في مقالنا السابق «شفرة تعليق تعنون أزمات منطقتنا»، توقفنا أمام استمرار عقدة أزماتنا وامتدادها إلى آماد طويلة لحين تقرر خاتمتها مشيئة القوى الدولية التي لم تكن بعيدة عن إعطاء
إشارة بدئها، والتي تملك، بلا ريب، مفاتيح حلها متى ما ضعفت، أو زالت عوامل الاستفادة من استمرارها، وفقا لحسابات العائد والتكاليف، حيث تظل حروبنا الأهلية مركونة ومصفوفة ضمن الملفات المصنفة لدى وزارات خارجية تلك القوى العظمى النافذة، تحت عنوان «ملفات أزمات معلقة» Pending Crises folders، التي حتى لو أرادت قوى إقليمية أو دولية المجازفة بمحاولة فك عقد استمرارها وحلحلتها بغية وضع نهاية للأضرار الجسيمة التي تتكبدها قطاعات المال والأعمال في البلدان المرتبطة، خصوصاً بعلاقات أسواق معها، فإن محاولاتها ستبوء بالفشل لا محالة إذا لم تنل موافقة القوى الدولية الممسكة كما قلنا ب«آليات عمل وتشغيل» هذه الحروب.
ليبيا قد تشكل استثناءً في هذه القاعدة «الذهبية» المعمول بها منذ أمد طويل، في ما خص السياسة المتبعة تجاه تعليق الأزمات Pending لحين «استوائها» وتقرير مصيرها. هذا ما توفره، حتى الآن على الأقل، المعلومات المتوافرة والمتصلة بالحرب الأهلية الدائرة في ليبيا منذ صيف العام الماضي حين انقسمت البلاد إلى شطرين بحكومتين متنازعتي السلطات، إحداهما يعترف بها المجتمع الدولي، وهي متواجدة في مدينة طبرق الواقعة في الشرق الليبي وتحظى بدعم «الجيش الوطني» الذي يقوده الفريق أول خليفة حفتر، وحكومة مناوئة لها في الغرب مدعومة من ميليشيات «فجر ليبيا» المحسوبة على الإخوان المسلمين وتتخذ من العاصمة طرابلس منذ أغسطس/آب 2014، مقراً لها، وتحظى بدعم تنظيمات الإخوان في المنطقة ومنها على سبيل المثال لا الحصر رئيس حزب النهضة التونسي راشد الغنوشي الذي أعلن صراحةً دعمه للحكومة الموازية التي شكلتها الميليشيات المتمردة في طرابلس. فكان أن انقسمت ليبيا عملياً إلى دولتين واحدة في الشرق والثانية في الغرب تتنازعان حيازة ثروات البلاد وأحقية استغلالها جهوياً، فصارت هناك شركتان للنفط وقوتان عسكريتان ترفدان هذ الصراع على ثروات البلاد.
المزيد: ليبيا من بلد الثورة إلى بؤرة التطرف والإرهاب
ومنذ شهر مارس/آذار الماضي دُفع الطرفان المتحاربان دفعاً للجلوس على طاولة مفاوضات تم الترتيب لعقدها وإدارتها في منتجع الصخيرات السياحي في المغرب، وأُوكلت رعايتها لمنظمة الأمم المتحدة التي كلّف أمينها العام بدوره بيرناردينو ليون كممثل خاص له لدى طرفي الصراع، بهدف التوصل لاتفاق على تشكيل حكومة وحدة وطنية، وبموازاة هذه المفاوضات، ترعى الأمم المتحدة أيضاً حوارات بين الأحزاب، وأخرى بين عمداء البلديات وثالثة بين القبائل.
ولأن الظروف الموضوعية والذاتية المحركة للحرب بين الطرفين ما زالت تحتفظ بكامل ديناميكيتها (بعيد منتصف ليل يوم الأحد 12 يوليو/تموز الماضي انفجرت حقيبة متفجرات أمام مقر السفارة المغربية)، فقد كان من الصعب على الأطراف الدولية التي أجبرتهما على الجلوس معاً على طاولة الحوار، إقناعهما «ودياً» بالتوصل إلى حل يرضيهما معاً ويضع حداً للحرب الأهلية المندلعة بينهما منذ إغراق البلاد في الفوضى بعد إسقاط نظام العقيد معمر القذافي عام 2011 بإسناد من الحرب الجوية التي شنها حلف شمال الأطلسي ضد ليبيا. لذا فقد تمت الاستعانة بالعصا الغليظة لمجلس الأمن الدولي لتهديد الأطراف الليبية التي تقف عثرة أمام حل الأزمة، حيث أصدر المجلس بياناً بالإجماع جاء فيه انه «مستعد لفرض عقوبات على الذين يهددون السلام والاستقرار والأمن في ليبيا أو الذين يقفون عقبة أمام المرحلة الانتقالية» في البلاد. وقد أثمر هذا الضغط بعد شهرين من المفاوضات المتعثرة، عن موافقة الطرفين على مسودة ما سُمِّي باتفاق السلم والمصالحة الذي قضى بتشكيل حكومة وفاق وطني على أساس الكفاءة، وأن يكون مقرها الرئيسي العاصمة طرابلس، والالتزام بأن مجلس النواب هو السلطة التشريعية الوحيدة في البلاد خلال الفترة الانتقالية، وتشكيل مجلس للدولة ذي صفة استشارية يتألف من 120 عضواً من أعضاء برلمان طرابلس، ونزع سلاح الجماعات المسلحة، وتشكيل قوات مسلحة موحدة، وانسحاب الجماعات المسلحة من المنشآت النفطية والمطارات والمنشآت الأخرى بعد توقيع الاتفاق.
السؤال الآن: لماذا استُثنيت ليبيا فجأة من «سياسة تعليق أزمات المنطقة» رغم أنها أزمة «فتية»، إذ لا يتعدى عمرها السنوات الأربع ونيّف، قياساً بأزمات أطول عمراً منها؟. نزعم بأن متغيرين اثنين هما اللذان أمليا على عواصم صناعة وإنفاذ القرار الدولي استثناء ليبيا من هذه السياسة. هذان المتغيران هما:
1- حادثة غرق إحدى سفن صيد تهريب المهاجرين من ليبيا إلى إيطاليا يوم الأحد 19 إبريل/نيسان الماضي والتي نجم عنها مصرع 800 مهاجر غير شرعي. فقد اعتبرت بلدان أوروبا الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، ولاسيما إيطاليا التي تعتبر الهدف الأول للمهاجرين غير الشرعيين، إضافة إلى مالطا واليونان غير البعيدتين عن الشوطىء الليبية – اعتبرت هذه «الحملة» الجديدة التي نظمها مهربو البشر في ليبيا، تصعيداً نوعياً في عملية إغراق أوروبا بالمهاجرين. فكان أن حزمت إيطاليا أمرها للتدخل في ليبيا لإنهاء هذا الكابوس لولا أن أقنعها شركاؤها الأوروبيون بالعمل المشترك والمنسق بآليات أكثر فاعلية لمطاردة المهربين وسفن صيدهم قبل إبحارها.
2- استشراء الفوضى الأمنية في ليبيا التي توجت ببروز جماعات متطرفة بينها تنظيم «داعش» الذي سيطر على الجزء الأكبر من مدينة سرت (نحو 450 كلم شرق طرابلس)، ويتواجد في عدد من مناطق ليبيا، وكان قد سيطر في شهر نوفمبر/تشرين الثاني من العام الماضي على مدينة درنة الواقعة في الشرق الليبي على ساحل البحر المتوسط، قرب الحدود المصرية. والأخطر أنها لا تبعد سوى نحو مائتي ميل عن الشواطىء الجنوبية لأوروبا، حيث حولها «داعش» إلى معقل لتدريب الوافدين من شمال إفريقيا للانضمام إليها، قبل استعادتها من قبل الجيش الليبي المدعوم بانتفاضة أهالي المدينة ضد مقاتلي «داعش».
بعد حادثة غرق السفينة سالفة الذكر، لكأنما حالة طوارىء أعلنت في صفوف المستوى السياسي الأوروبي، فعلى مدى أكثر من أسبوع، كان هذا الموضوع الشغل الشاغل للقادة الأوروبيين الذين تداعوا على مدى اسبوع لوضع خطة طوارىء لمواجهة تحدي السيل الجارف للمهاجرين غير الشرعيين من صوب ليبيا. ولا غرو أن يلقي هؤلاء بكل ثقلهم في مفاوضات المغرب لإجبار أطراف الصراع الليبية على إنهاء حروبها واستعادة النظام فيها، حيث داوم على حضور جلسات الحوار سفراء كل من إيطاليا وفرنسا وألمانيا وبريطانيا والاتحاد الأوروبي، كمراقبين وضاغطين باتجاه تحقيق هدفهم المحدد سلفاً. ومع ذلك، فإن من المشكوك فيه أن تنجح هذه الجهود لإحلال السلام في ليبيا في ظل سيطرة الغوغاء وحجم الدفق الإرهابي وأكوام الأسلحة المنتشرة على نطاقات غير قابلة للاحتواء بهذا المستوى من التدخل.
*كاتب صحفي/”الخليج”