هيثم شلبي
يمكن اعتبار أن الخطاب الملكي في الذكرى الثامنة والأربعين للمسيرة الخضراء، واحدا من الخطابات الفارقة التي سيرجع لها الدارسون والمراقبون لسنوات عديدة مقبلة، حيث أراد له الملك محمد السادس أن يحمل صبغة “استراتيجية”، تتجاوز الاحتفال بالذكرى الوطنية العزيزة، والتأكيد على الثوابت المغربية الخاصة بوحدته الترابية. ومثل خطاب “المغرب في صحرائه والصحراء في مغربها”، سيبقى هذا الخطاب مرجعا لكن من يريد فهم التوجهات الاستراتيجية الكبرى للدبلوماسي
وحتى يصل الخطاب إلى غايته والمقصودين به، حرص الملك محمد السادس على التمهيد له بإيضاح حقيقة ساطعة، في رسالة جريئة لا بد وأنها وصلت إلى المرسلة إليه: لقد “مكنت تعبئة الدبلوماسية الوطنية، من تقوية موقف المغرب، وتزايد الدعم الدولي لوحدته الترابية ، والتصدي لمناورات الخصوم، المكشوفين والخفيين”!! فالمغرب وهو يتابع مناورات خصومه المكشوفين، يؤكد أنه بالمرصاد لمناورات الخصوم المخفيين، الذين يصرون على محاربة المصالح المغربية في كل محفل، لاسيما في القارة الأوروبية. ولأنه كما تقول العرب” يكاد المريب يقول خذوني”، فهي رسالة لا بد وأن تثير الانتباه لدى الخصوم المعنيين، والذين تفضحهم سلوكياتهم العدائية المكشوفة، وإن بالغوا في إبداء المودة.
حسم وحزم يؤكد صلابة الأرض التي تقف عليها الدبلوماسية المغربية، والثقة التي ينظر بها المغرب إلى مستقبله، وهو ما يؤهله أخيرا إلى الانطلاق خارج محيطه الإقليمي الضيق، الغارق في مشاكل داخلية صنعها حكامه بأيديهم. ومن هنا، بدا منطقيا، بعد هذه النبرة الواثقة المطمئنة أن ينتقل الخطاب الملكي إلى الرسالة التي يود توجيهها إلى أشقائه الأفارقة، والكفيلة بتقديم الإجابات الشافية للمشاكل التي يتخبطون فيها، أمنيا وسياسيا واقتصاديا واجتماعيا، والتي لا تعدو كونها فواتير متأخرة للاستعمار الشرس الذي مورس على القارة السمراء، ونهب خيراتها وأفقر شعوبها، وشجع الانقلابات العسكرية فيها، وحرمها بذلك من الاستقرار السياسي، وأعاق تقدمها على درب الديمقراطية والحكم الرشيد، والأهم، أنه لا يزال يحاول “تأبيد” هذه الحالة، لعلمه أن سقوط نفوذه الأفريقي، وحرمانه من خيراتها الطبيعية، كفيل بإخراجه من عداد الدول الكبرى!!
لقد شكلت مبادرة المغرب قبل عام ونيف من الآن، إلى تأسيس منظومة عابرة للتجمعات الاقتصادية الأفريقية، غرب (إكواس) ووسط (إيكاس) وجنوب (سادك) القارة، تحظى بعضوية جميع الدول الأفريقية الواحدة والعشرين المطلة على المحيط الأطلسي، في انتظار التحاق أنغولا وناميبيا ليكتمل عقد المجموعة التي ستضم ساعتها نحو نصف دول القارة، الجواب الشافي على المشاكل التي تتخبط فيها القارة، ومن شأن تحقيق الرؤية الملكية لهذا التجمع أن يشكل قاطرة لتوحيد القارة بأكملها بشكل حقيقي في وجه مستعمريها القدماء والجدد.
وفي هذا السياق، لم يفت العاهل المغربي الملك محمد السادس إرسال إشارة ذكية لدول الساحل، المحرومة من التمتع بالولوج إلى المحيط الأطلسي، وهي المجاورة للتجمع الجديد، والتي كانت ضحية التقسيمات العشوائية للحدود، والتي قام بها المستعمر خدمة لمصالحه الخاصة، على حساب مستقبل هذه الدول لعقود قادمة. وعليه، فمالي والنيجر وبوركينافاسو وفق الرؤية الملكية، يجب أن تكون مشمولة بمظلة التجمع الجديد، وهو ما يمكن تحقيقه عبر توفير نافذة أطلسية لهذه الدول، عبر موانئ الصحراء المغربية الأقرب لها (الداخلة والعيون)، وذلك بعد توفير الشروط السياسية واللوجستية لذلك. وردا على من قد يعتقد أنه مشروع صعب التحقق، يكفي أن نعرف أن عواصم هذه الدول الثلاث تبعد عن مدينة “تاودني” بشمال مالي قرابة 1400 كيلومتر، والتي تبعد بدورها 1200 كيلومتر من ميناء الداخلة، وذلك عبر الأراضي الموريتانية التي يعتبر تعاونها في هذا المشروع حاسما لمصلحتها الذاتية ومصلحة هذه الدول، وهي مسافات قام المغرب بمد طرقات دولية في صحرائه بمسافات أطول منها، ويملك من الخبرة والإمكانات ما يؤهله لتكرار هذه التجربة.
هكذا، وفي سياق هذه الرؤية الاستراتيجية يمكن أن نفهم لماذا يتبنى المغرب ويدافع عن خط أنابيب الغاز النيجيري المغربي، والذي يمر عبر خمس عشرة دولة أفريقية أطلسية، وستمتد خيراته لتشمل دول الساحل الثلاث (مالي والنيجر وبوركينافاسو). في المقابل، يتخبط جنرالات الجزائر، مدنيين وعسكريين، في محاولة الرد المتأخر على هذه الخطوات الاستراتيجية، بمبادرات دعائية فارغة، ومشاريع اقتصادية محدودة، لا يقف وراءها سوى دافع واحد: مناكفة المغرب، وتنفيذ أجندة خصومه “المخفيين”، وذلك بمحاولة شراء الذمم لمعاكسة وحدته الترابية. سعي محكوم بالفشل منذ اللحظة الأولى، حيث من أصل الدول الثلاثة والعشرين للتجمع القاري الجديد، لا يوجد سوى جنوب أفريقيا التي تناصب المغرب العداء، والتي شكلت المبادرة المغربية ضربة في الصميم لجهودها لريادة القارة، مع بعض الدعم المنتظر من ناميبيا، هذا مقابل حالة الحياد الإيجابي التي تتخذها كلا من موريتانيا ونيجيريا، الأمر الذي يبقي 19 عضوا لا يعترفون بالبوليساريو ولا جمهوريتها الوهمية!!
ختاما، على خصوم المغرب “الخفيين” أن يرضخوا لمنطق الواقع الجديد، وأن يقروا بالريادة المغربية في محيطه الإقليمي والقاري، ولا يكتفوا بمجرد تكرار كلمات باردة عن “جدية مقترح الحكم الذاتي”، الذي أصبح واقعا لا تحتاج الدبلوماسية المغربية لبذل جهود من أجل الترويج له؛ وأن يقبلوا بدفن تاريخهم الاستعماري ويرضخوا للتعامل مع مستعمراتهم السابقة بمنطق “الندية”. خلاف ذلك، ستتوالى الضربات الموجهة لهم، مغربيا وأفريقيا، وسيكون خروجهم من قارتهم المفضلة “مدويا”!!