التحرّك الثوري في تونس يعود إلى بداياته

لطالما شكّلت تونس نموذجاً مثالياً في إطار الربيع العربي، كونها المكان الذي انطلقت منه سلسلة الانتفاضات في العام 2011، والذي اختبر بعد ذلك أهم تجربة على صعيد الديموقراطيّة الدستوريّة في العالم العربي، مع توافد عدد كبير من الناخبين للمشاركة في جولة الانتخابات الحرة الثانية التي جرت في تشرين الأول (أكتوبر) 2014. وبعد أن أُنعِم على البلاد بقادة جدد أمثال راشد الغنّوشي، تحوّلت ظاهريّاً إلى جزيرة تسوية سياسيّة واعتدال وتعايش، وسط بحر من الاستبداد والآمال الخائبة. ومع ذلك، وبعد أشهر قليلة فقط، تسببت هجمات إرهابية طاولت سيّاحاً كانوا يزورون متحف باردو في آذار (مارس) 2015، وآخرين كانوا يستمتعون بأشعة الشمس على شاطئ الحمامات أواخر حزيران (يونيو)، بحالة طوارئ فورية، واختبرت البلاد ظروفاً يُفترض أن تكون الثورة ضد الرئيس بن علي قد وضعت لها حدّاً نهائيّاً.

المزيد: العالم العربي.. إلى أين؟


بشكل عام سلكت محاولات شرح المجرى المفاجئ وغير المرحب به لهذه الأحداث مجريين متّصلين، استند أوّلهما إلى التشديد على التناقض بين المناطق الساحلية المتطوّرة، والمناطق الداخلية المتأخرة جدّاً، التي انطلق منها تحرّك البوعزيزي، ونشأ فيها سيف الدين رزقي، الذي أطلق النيران على شاطئ الحمامات. وتُظهِر هذه الرواية الإهمال النسبي الذي اختبرته منطقة اغتنت خلال الحقبة الفرنسية وفي عهد بن علي بفضل مناجم الفوسفات فيها. وبعد إقفال هذه المناجم، تُرِكت عرضة لكارثة بيئية، وتفشّت فيها الأمراض الدائمة والأسلحة، والمخدّرات والجرائم، وامتلأت مقاهيها بالشبّان العاطلين من العمل الذين ما لبثوا يُعربون عن امتعاضهم. وبالتالي، لا عجب إن كان التحالف بين الأحزاب العلمانيّة المرتبطة بالرئيس قائد السبسي قد حقّق فوزاً ساحقاً في الشمال، في حين أنّ الأحزاب التابعة لمنصف المرزوقي، المعروف بتطرّفه الدينيّ وبمناهضته لبن علي، فازت بمعظم الأصوات في الجنوب.
تتناسب هذه النتيجة جيّداً مع مفهوم الثورتين المستقلتين، إحداهما سياسيّة وتهدف إلى إلغاء النظام الحكومي القديم، وترافقها، أو لا ترافقها في أحيان كثيرة، ثورة اقتصاديّة تُحدث تغييرات تدريجية أساسيّة على صعيد تملّك العقارات الذي يشوبه انعدام المساواة. وقد كشفت مجلة «إيكونوميست» مؤخراً أنّ التونسيّين بمعظمهم يعتبرون أن النظام الذي فضّل النخبة المقرّبة من بن علي لا يزال قائماً، تحميه مجموعة قوانين وممارسات احتكاريّة تمنع نفاد المستثمرين المحلّيّين والأجانب إلى نحو ستّين في المئة من الاقتصاد، لِما تفرضه عليهم من عقبات تحول دون استحداث فرص عمل جديدة.
وازدادت الأمور سوءاً، إذ واجهت الحكومات التي أعقبت حكم بن علي صعوبات كبرى، ولكن ليس فقط على صعيد ضبط الحدود السهلة الاختراق، إنما أيضاً على صعيد ضبط بعض المناطق شبه الجبلية على غرار جبل الشعامبي، الذي يقع على مسافة بضع ساعات فقط من جنوب تونس، حيث يقال إن فرعاً من تنظيم «القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي» اتخذ لنفسه مقرّاً في العام 2013. أما الأسوأ، فهو سقوط ليبيا المجاورة في حالة من الفوضى العارمة، ما سمح لمزيد من العناصر المتطرّفة بالدخول، بنيّة زعزعة استقرار ما كان يُعتبر، على نطاق واسع، نقطةً مواليةً للغرب، تتمتّع بقيم ديموقراطية أوروبية.
ويبدو أن نقطة التحوّل تمثّلت ببروز «داعش» في المشرق العربي، وبحربها الخاطفة والصاعقة على النظام الذي فرضته الولايات المتحدة، وبظهورها المدروس في وسائل التواصل الاجتماعي الذي يشجّع العناصر المتطرّفة على شنّ هجمات مماثلة في أماكن أخرى. وهكذا، بدأ المقاتلون التونسيون الشبّان يتوافدون بأعداد صغيرة إلى العراق عبر شمال سورية. واقتنع آخرون ممّن قرّروا التطرّف ضمن مجموعات أو على حدة، بضرورة مواجهة الحكومة في الداخل، من خلال شن حرب على الرفاه الاقتصادي، لتدمير أحد أهم مقوّمات السياحة المحلية، المتمثّل بالفنادق والمشاريع الترفيهية الممتدة على طول الشاطئ. في الماضي، لم يلزم سيّد قطب ومنظرون دينيون مصريون آخرون أكثر من رؤية شواطئ الإسكندرية ليقتنعوا بأن المجتمعات المصرية المسلمة تغوص في انحطاط أخلاقي. وبعد سبعين عاماً، كان من السهل أن يقتنع شبان متطرّفون بأنّ عليهم أن يفدوا معتقداتهم بحياتهم.

المزيد: المقاتلون التونسيون في سوريا: خرائط التجنيد والمواصفات الاجتماعية

يبقى الطريق الذي ستسلكه تونس للتأقلم مع ما تركه نظام بن علي من تداعيات سلبية، مشوباً بالغموض، لا سيما أنّ الآخرين يتعمّدون استهدافها، لما حققته من خلال إعطاء باقي دول العالم العربي ذرّة أمل. واليوم، يظهر في بريطانيا وأميركا أنّ عدد الشبّان التونسيين المتطرفين أصغر بكثير من أن يشكل فئةً مجتمعية صغيرة صالحة للتحليل كمصدر خطر محتمل، ذلك أنّ جلّ الموجود هو بضع مئات من الشبّان المشاغبين الذين يدفنون معهم أسرارهم من خلال أعمال انتحاريّة مقصودة.
لكنّ هذا النفق المعتم بالتحديد قد يكون في آخره بصيص أمل. والحال أنّه لا يمكن اليوم اعتبار تونس استثناءً لافتاً، وأنّ خلاصها لا بدّ أن يأتي كثمرة تقاسم سلسلة دروس حول كيفية تعاطي باقي دول العالم مع مثل هذا العنف، بالإضافة إلى تعلّم كيفيّة تخطّي إرث أسود من الديكتاتوريّة، من خلال إرساء نظام طويل الأمد أكثر شموليةً، بدلاً من الاكتفاء بإجراء انتخابات. ولا شك أن الاطلاع الحثيث على الاقتصاد السياسي الحديث يشكّل نقطة الانطلاق، على أن يشمل في البداية فهم كيفيّة استغلال بن علي للنظام القضائي، لبناء وترسيخ إمبراطوريّة الأموال الشاسعة التي كان يتحكم بها.

* أكاديمي بريطاني – جامعة هارفارد/”الحياةّ”

اقرأ أيضا

العياشي زمّال

تونس.. حكم قضائي جديد بحق المرشح الرئاسي العياشي زمال

أصدرت محكمة تونسية حكما جديدا بالسجن 5 سنوات بحق المترشح للانتخابات الرئاسية الأخيرة، في القضية …

تونس

تونس.. إدانات لحكم صادم بسجن نائب رئيس النهضة بسبب “منشور وهمي”

توالت الإدانات في تونس لحكم قضى بسجن القيادي البارز بحركة النهضة نور الدين البحيري 10 سنوات بتهم "التآمر، وتدبير الاعتداء المقصود به تبديل هيئة الدولة، وحمل السكان على مهاجمة بعضهم بعضا، وإثارة الهرج".

قيس سعيد

تونس.. الأمم المتحدة تندد بسجن معارضين وتدعو للإفراج عن جميع “المحتجزين تعسفيا”

انتقد المفوض السامي للأمم المتحدة لحقوق الإنسان في الأمم المتحدة، فولكر تورك، سجن وإدانة خصوم سياسيين للسلطة في تونس، ودعا إلى الإفراج عن جميع "المحتجزين تعسّفيا" وإلى العمل على ضرورة الإصلاح.

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *