بغض النظر عما آل إليه اتفاق السلام الذي أبرم في 11 تموز (يوليو) الماضي، برعاية الأمم المتحدة في مدينة الصخيرات في المغرب، واعتراض بعض أطراف النزاع على فقرات من مضمونه، وعدم اعتراف بعض آخر بالقوى والشخصيات المشاركة فيه، تجري في ليبيا مفاوضات بين ممثلين عن الحكومتين بنوع من التكتّم للمرة الأولى، حول إعداد خطة لحماية الأصول الليبية المودعة في أنحاء العالم في عهد النظام السابق واسترجاعها، والتي لم تتمكن الحكومات المتعاقبة من تحصيل أي مبالغ مهمة منها، على رغم معرفة أماكن وجودها جغرافياً، والمؤسسات المالية والمصارف التي تتولى استثمارها وتحقّق أرباحاً منها.
وتفيد معلومات متقاطعة واردة من مسؤولين في حكومة طرابلس الغرب غير المعترف بها، وحكومة طبرق المعترف بها دولياً، بأن مؤسسات عالمية متخصصة كُلفت بملاحقة هذا الملف. وفي الوقت ذاته، كشف رئيس مجلس إدارة المؤسسة الليبية للاستثمار عبدالمجيد بريش، عن تعيين حارس قضائي موقت نيابة عنها في إدارة الدعاوى على مصرفي «غولدمان ساكس» الأميركي و«سوسيتيه جنرال» الفرنسي.
وفي هذا السياق، ذكر أحد المقرّبين من حكومة طبرق التي يرأسها عبدالله الثني، أن الأمر لن يتوقف عند هذا الحد، لأن هناك توافقاً سياسياً وشعبياً بين الأطراف كافة، للذهاب إلى آخر شوط في استعادة الأموال المجمدة في الخارج تحت أسباب واهية، ولأهداف مشبوهة تقوم بها المصارف ومؤسسات توظيف الأموال والوسطاء الأجانب. وأشار إلى قرار متوافق عليه بين الشرق والغرب الليبيين الممسكين بزمام السلطات، بالاستعداد لملاحقة رؤساء دول سابقين وحاليين كانوا تعاملوا مع النظام السابق، وشجّعوه على إيداع أموال وفوائض عائداته من النفط وتشغيل البعض الآخر في محافظ مالية في بلادهم.
وتعمّد الليبيون المشرفون على هذا الملف، تسريب اسم رئيس وزراء بريطانيا السابق طوني بلير، الذي عمل مستشاراً مالياً للنظام الليبي بعد رفع العقوبات الاقتصادية عنه إثر مشاركته في حل قضية لوكربي، والتي لعب فيها بلير دوراً رئيساً. الدليل على ذلك، أنه كان الأول الذي زار طرابلس الغرب بعد رفع العقوبات، وحضر حفلة توقيع عدد من الاتفاقات، منها ما هو عسكري، إلى جانب العقيد القذافي في حينه.
ففي ظل تراجع الاحتياطات من النقد الأجنبي في خزائن المصرف المركزي الليبي إلى ما دون 100 بليون دولار بنهاية نيسان (أبريل) الماضي، وتراجع إنتاج النفط وبالتالي عائداته التي لم تعد تكفي لسد عجز الموازنة، واستمرار تأخر أجور موظفي القطاع العام لشهور، باتت مسألة استعادة ما أصبح يطلق عليه اليوم في الشارع الليبي «أكبر عملية نصب في التاريخ» تقوم بها الدول الغربية ومصارفها ومؤسساتها، من أولوية الأولويات. تضاف الى ذلك، الصراعات المسلّحة التي تملأ البلاد، والنزاعات السياسية التي تمنع التوصّل إلى نشوء حكومة واحدة يشارك فيها الجميع من دون استثناء، ما عدا القوة التي تمثّل مباشرة أو مداورة الميليشيات الإسلامية المسلّحة. في الوقت ذاته، يطالب المكلفون بمعرفة حقيقة الأموال العائدة الى عائلة العقيد القذافي ورجالات نظامه وحجمها ومكانها، والتي لم يتمكن أحد حتى الآن من تحديدها بدقة، خلافاً لأموال الدولة والصناديق الاستثمارية المختلفة.
المزيد: الغرب لليبيين: اقتلعوا أشواككم بأيديكم
لافت أن المجتمع الليبي يأخذ للمرة الأولى بجدية الخطوات التي بدأ الإعداد لها لاستعادة الموجودات المنهوبة، وبالتالي محاسبة المسؤولين في الحكومات التي تلت قيام الثورة، والمسؤولين عن سرقة الأموال بالتوافق مع بعض المصارف والمؤسسات العالمية، والسكوت عن عدم تحصيل الأموال العائدة الى الدولة والشعب والعائدات الجديدة، بتعيين خبراء لمؤسسات عالمية مختصة في هذا المجال وحراس قضائيين للنيابة عنها في الملاحقة، وضرورة التوصل الى الأموال التي وضعتها عائلة القذافي في حسابات وعقارات ومحافظ استثمارية بأسماء مقربين وأقرباء. وتفيد معلومات واردة من طرابلس، بأن هناك نية لإعداد مؤتمر وطني عام لبحث هذا الملف والخطوات المتّخذة حتى الآن والمتوقعة. وبدأت هيئات مراقبة مالية السؤال عن مسار القضايا المرفوعة ضد مؤسسات عالمية أساءت التصرف بعدد من الاستثمارات وصولاً إلى حدّ سرقة بعضها، كما تحاول هيئات أخرى طرح التساؤلات حول محاولات دول أفريقية الاستيلاء على استثمارات ليبية لديها، مثل «توغو» التي تريد تأميم الشركة الليبية التي اشترت غالبية شركات الفوسفات. وينطبق هذا الواقع على كل من مالي والنيجر وغيرهما.
بات من الثوابت الآن، أن حجم الاستثمارات والموجودات والودائع يمكن أن يصل إلى 300 بليون دولار، ما عدا الممتلكات والحسابات والتوظيفات لعائلة العقيد القذافي وبعض رجالات النظام الموقوفين في ليبيا والموجودين خارج البلاد، والتي لم يتمكن ملاحقو الملف من تحديد حجمها، على رغم تصريحات مصطفى عبدالجليل وعلي زيدان اللذين تحدثا عن تهريب القذافي 287 بليون دولار، وهو أمر لم يتم التثبّت منه بعد.
المهم في الموضوع وفقاً لعدد من المسؤولين الليبيين، وجود أدلة ووثائق عن مكان هذه الثروات في الخارج، كذلك عن وجود لوائح بأسماء المصارف والدول الأجنبية والمؤسسات التي تتمنّع عن إعادة الأموال الى ليبيا تحت ذرائع مختلفة، منها عدم وجود لوائح موحدة، علماً أن «المركزي» موحّد ويسيّر كل ما يتعلق بمالية البلاد. وفي هذا الإطار، يتحدث أحد المسؤولين عن التقارير التي قدّمتها الشركة الليبية للاستثمار الخارجي «لافيكو»، التي أدارت الاستثمارات طوال نحو أربعين سنة، والتي بلغت موجوداتها عشية الثورة سبعين بليون دولار، كذلك التي وفرتها محفظة ليبيا – أفريقيا للاستثمار والاستثمارات الخارجية، والاستثمارات النفطية (أويل إنفست) التي تتّخذ من مدينة ميلانو الإيطالية مقراً، وأخيراً الصندوق الليبي للاستثمار والتنمية.
وفي السياق ذاته، ترى أوساط أن السلطات الليبية المتخصصة ستبدأ منتصف أيلول (سبتمبر)، عمليات الملاحقة لاسترداد الأموال، وتذكر بأن شركات مثل «سيتي غروب» و «كهرباء فرنسا» و «مصرف سانتاندير» الإسباني ومجموعة «إيني» الإيطالية، ستكون من ضمن المجموعات التي تنوي ليبيا ملاحقتها قضائياً. وينطبق هذا الواقع على عدد من شركات الوساطة المالية والاستثمار التي تدير محافظ ليبية في سويسرا، تحديداً في زيورخ وبريطانيا وإيطاليا وبعض الدول المغاربية.
*إعلامي/”الحياة”