سيظل الرابع عشر،من شهر أغسطس، 2015 يوما مشهودا في سجل العلاقات الدولية. يمكن اعتباره مؤشرا دالا على نهاية ما تبقى من مخلفات الحرب الباردة، حيث تسعى دول العالم بمفردها ومتكتلة،الى صياغة علاقات دولية، بديلة لتلك التي نهضت على أنقاض الحرب الكونية الثانية وما ترتب عنها من مشكلات ما زال بعضها يلقي بثقله على مناطق معينة.
لقد قطعت الولايات المتحدة وكوبا، علاقاتهما الدبلوماسية، منذ عام 1961على إثر أزمة كادت ان تؤدي الى مواجهة نووية مدمرة بين الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة.
وليسهنا مجال البحث عن المتسبب في التصعيد الخطير، من الجانبين، ولا القوى المستترة والظاهرة التي وجدت، آنذاك، ان مصالحها تكمن في تأجيج الصراع وإدامة الأزمة، بين العملاقين والدفع بهما الى حافة الهاوية، في ذلك الزمن المشحون؟
تلك أسئلة يجيب عنها المؤرخون، بالبحث والتنقيب في الأوراق والملفات والتقارير السرية، ليعرضوا خلاصاتهم واستنتاجاتهم التقويمية،لأحداث شكلت تهديدا حقيقيا للسلم والاستقرار الدولي.
ان رفع العلم الأميركي، يوم الجمعة الماضي، فوق مبنى السفارة المهجور، طوال أكثر من نصف قرن، في العاصمة الكوبية، يكاد يشبه في رمزيته،عملية النزول الأميركي على كوكب القمر، وما احدثه في حينه من ردود فعل منبهرة او مستنكرة مشككة، في أنحاء شتى من العالم، صيف العام 1969.
ويجوز، ولو على سبيل المجاز السياسي، تشبيه وزير الخارجية الأميركي، جون كيري، في بعض الجوانب،بمواطنه رائد الفضاء الراحل “نيل ارمسترونغ” في الوحشة التي استشعرها الأول، رفقة زميله في المغامرة غير المسبوقة،و وهو يضع قدميه فوق أرضية الكوكب المجهول،لا يدري ان أدرك السطح ام ما زال عالقا بينه وبين فضاء ضبابي معتم، لا نهاية له .هل هو شعور مماثل، خامر وزير الخارجية؟
المزيد: بعد نصف قرن من القطيعة..رفع العلم الأمريكي بكوبا
بالتأكيد لم يشاهد نزول “كيري “في مطار، هافانا، او وهو يرفع علم بلاده فوق المبنى الشاهق، ثم تجواله الرمزي في شوارع العاصمة؛ لم تشاهده نفس أعداد البشر الذين تحلقوا حول تلفزيونات العالم، بالأبيض والأسود والملوّنة، للتحقق من معجزة العلم وقدرة الإنسان الخارقة على اختراق حجب الفضاء.
الوزير كيري، وهو يشاهد الكوبيين، قريبا من سحناتهم، في شوارع عاصمة السيجار، ربما أحس، بما يشبه الاغتراب، وهو يسير فوق ارض معادية غير مأمونة ومن دون ان يظفر بمتابعة قوية من طرف مشاهدي التلفزيون في دول العالم. فهؤلاء، أيقنوا ان الحادث في حد ذاته ليس مثيرا، بل تحصيل حاصل؛ فالتطبيع بين البلدين سبقته خطوات ومراحل تمهيدية،يعود العلني منها الى عام 1977 على عهد الرئيس الديموقراطي، جيمي كارتر. فهو،بنزعته الإنسانية، اول ساكن للبيت الأبيض، حاول تحريك الستار الفولاذي المضروب على كوبا، الرافضة لترغيب وترهيب زعيمة العالم الحر.
هل استطابت واشنطن، تمثيل مسرحية افتراضية مع قوة صغيرة محاصرة في جزيرة يحكمها رهط من الرومانسيين الثوريين، وهي التي كانت الأقدر، في كل الأوقات، على إيقاع الشر والأذى بنظام كاسترو؟ أم كان هدف الإدارات الأميركية المتوالية، تخويف الأنظمة الأخرى في أميركا الجنوبية،من مارد شيوعي محتمل، ما يعني اضطرارها، وأغلبها عسكري، على مدى عقود، الى الاعتماد على واشنطن والتموقع في فلكها؟
حقا، استفاد نظام، كاسترو، من تهديد مستمر لوجوده، من طرف جيرانه الأقوياء،فبحث عن العون الخارجي وضمن البقاء والغطاء السياسي والعسكري من المعسكر الشرقي.
بعد فشل محاولة الرئيس كارتر وعدم إعادة انتخابه، كان لابد من انتظار أكثر من أربعة عقود، ليرى تاجر الفستق، ما طمح الى التوصل اليه مع الرئيس الملتحي،فيدل كاسترو، إلى ان سكن البيت الأبيض، رئيس ديموقراطي اسود، ليتفق مع شقيق “كاسترو”.
أكيد ان عوامل اخرى، ساهمت في حدوث تقارب تدريجي بين البلدين، عجل به التصدع الذي أصاب المعسكر الشرقي،لتجد كوبا نفسها يتيمة الوالدين، وقد كانت مستكينة في الحضن السوفياتي.
في هذا السياق، لا يجب التقليل من تأثير الرأي العام الداخلي والخارجي، مع تفاوت،في البلدين. لعله الحاسم في تذليل صعوبات الصلح .ليست هي نفس الحشود التقليدية التي خرجت في ستينيات القرن الماضي الىى الشوارع والساحات،هاتفة ومنددة بحرب الفيتنام ؛ بل جيل جديد لا مرئي، يسبح ويبحر ويجول بين ثنايا عوالم افتراضية، في أرجاء الشبكة العنكبوتية، راسيا وعموديا وأفقيا. بات الجيل الرقمي الصاعد قوة ضاغطة يحسب لها حسابها، يأخذها بعين الاعتبار السياسيون والدبلوماسيون ورجال المال والأعمال وكذا رموز الدين والإعلام، قبل اتخاذ قرارات مفصلية.
ربما أدركت تلك الأطراف، عبثية المشهد فسخرت منه ! كيف يعقل ان تتحول دولة صغيرة،الى شوكة سياسية وعسكرية مزعجة، في حلق الدولة الجبروت ؟ لابد من كشف اللغز!!
وكما وضع ملف كوكب القمر على الرف في وكالة الفضاء الأميركية، بعد فك اغلب ألغازه .فذلك ما قد يحدث للقضية الكوبية . قد تترك لحالها، تواجه بمفردها مصاعب الانفتاح، ذلك ان القضايا الخلافية العالقة بين البلدين لم يتم الاتفاق بشأنها والحسم فيها، فما طلبه الشيوعيون في، هافانا،وشددوا عليه،هو ان يتركهم رأسماليو أميركا وشأنهم، يصنعون مستقبلهم السياسي بأنفسهم، بتخليهم عن دعم المعارضة في المنفى والكف عن تشجيع الناشطين في الداخل. وهذا التزام ليس سهلا ان تقبله واشنطن .فهل ينشب صراع آخر؟
ألح الكوبيون،أيضا على رفع الحصار الاقتصادي الكامل عن بلدهم. قد يلين موقف الأميركيين، بهذا الخصوص، للحفاظ على موقع قدم وحصتهم في السوق الواعدة.
نزع الأقفال من الأبواب، سيقوي المنافسة الدولية على كوبا، لدواعي اقتصادية واستراتيجية . وهذاما ترغب فيه،هافانا.هل هي أضغاث أحلام؟
ان يتزامن التطبيع الأميركي مع كوبا، وتوقيع اتفاق الرقابة على السلاح النووي مع إيران، فهو إشارة على ان العالم يتغير فعلا في اتجاه تشكل جديد، وبالتالي صار محكوما على كوبا وأميركا، توديع التطرّف واستبداله بعلاقات واقعية وبراغماتية، علما ان الرهان ليس سهلا ومضمونا.
وقد يأتي قريبا دور كوريا الشمالية، رغم اختلاف طبيعة الصراع والفاعلين فيه وخصوصية الأوضاع الاستراتيجية في ذلك الجزء المضطرب من القارة الآسيوية.
اهم ما يمكن ان تجنيه كوبا من تصالحها مع الولايات المتحدة، عودتها الى الأسرة الدولية، ليس كنظام مارق، لتستعيد دورها ووضعها الطبيعي، خاصة، في نصف القارة الجنوبي .
سيواجه نظام” كاسترو مكرر” بالتأكيد مشاكل الانفتاح والانتقال من دولة تحكمية واقتصاد موجه،اعتاد التضييق على الحريات؛ الى وضع شبيه بالديموقراطي. سيكون التحول، محفوفا بمخاطر جمة : فإما ان ينهار النظام القديم كلية، كما حدث لحاميه في الاتحاد السوفياتي، فتعم الفوضى وتندلع أزمات يعقبها فتور .
بإمكان شيوعيي كوبا، التعلم من تجربة رفاقهم في الصين، بتركيز الجهد على إشباع المواطنين بالطعام وليس بالخطب الثورية الرنانة، وان يفتحوا صنابير الحرية بجرعات معقولة
يحضر في هذا السياق تصريح ادلى به الرئيس الكوبي الحالي، اذ قال في معرض إشادته بدور البابا في تحقيق الصلح مع أميركا “إنه،اي البابا، إن زار كوبا، فسيصلي،أي راؤول كاسترو، وراءه.
اقتحم التغيير رحاب الكنيسة،فلماذا لا يطال الماركسية الكوبية العنيدة، اما اللينينية فقد تحولت الى تراث محفوظ في المتاحف، علامة على ماض ولى.
مظاهر التغيير في كوبا،تجسدت في جري مأت الشباب نحو محلات”الويفي” لحجز مكان في الشبكة العنكبوتية. لاضير ان حمل الشبان شارات الشيوعية وارتدوا قمصانا عليها صورة “تشي غيفارا “. المهم ان تباشير “الويفي “لاحت في الأفق.