالمية الثانية؟! ثم كيف يستقيم تشكيل مجلس للأمن الدولي يخلو من تمثيلية أفريقية أو أمريكية لاتينية؟! أما ما جدد الحديث عن الموضوع خلال هذه الأيام، فهو اتجاه العالم بدون التباس نحو عالم متعدد الأقطاب، والدعم العلني والقوي الذي حظيت به فكرة توسيع مجلس الأمن من قبل إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن، وأسباب أخرى أقل أهمية.
أما الأسماء المرشحة “طبيعيا” لدخول المجلس فهي لا تخرج عن ألمانيا، اليابان، الهند والبرازيل، ليبقى الخلاف منحصرا في ممثل القارة الأفريقية، حيث توجد بعض القوى الطامحة -بحكم التاريخ والديموغرافيا أساسا- مع أفضلية واضحة لمتنافسين يبدوان مؤهلين أكثر من الباقين لتمثيل القارة السمراء، فكيف ذلك؟!
قبل الخوض في الأسماء المرشحة وحظوظها الحقيقية، لا بد من التوافق مبدئيا حول جملة من المعايير الأساسية التي يجب أن تتوفر غالبيتها أو جميعها في ممثل القارة السمراء في مجلس الأمن، لعل أهمها: ثقة أكبر عدد من دول القارة به لتمثيلها والدفاع عن مصالحها؛ قوة تأثيره الدبلوماسي على الساحة الدولية؛ عمق إدراكه لمشاكل القارة الأساسية وانخراطه الفعلي في جهود التصدي لها؛ امتلاك علاقات متوازنة مع القوى العظمى في المعسكرين الغربي والشرقي؛ ناهيك عن ميزات أخرى أقل أهمية من قبيل الثقل الاقتصادي والبشري، الخ.
وبالنسبة لأفريقيا، القارة المترامية الأطراف، نلاحظ غياب القطب الجامع، في مقابل وجود تجمعات إقليمية في مناطق القارة المختلفة: شمال أفريقيا، جنوب أفريقيا، شرق أفريقيا، غرب أفريقيا، وأخيرا وسط القارة، مع وجود قوة إقليمية مهيمنة أو أكثر من قوة متنازعة على مركز الصدارة.
ففي شمال القارة، تكاد المنافسة تكون محصورة في بلدين: مصر والمغرب، مع أفضلية واضحة للمغرب بناء على المعايير التي أشرنا إليها سابقا، وكما سنفصل لاحقا.
أما الجزائر فلا تعدوا كونها “قوة لفظية” تحسن العمل كوكيل عند من يرغب من القوى الأخرى، ودائما ما سارت في ركاب جنوب أفريقيا، ناهيك عن عدم امتلاكها لأي من المقومات المذكورة سابقا.
أما غرب أفريقيا فالزعامة فيه محسومة لنيجيريا، كما هو حال جنوب أفريقيا في منطقتها القارية. أما شرق القارة فتوجد منافسة ثلاثية مفتوحة بين كينيا وتنزانيا واثيوبيا، وهي جميعها قوى متوسطة لا تصلح للتنافس مع الأقطاب المذكورة سابقا، حول مقعد ممثل القارة في مجلس الأمن، وهو نفس الأمر الخاص بوسط القارة.
هنا، ربما من المفيد أن نعرض لمميزات ونقاط ضعف المرشحين الأربعة، وفق المعايير التي ذكرناها سابقا حتى لا نتشتت، ولنتبين الأقوى حظا من بينهم: ولتكن البداية من مصر، والتي تجد نفسها في موقع المرشح بحكم التاريخ، والريادة!! حيث أن تأثيرها الأفريقي تراجع بشدة بعد حقبة الرئيس جمال عبد الناصر، وتحديدا مع الرئيس حسني مبارك.
ورغم محاولات الرئيس السيسي لاسترجاع هذا النفوذ في محيطه المباشر على الأقل، إلا أن المشاكل الاقتصادية التي تتخبط فيها بلاده، وأسباب أخرى حالت وتحول دون تحسين جذري لمكانة مصر الأفريقية.
وما الفشل في علاج أزمة سد النهضة مع قوة متوسطة كإثيوبيا، إلا أحد مظاهر هذا العجز. وعليه، فقوتها الدبلوماسية، وعلاقاتها الأفريقية خارج منطقتها، وانخراطها في تقديم حلول لمشاكل محيطها، كلها نقاط ضعف تجعل من مصر تحتل المركز الرابع من بين المرشحين للمهمة.
غير بعيد عن هذا التقييم، نجد نيجيريا، أكبر دول القارة من حيث السكان والدخل القومي، ولكن أيضا من حيث الفساد، والتخبط في مشاكل داخلية إثنية ودينية وغيرها.
الأمر الذي يحد من قدرتها على التحكم في محيطها، وهو ما بدا واضحا من طريقة معالجتها لانقلابات غرب أفريقيا (مالي، بوركينافاسو والنيجر). ومثل مصر الذي تتمتع دول من خارج القارة بنفوذ يتجاوزها في محيطها الإقليمي، نجد وضعا مشابها لنيجيريا في محيطها المباشر، الأمر الذي يجعل حظوظها ضعيفة للظفر بمقعد دائم في مجلس الأمن.
هكذا، ينحصر التنافس بين القوتين الأبرز في القارة، المغرب وجنوب أفريقيا، وهو الأمر الذي يمكن أن يفسر العداء الغريب لهذه الأخيرة تجاه كل ما يهم المغرب، رغم مواقفه المشرفة في معركة تحررها من الميز العنصري، ورغم البعد الجغرافي وعدم وجود تنافس حقيقي بين البلدين.
ترشيح المغرب وجنوب أفريقيا يبدو طبيعيا من وجهة نظر دولية، نظرا لدبلوماسيتهما وتأثيرهما القاري، وعلاقاتهما المتوازنة مع باقي الدول العظمى، مع التطور الواضح لاقتصادهما، والآفاق الواعدة التي يمتلكان حق السعي لها.
وعليه، يمكن القول أن عنصر الحسم الأبرز سيكون صوت الأفارقة، ومدى قناعة دول القارة بقدرة البلدين على الدفاع عن مصالح باقي الدول الأفريقية.
ولو نظرنا إلى امتدادات جنوب أفريقيا قاريا، نجدها متمركزة أساسا في محيطها المباشر جنوب القارة، مع بعض التأثير في دول شرق ووسط القارة (الناطقة بالإنجليزية) ناهيك عن التابع الجزائري، وبدرجة أقل مصر.
أما المغرب، ومع تفوقه الكاسح غرب ووسط القارة، فإنه استطاع تحقيق اختراقات كبرى شرق القارة وفي دول القرن الأفريقي، بل وامتد وجوده إلى دولتين أو أكثر من دول جنوب القارة.
نقطة أخرى تصب في مصلحة المغرب لجهة تأكيد انخراطه في البحث عن حلول لمشاكل القارة الاقتصادية والسياسية والأمنية وغيرها، من خلال: مبادرته لتشبيك الدول الأفريقية المطلة على المحيط الأطلسي، وربط دول غرب القارة بأنبوب الغاز النيجيري، ناهيك عن توفير منفذ بحري لدول الساحل الحبيسة، وتأمين الأمن الغذائي غرب (نيجيريا وغانا) ووسط (الكاميرون ورواندا) وشرق (اثيوبيا وتنزانيا وكينيا) القارة، بواسطة مشاريعه للأسمدة التي تحتاجها مختلف دول القارة، وكلها مبادرات عملية، تكسب المغرب ثقة مختلف جهات القارة السمراء.
أما جنوب أفريقيا، فعداؤها “الأعمى” للمغرب، وسعيها الحثيث لتدعيم الانفصال فيه، سيكون السبب الذي سيفقد الأفارقة ثقتهم في رشد النظام الجنوب أفريقي، وبالتالي عدم أهليته للدفاع عن مصالح قارة تعج بالخلافات الحدودية والتمايزات الداخلية!!
إن موقع المغرب داخل القارة، ما فتئ يتعزز بسبب عبقرية الاستراتيجية التي وضعها ويسهر على تنفيذها ملك البلاد، بمساعدة أجهزة حكومية فعالة، وقطاع خاص وطني نشيط، من مختلف القطاعات التي تحتاجها دول القارة بشدة (البنوك، الاتصالات، النقل، العقار والتجهيز، الخ)، كل ذلك في نطاق معادلة رابح- رابح، وتعاون جنوب- جنوب.
وقد جاءت مواقفه الصلبة في مواجهة المستعمر الفرنسي للقارة السمراء، لتزيد من مصداقيته وسط الأفارقة، وتمنح المغرب ثقة أشقائه وتسليمهم بقيادته في معركة التنمية بعيدا عن المستعمر وأدواته.
يبقى أن موعد تنفيذ هذا الاستحقاق الدولي يحتاج لأن يستقر المشهد الدولي، وتتضح مآلات صراعاته المفتوحة (الشرق الأوسط وأوكرانيا)، بل وربما المؤجلة (تايوان)، ليكون تحديث مجلس الأمن، أحد عناوين نظام دولي متعدد الأقطاب، قائم على التعاون والاحترام المتبادل، ومن لأفريقيا مثل المغرب من يدافع عن هذه القيم، ويدفع بمصالح القارة في خضم دولي مضطرب.