بقلم: هيثم شلبي
كعهده دائما، تتجه أنظار العرب والمسلمين، خلال الشهور الستة المقبلة إلى المغرب، لمعرفة الشكل الذي خرجت به نخبه “لمدونة الأسرة” أو قانون الأحوال الشخصية الجديد، بعد أن منح العاهل المغربي الملك محمد السادس هذه المهلة لأطراف المهمة “التشاركية”، التي تضم أبرز الكفاءات القانونية، والأكاديميين، وناشطي المجتمع المدني، من أجل الاستجابة لمطلب “تحديث” منظومة القوانين التي تشتمل عليها المدونة، والتي تنظم وتمس حياة كل مغربي ومغربية، بعد أن مضى على إخراجها للوجود قرابة العقدين من الزمن، وتولدت حاجة واقعية لمراجعتها، حتى تستطيع أن تجيب على أسئلة الواقع المستجدة خلال هذه الفترة الطويلة.
وقد تعوّد المغاربة، ومن ورائهم العرب والمسلمين، على قدرة النخب المغربية على “ابتكار” حلول وتسويات للمشاكل السياسية والاجتماعية والفكرية والاقتصادية المعقدة، بقدرتهم العجيبة -والمتفردة- على تنحية أو تحييد الجانب الأيديولوجي الذي لطالما أفسد العمل في باقي الدول، مما سهل لهم الخروج “بتسويات” واقعية، لا تشي بوجود طرف منتصر وآخر مهزوم. وهكذا، كان المغرب سباقا لابتكار مفهوم “التناوب” السياسي على إدارة الشأن العام، وهو ما أهله ليكون الأول في تشكيل حكومات ائتلافية، يجاور فيه الإسلاميون الليبراليين والشيوعيين والقوميين، ويقودها الاشتراكيون أولا، والإسلاميون تاليا. كما كان المغرب أولا في إقرار مسؤولية الدولة عن ماضي انتهاكات حقوق الإنسان، وبالتالي قدم نموذجه المتفرد “للعدالة الانتقالية”. نفس الريادة كانت عبر صياغة مدونة (قانون) جديدة للأسرة أو الأحوال الشخصية، بعد مسار شاق بين إسلامييه وعلمانييه، وكذا صياغة دستور توافقي جديد كليا في أعقاب ثورات الربيع العربي، بشكل ليس له سابقة تضاهيه في النضج والابتكار. تفرد ينطبق كذلك على نموذجه المتفرد في الاقتصاد غير المبني على الريع الطاقي، وغير ذلك من باقي المجالات الثقافية والاجتماعية، الخ.
لكن أجواء “التسخين الأيديولوجي” المرافقة لمهمة تحديث مدونة الأسرة، تشي بولادة ربما ستكون متعسرة، إذا لم تستحضر النخب الحالية، روح وقدرات أسلافها، وتحررت من “أسر” انتماءاتها الأيديولوجية، وتوقفت عن رفع سقف مطالبها عاليا، رغبة في تحقيق أكبر مكاسب، عند الوصول لمرحلة البحث عن تسويات. لكن ما يجب قوله هنا، على الرغم من أنه قد يبدو صادما، هو أن الطرفين المتنافسين (الإسلاميين والعلمانيين) هما وجهان لعملة واحدة، ويشتركان في الأمر الأكثر أهمية: “المرجعية الخارجية”!! كيف ذلك؟
يرفع التيار العلماني شعار “سمو المرجعيات والمواثيق الدولية” المنظمة للمجال الحقوقي، بما في ذلك الأحوال الشخصية وما تضمه مدونة الأسرة، وعليه، فهي لا تقيم وزنا كبيرا -عادة- للخصوصيات الثقافية والاجتماعية المحلية! مرجعية لا يختلف اثنان على وصفها “بالخارجية”. لكن، وفي الطرف المقابل، يشهر المنتمون للتيار الإسلامي، تفسيرات وإجابات تنتمي إلى اجتهادات فقهاء عصور مضت، أجابوا على أسئلة مجتمعات لا علاقة لها بالمجتمع المغربي الحالي، ولا تهتم كثيرا بما هو مشترك بين المغاربة وباقي شعوب الأرض في حاجاتهم الحقوقية. وعليه، يجوز اعتبارها بأنها مرجعية “خارجية” بدورها. أما المطلوب، فهو وضع الإشكالات “الحقيقية وليس الافتراضية” التي يموج بها الواقع المغربي، والتصدي لمحاولة الإجابة عليها، بالاطلاع طبعا على إجابات المرجعيتين السابقتين معا، ومراعاة الانتماء الفكري والوجداني والثقافي والاجتماعي للمغاربة للإسلام من جهة، ويراعي انخراطهم في العالم بكل ما يموج فيه من ثقافات وحضارات؛ لكن يجب في النهاية أن تكون الأسئلة والإجابات واقعية، تعكس حاجة مجتمعية مثبتة من خلال الإحصائيات والدراسات، ولا يتحول النقاش بين هذه النخب إلى نقاش فكري أيديولوجي افتراضي لا علاقة له بغالبية المغاربة أو واقعهم!!
وكتمثيل على ما سبق، نكتفي بالتطرق لبعض الإشكاليات “الساخنة” كالإرث مثلا، حيث يتمسك التيار العلماني بفكرة “المساواة” فيه بين الذكور والإناث، كما تنص على ذلك المرجعيات الغربية أساسا، بشكل يرى فرقاؤهم الإسلاميون أنه لا يقيم وزنا لنصوص القرآن وما يعتبرونه أحاديث صحيحة نسبت للرسول محمد عليه الصلاة والسلام. وفي المقابل، يتمسك الفريق الإسلامي بتفسيرات تعتمد “مرجعية الفقهاء العباسيين تحديدا” لمسائل الإرث، رافضين الكثير من الاجتهادات -الفقهية بدورها- التي تقدم إجابات مختلفة لفهم “السلف الصالح”، والكفيلة بتقريب المسافات مع نظرائهم العلمانيين. وفي هذا السياق، يغفل هذا النقاش، بشكل واع أو غير واع، مسائل داخل قضية المواريث، تؤذي المجتمع ومختلف المواطنين، وتحديدا النساء، أكثر بكثير من قضية مقدار الإرث! وعليه، كان أولى أن ينصب النقاش على كيفية رفع الحيف عن النساء اللواتي يحرمن من إرثهن الشرعي نتيجة “المرجعية العباسية” التي فسرت كلمة “ولد” في الآية “فإن لم يكن له ولد” على أنها تعني “ذكر”، وهو تفسير “سياسي” لا يقبله كثير من الفقهاء، ويترتب عليه ظلم اجتماعي بيّن. نفس الأمر ينطبق على ما يراه كثير من الفقهاء “المختلفين” من أنه تعطيل لجميع آيات القرآن التي تتحدث عن الوصية، بواسطة حديث منسوب للنبي الكريم يقول: “لا وصية لوارث”!! وهو ما من شأن تجاوزه أن يقود إلى تعديل الخلل الحاصل في مسألة المواريث برمتها. لقد أرادت حكمة الله الواردة في القرآن الذي بين أيدينا، أن تجعلنا مسؤولين عن توزيع ما اكتسبناه من أموال بشكل مرن عبر “الوصية”، بشكل نراعي فيه تفاوت قدرات وأوضاع أبنائنا، وحتى أقاربنا وجيراننا ومؤسسات مجتمعنا، ولم تقنن هذا الحق في ثلث التركة من غير الورثة فقط، ولو التزمنا بهذا التوجيه الإلهي، دون الإصرار على “التمترس” خلف نسبة النصف أو الثلث أو غيرها للنساء مقابل الرجال، لوجدنا المخرج الذي يعود بالفائدة على مجتمعنا، ويرفع الحيف عن العديد من مواطنيه.
نفس الأمر ينطبق على قضايا الولاية والحضانة والنفقة والقوامة وتقاسم الأموال بعد الطلاق وغيرها، فالمطلوب عدم “شرعنة” ممارسات وأفهام من نراهم “سلفا صالحا” أو “مرجعية كونية”، ونغفل ما يترتب على هذه الممارسات من مآس اجتماعية، لاسيما مع إغفال هذه الممارسات لمستجدات الواقع الاجتماعي الذي يعيشه المغاربة والمغربيات. لقد تغير النسيج المجتمعي نتيجة التطورات التي لحقت بالواقع الاقتصادي، ولم يعد بالإمكان “إسقاط” إجابات افتراضية لمجتمعات إسلامية سابقة، كانت طبيعة العلاقة بين الطرفين فيها، اجتماعيا واقتصاديا، مختلفة كليا. لكن بالمقابل، فخروج المرأة للعمل، لم يحول المرأة المغربية إلى فرنسية أو سويدية، ولم تصبح العلاقة بينها وبين زوجها أو عائلتها نسخة من طبيعة الأسرة الأمريكية. وعليه، يجب أن تناقش هذه القضايا من طرف أناس مشدودين إلى محاولة تحسين واقع مواطنيهم، وليس محاولة “التماهي” مع مجتمعات “مثالية” توجد في مخيلة الأطراف المتحاورة فقط.
ختاما، فالمكانة التي يتمتع بها أمير المؤمنين، كرأس للسلطتين “الزمنية والروحية” هي الضمانة التي تمنع من طغيان أحدهما على الأخرى، وعليه، جاء طلبه بتحويل نتائج عمل هذه النخب ولجانها إلى جلالته للنظر فيها، قبل أن يصار إلى تنزيلها في قوانين. والأكيد، ورغم أجواء الشحن الهادفة إلى تحسين المكاسب، فإن ما سيحصل عليه المغاربة والمغربيات في النهاية، هو منتوج سيسهم بشكل كبير في تحسين الظروف الاجتماعية لهم، وتقوية انتمائهم إلى حضارتهم الإسلامية، وتقوية صلاتهم بباقي دول ومجتمعات العالم.
وقد تعوّد المغاربة، ومن ورائهم العرب والمسلمين، على قدرة النخب المغربية على “ابتكار” حلول وتسويات للمشاكل السياسية والاجتماعية والفكرية والاقتصادية المعقدة، بقدرتهم العجيبة -والمتفردة- على تنحية أو تحييد الجانب الأيديولوجي الذي لطالما أفسد العمل في باقي الدول، مما سهل لهم الخروج “بتسويات” واقعية، لا تشي بوجود طرف منتصر وآخر مهزوم. وهكذا، كان المغرب سباقا لابتكار مفهوم “التناوب” السياسي على إدارة الشأن العام، وهو ما أهله ليكون الأول في تشكيل حكومات ائتلافية، يجاور فيه الإسلاميون الليبراليين والشيوعيين والقوميين، ويقودها الاشتراكيون أولا، والإسلاميون تاليا. كما كان المغرب أولا في إقرار مسؤولية الدولة عن ماضي انتهاكات حقوق الإنسان، وبالتالي قدم نموذجه المتفرد “للعدالة الانتقالية”. نفس الريادة كانت عبر صياغة مدونة (قانون) جديدة للأسرة أو الأحوال الشخصية، بعد مسار شاق بين إسلامييه وعلمانييه، وكذا صياغة دستور توافقي جديد كليا في أعقاب ثورات الربيع العربي، بشكل ليس له سابقة تضاهيه في النضج والابتكار. تفرد ينطبق كذلك على نموذجه المتفرد في الاقتصاد غير المبني على الريع الطاقي، وغير ذلك من باقي المجالات الثقافية والاجتماعية، الخ.
لكن أجواء “التسخين الأيديولوجي” المرافقة لمهمة تحديث مدونة الأسرة، تشي بولادة ربما ستكون متعسرة، إذا لم تستحضر النخب الحالية، روح وقدرات أسلافها، وتحررت من “أسر” انتماءاتها الأيديولوجية، وتوقفت عن رفع سقف مطالبها عاليا، رغبة في تحقيق أكبر مكاسب، عند الوصول لمرحلة البحث عن تسويات. لكن ما يجب قوله هنا، على الرغم من أنه قد يبدو صادما، هو أن الطرفين المتنافسين (الإسلاميين والعلمانيين) هما وجهان لعملة واحدة، ويشتركان في الأمر الأكثر أهمية: “المرجعية الخارجية”!! كيف ذلك؟
يرفع التيار العلماني شعار “سمو المرجعيات والمواثيق الدولية” المنظمة للمجال الحقوقي، بما في ذلك الأحوال الشخصية وما تضمه مدونة الأسرة، وعليه، فهي لا تقيم وزنا كبيرا -عادة- للخصوصيات الثقافية والاجتماعية المحلية! مرجعية لا يختلف اثنان على وصفها “بالخارجية”. لكن، وفي الطرف المقابل، يشهر المنتمون للتيار الإسلامي، تفسيرات وإجابات تنتمي إلى اجتهادات فقهاء عصور مضت، أجابوا على أسئلة مجتمعات لا علاقة لها بالمجتمع المغربي الحالي، ولا تهتم كثيرا بما هو مشترك بين المغاربة وباقي شعوب الأرض في حاجاتهم الحقوقية. وعليه، يجوز اعتبارها بأنها مرجعية “خارجية” بدورها. أما المطلوب، فهو وضع الإشكالات “الحقيقية وليس الافتراضية” التي يموج بها الواقع المغربي، والتصدي لمحاولة الإجابة عليها، بالاطلاع طبعا على إجابات المرجعيتين السابقتين معا، ومراعاة الانتماء الفكري والوجداني والثقافي والاجتماعي للمغاربة للإسلام من جهة، ويراعي انخراطهم في العالم بكل ما يموج فيه من ثقافات وحضارات؛ لكن يجب في النهاية أن تكون الأسئلة والإجابات واقعية، تعكس حاجة مجتمعية مثبتة من خلال الإحصائيات والدراسات، ولا يتحول النقاش بين هذه النخب إلى نقاش فكري أيديولوجي افتراضي لا علاقة له بغالبية المغاربة أو واقعهم!!
وكتمثيل على ما سبق، نكتفي بالتطرق لبعض الإشكاليات “الساخنة” كالإرث مثلا، حيث يتمسك التيار العلماني بفكرة “المساواة” فيه بين الذكور والإناث، كما تنص على ذلك المرجعيات الغربية أساسا، بشكل يرى فرقاؤهم الإسلاميون أنه لا يقيم وزنا لنصوص القرآن وما يعتبرونه أحاديث صحيحة نسبت للرسول محمد عليه الصلاة والسلام. وفي المقابل، يتمسك الفريق الإسلامي بتفسيرات تعتمد “مرجعية الفقهاء العباسيين تحديدا” لمسائل الإرث، رافضين الكثير من الاجتهادات -الفقهية بدورها- التي تقدم إجابات مختلفة لفهم “السلف الصالح”، والكفيلة بتقريب المسافات مع نظرائهم العلمانيين. وفي هذا السياق، يغفل هذا النقاش، بشكل واع أو غير واع، مسائل داخل قضية المواريث، تؤذي المجتمع ومختلف المواطنين، وتحديدا النساء، أكثر بكثير من قضية مقدار الإرث! وعليه، كان أولى أن ينصب النقاش على كيفية رفع الحيف عن النساء اللواتي يحرمن من إرثهن الشرعي نتيجة “المرجعية العباسية” التي فسرت كلمة “ولد” في الآية “فإن لم يكن له ولد” على أنها تعني “ذكر”، وهو تفسير “سياسي” لا يقبله كثير من الفقهاء، ويترتب عليه ظلم اجتماعي بيّن. نفس الأمر ينطبق على ما يراه كثير من الفقهاء “المختلفين” من أنه تعطيل لجميع آيات القرآن التي تتحدث عن الوصية، بواسطة حديث منسوب للنبي الكريم يقول: “لا وصية لوارث”!! وهو ما من شأن تجاوزه أن يقود إلى تعديل الخلل الحاصل في مسألة المواريث برمتها. لقد أرادت حكمة الله الواردة في القرآن الذي بين أيدينا، أن تجعلنا مسؤولين عن توزيع ما اكتسبناه من أموال بشكل مرن عبر “الوصية”، بشكل نراعي فيه تفاوت قدرات وأوضاع أبنائنا، وحتى أقاربنا وجيراننا ومؤسسات مجتمعنا، ولم تقنن هذا الحق في ثلث التركة من غير الورثة فقط، ولو التزمنا بهذا التوجيه الإلهي، دون الإصرار على “التمترس” خلف نسبة النصف أو الثلث أو غيرها للنساء مقابل الرجال، لوجدنا المخرج الذي يعود بالفائدة على مجتمعنا، ويرفع الحيف عن العديد من مواطنيه.
نفس الأمر ينطبق على قضايا الولاية والحضانة والنفقة والقوامة وتقاسم الأموال بعد الطلاق وغيرها، فالمطلوب عدم “شرعنة” ممارسات وأفهام من نراهم “سلفا صالحا” أو “مرجعية كونية”، ونغفل ما يترتب على هذه الممارسات من مآس اجتماعية، لاسيما مع إغفال هذه الممارسات لمستجدات الواقع الاجتماعي الذي يعيشه المغاربة والمغربيات. لقد تغير النسيج المجتمعي نتيجة التطورات التي لحقت بالواقع الاقتصادي، ولم يعد بالإمكان “إسقاط” إجابات افتراضية لمجتمعات إسلامية سابقة، كانت طبيعة العلاقة بين الطرفين فيها، اجتماعيا واقتصاديا، مختلفة كليا. لكن بالمقابل، فخروج المرأة للعمل، لم يحول المرأة المغربية إلى فرنسية أو سويدية، ولم تصبح العلاقة بينها وبين زوجها أو عائلتها نسخة من طبيعة الأسرة الأمريكية. وعليه، يجب أن تناقش هذه القضايا من طرف أناس مشدودين إلى محاولة تحسين واقع مواطنيهم، وليس محاولة “التماهي” مع مجتمعات “مثالية” توجد في مخيلة الأطراف المتحاورة فقط.
ختاما، فالمكانة التي يتمتع بها أمير المؤمنين، كرأس للسلطتين “الزمنية والروحية” هي الضمانة التي تمنع من طغيان أحدهما على الأخرى، وعليه، جاء طلبه بتحويل نتائج عمل هذه النخب ولجانها إلى جلالته للنظر فيها، قبل أن يصار إلى تنزيلها في قوانين. والأكيد، ورغم أجواء الشحن الهادفة إلى تحسين المكاسب، فإن ما سيحصل عليه المغاربة والمغربيات في النهاية، هو منتوج سيسهم بشكل كبير في تحسين الظروف الاجتماعية لهم، وتقوية انتمائهم إلى حضارتهم الإسلامية، وتقوية صلاتهم بباقي دول ومجتمعات العالم.