لا عزاء لمن مات في تونس

ليس جديدا أو غريبا أن يلفظ البحر المتوسط بين الحين والآخر اجسادا عجزت عن الوصول بسلام إلى جنته الموعودة في الشمال، فقد بات ذلك المصير معلوما لكل المقدمين على خوض مغامرة العمر، والحالمين بها وحتى المراقبين لمآسيها.
لكن الغريب والجديد هو أن وصول تلك الأجساد جثثا مجهولة الهوية ومتعفنة ومشوهة في الغالب لم يعد يزعج أحدا من اغنياء الجنة وكبارها، بقدر ما صار يمثل مصدر قلق حقيقي لبحارة بسطاء في ميناء صغير وشبه مجهول في أقصى الجنوب الشرقي لتونس.
لقد اشتكى بحارة ميناء «الكتف» منذ اسابيع من أن هناك روائح كريهة تزكم أنوفهم، كلما شقت مراكبهم عرض البحر، ومن أن لون المياه صار يميل إلى الحمرة ربما لفرط ما ابتلعت اسماكه من ضحايا، وقالوا إن كارثة بيئية مدمرة توشك على القضاء على مورد رزقهم الاول والوحيد وهو الصيد. لكن من يهتم لذلك وما الذي بوسع السلطات أن تفعله حتى تحل مشكل الجثث التي لم يعرف لها اصل أو فصل، والتي لا يمكن تحديد شكل قدومها أو توقيته؟ لا شيء على الاطلاق غير توضيب مقبرة صغيرة بالقرب من الميناء، حتى توارى فيها أجساد المغامرين المجهولين، وترقد بسكينة وأمان. اما منعها من الوصول فهو شبه مستحيل ولن تنفع معه لا خنادق ولا جدران، أليست تلك مفارقة سريالية عجيبة أن تصنع الحواجز للاحياء وتعجز الحكومة بالمقابل عن وقف تدفق الموتى؟
ما من شك في أن الأمور تقاس من وجهة نظرها فقط من زاوية المخاطر والتهديدات. ولا شيء على الإطلاق يدل على أن جثثا فاقدة للروح باستطاعتها أن تستحوذ على نصيب ولو محدود من ذلك الاهتمام، لأنها ببساطة فقدت كل ما يملكه الاحياء من سطوة أو تأثير. وحتى الدول السبع الكبار، التي قالت السلطات أنها اعانتها في بناء الخندق العازل مع ليبيا، لم يخطر ببالها على الارجح انه بإمكان للموتى أن يقلبوا الحسابات الاستراتيجية ويعبروا حدود البلدين بسهولة، وفي كل الاوقات والظروف. ربما كانوا في السابق ارهابيين أو مهربين أو تجارا وسماسرة، ولكن كل ذلك لن يعني شيئا ماداموا موتى لا يتحركون أو يطلقون الرصاص أو يلقون المتفجرات. إنه منطق السوق الدارويني الارعن الذي يفترض في كل الحالات أن البقاء فقط للأقوى والأصلح، وأن لا معنى على الاطلاق الا للمادة وحدها لا غير. ويبدو أن ذلك ايضا هو قلب وجوهر الديمقراطية الغربية التي تحاول تونس عبثا، وعلى غير هدى، أن تقتفي اثرها بشكل متقطع ومتعثر.

المزيد: تونس… عدالة في المزاد العلني

لقد بدأ البلد قصة انتقاله نحو تلك الديمقراطية بجثة سريعا ما صارت رمزا جال في رمشة عين اركان العالم الاربعة.
هل كان بمقدور أن يحظى بمثل تلك الهالة من القداسة ويعني شيئا في المعادلة المحلية فضلا عن الاقليمية والدولية، لو ظل مثل باقي التونسيين على قيد الحياة؟ ليس مهما أن يكون بائع الخضار هو من فجر انتفاضة تونس وأطلق موجة التغيير العربي، ولكن ما فعله ذلك الشاب قبل نحو خمس سنوات قلب عقيدة أمنية تفترض أن الموتى على اختلاف اسلوب وطريقة موتهم هم مجرد كائنات لا قيمة أو تأثير لها على الواقع والمستقبل. لقد تحول في أعقاب تلك الخطوة مجرد التهديد بمغادرة الحياة وتركها، إلى وسيلة سحرية ناجزة لارغام الاخرين على تعديل فرص العيش وتحسين شروطها. أليست تلك هي ذروة الكوميديا العربية السوداء، أن يهدد المسجون سجانه بترك العالم دفعة واحدة والى الابد، حتى يسمح له في الاخير بمغادرة جدران سجنه الضيق؟ الإشكال الوحيد هنا أن المبالغات هي التي قضت على جثة البوعزيزي ومن تبعه، وجعلتها تفقد نبض الحياة وتستكين إلى الموت والسكون. لقد تفطن الماسكون بالسلطة بعد أن استهلكت الشعوب قصص الموت والحياة بجرعات فاقت الحد، إلى أن الطريقة المثلى لسحب البساط من تحت اقدام الراحلين إلى العالم الآخر هي في مساواتهم بشكل تام مع الباقين على سطح الارض. وبذلك لم يعد الرحيل يعني أو يغير شيئا، أو حتى يدفع الناس للتفكير أو التساؤل. وهنا لم تعد النهايات تثير أحدا في تونس، ولم يعد مهما أن كان الموت يسمى انتحارا أو قتلا أو سكتة قلبية، مادام القتلة مجهولين كانوا أو معلومين بمنأى عن محاسبة صارت تلوح أشبه بالمعجزة البعيدة.
لم يوجد قناصة حتى يقتلوا ما يقارب الثلاثمئة شخص في اخر ايام من عمر الاستبداد، مثلما قال يوما الباجي قائد السبسي، ولكن وجدت ثلاثمئة جثة لا يعرف القضاة العسكريون إلى الان من أعطى الاوامر وأطلق الرصاص عليها. هل نحتاج حقا لتشريح الجثث حتى نعرف القتلة الحقيقيين؟ ربما يكون ذلك ضروريا ومطلوبا مادامت الذاكرة قصيرة والفوارق بين الجاني والضحية محدودة وشبه منعدمة، بفعل ما أطلق عليه مصالحة وطنية باركها السبعة الكبار وقدموها على أنها نموذج تونسي نادر وفريد وجدير باقتداء الشرق والغرب.
لماذا قتلوا اذن وقصفت اعمارهم بتلك الشراسة؟ لقد وصفوهم يوما بأنهم شهداء الثورة ثم استدركوا بعد شهور واعوام قليلة ليقولوا بالصوت العالي والفم المليان بانه لم تحصل ثورة ولا هم يحزنون، وأن كل ما في الامر هو انه وقعت مجرد حوادث عنف قد لا تختلف كثيرا عن حوادث المرور التي تزهق فيها ارواح الاف التونسيين. ولاجل مصلحة البلد فإنه ينبغي غلق الملف بأسرع وقت، مثلما يردد ذلك الرئيس في كل المناسبات، والتفكير فقط في المستقبل. لنترك الجثث جانبا ونهتم فقط بالاحياء، ذلك هو المنطق المجنون الذي يجرف تونس. وما يعنيه ذلك باختصار وبساطة هو أن نتجنب البحث عن الحقيقة لأنها مربكة ومخيفة ولا تصيب في العادة الا بصدمات وهزات لا قبل لاحد بها على الارجح . الامر هنا قد لا يختلف كثيرا عما تفعله النعامة حين تدفن رأسها تحت التراب خوفا من أن ترى ما لا يسرها. ولكن إلى متى يستمر ذلك؟ وهل يمكن حقا أن يتطلع التونسيون إلى المستقبل بدون معرفة الماضي؟
تواتر الأحداث يدل على أن هناك صعوبة في الفصل بين الزمنين، وعلى أن هناك ارتباطا وثيقا وغريبا بين مصائر الموتى والاحياء على حد سواء. ولعل آخر الادلة على ذلك ما حصل منذ ايام فقط ، فقد دب الرعب داخل مركز تجاري في قلب العاصمة في الليلة التي سبقت ليلة العيد، لمجرد أن اشاعة قوية سرت بوجود ارهابي دخل المركز لتفجيره. وتطلب الامر حضور وزير الداخلية بنفسه لمعاينة وضع وصفته صحيفة «الشروق» المحلية بالفوضى والارتباك الذي سبب، بحسب ما ذكره شهود عيان لمراسلها، في جرح العشرات وفقدان سيدة لجنينها وانتشار عمليات النهب والسطو، ليتبين في الاخير أن السبب وراء كل ذلك هو القاء شخص لشمروخ داخل المركز التجاري. إنه الخوف من الاشباح الحية التي تتنقل داخل المدن والجبال وتسمى «ارهابيين» وهو كذلك النتيجة المنطقية والحتمية لعمليات غسل الدماغ المستمرة بلا هوادة داخل تونس، التي لا هدف لها سوى تشتيت الانتباه ثم التركيز على عدو صوري واحد دون سواه . ومن الطبيعي في تلك الحالة ألا تحدث جثث القتلى اي صدمة تدفع الرأي العام للمطالبة بمعرفة الجناة والاسباب التي قادتهم لارتكاب افعالهم. وهنا يبدو التعليق المعتاد للسلطات من انها بادرت بفتح تحقيق لكشف الحقيقة، مجرد مخدر بسيط فاقد للتأثير يلقى به للجمهور كلما انتشر خبر حول وفاة غامضة ومسترابة، مثل تلك التي حصلت في اخر ايام رمضان الماضي في الجزائر وذهب ضحيتها مدون تونسي شاب. لقد كان نظام بن علي حريصا طوال عهده المديد على اخفاء الجثث التي أعدمها، ويبدو أن الديمقراطيين الذين خلفوه صاروا أشد حرصا وبراعة في إخفاء شيء آخر وهو القصص الحقيقية للجثث. ولأجل ذلك فلا عزاء للمجهولين الذين جلبهم حظهم العاثر للموت غرقا بالقرب من ميناء الكتف، ولا عزاء ايضا للمشهورين والمعروفين الذين قتلتهم الديمقراطية ودفنت أسرارها معهم والى الابد.

المزيد: من يجرؤ: شاعرة تمدح نظام بن علي

٭ كاتب وصحافي من تونس/”القدس العربي”

اقرأ أيضا

121

“سكر”.. التوأم صفاء وهناء يفرج عن جديده الفني

أصدر التوأم صفاء وهناء الرايس، مساء أمس الأحد، عبر قناته الرسمية بموقع رفع الفيديوهات “يوتيوب”، …

زلزال يضرب الجزائر ويحدث حالة هلع في صفوف السكان

ضربت هزة أرضية بقوة 4.9 درجات على سلم ريشتر، ولاية الشلف بالجزائر، خلال الساعات الأولى من صباح اليوم الاثنين.

98

شيماء عبد العزيز تعلن طلاقها رسميا

أعلنت الفنانة المغربية شيماء عبد العزيز، عبر حساباتها الرسمية على مواقع التواصل الاجتماعي، خبر طلاقها، …

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *