في محاربة الإرهاب

لا جدال في ضرورة التصدي للإرهاب بلا هوادة، لما يمثله من خطر على الدول والمجتمعات، بيد أن محاربة الإرهاب أصبحت إشكالية حقيقية، بالنظر لتبعاتها الخطيرة.
فعلى صعيد العلاقات الدولية، أصبحت محاربة الإرهاب مطيةً لخدمة مآرب لا علاقة لها بالإرهاب، حيث بلغ توظيف الظاهرة أوجه في السنوات الأخيرة، خصوصاً مع الإجماع الدولي على ضرورة محاربته. بل تحولت محاربة الإرهاب إلى رهان قوة على الصعيد العالمي. إذ يسمح لقوى بتجديد مسوغات هيمنتها أو طموحاتها للهيمنة، ولأخرى بخنق الحريات وارتكاب جرائم في حق الأبرياء، بتواطؤ دول أخرى. ولا غرابة في ذلك، لأن الدول، قدر ما تتفق على ضرورة محاربة الإرهاب، قدر ما تختلف على تعريف دقيق له. وبالطبع، تخدم هذه الفوضى المفهومية مصالحها وأطروحاتها. لذا، فهي تتحدث جميعها عن الظاهرة، لكنها لا تحيل، بالضرورة، إلى المضمون نفسه. وربما نقطة التقاطع الأساسية بين مختلف الدول أن الإرهاب أصبح أيضاً أداة سياسة فتاكة، في يد الحكومات، لقمع معارضيها (في الداخل والخارج) بمجرد وصفهم بإرهابيين، بغض النظر عن صحة التهمة من عدمها. فمجرد توجيه التهمة، عبر خطاب إيجازي، تصبح التهمة حقيقة. أي أنه يكفي أن تقول حكومة ما أن فلانا إرهابي ليكون ذلك الشخص إرهابياً، إلى درجة أنه استعصت، في بعض الأحيان، دراسة الإرهاب دراسة علمية، لأن مجرد التشكيك في الرواية الرسمية للإرهاب قد يؤدي إلى اتهام صاحبه بتمجيد الإرهاب.
ولذا، الإرهاب مثل محاربته عملية مبنية اجتماعياً، توظف خدمة لمآرب محددة، فالقوى المسيطرة توظفه لبسط نفوذها وإكراه الغير على الإقبال على ما تبتغيه لمصلحتها، أما البلدان الضعيفة فتوظفه لخطب ود القوى المسيطرة، ولربح دعمها، وأيضاً لخدمة مصالحها إقليمياً. هكذا اختلطت الأمور بشكل غير مسبوق: دول تقول بمحاربة الإرهاب (في أماكن)، وتعد له ما أوتيت من قوة، لكنها، في الوقت نفسه، تدعمه وتموله (في أماكن أخرى). ومن ثم، فنظراً لاختلاف المصالح، بل وتعارضها، وللفوضى المفهومية، ولتوظيف الإرهاب، يمكن القول أن هناك إرهاباً مقبولاً وآخر غير مقبول. وهذا يذكرنا بمفاضلة الرئيس الأميركي السابق، رونالد ريغان، بين الديكتاتوريات اليمينية (كان يدعمها) والديكتاتوريات اليسارية (كان يحاربها). فمثلاً قوى غربية وعربية تعاملت ودعمت جماعات إرهابية في ليبيا، وتقاتل أخرى في أماكن أخرى، وأطرف تدعم جماعات إرهابية في سورية، وتقاتل أخرى في البلد نفسه، أو في تخومه. إذن، ليست المشكلة، من منظور لغة المصالح، في الإرهاب في حد ذاته، وإنما في الدور الذي يلعبه: فهل يتوافق ومصالح الدول المعنية أم لا؟ فما هو إرهاب بالنسبة لطرف، هو معارضة أو مقاومة بالنسبة لطرف آخر، والعكس صحيح. وهذا حال الشرق الأوسط عموماً، أين اختلط الحابل بالنابل.
لكن، كما قلنا، هذه الفوضى المفهومية والسياسية مبنية اجتماعياً؛ فهي مرغوب فيها، وكل طرف يسعى إلى تعظيم مكاسبه منها، خصوصاً أن ظاهرة الإرهاب متقلبة وقلقلة التوازنات (عدو الأمس قد يصبح صديق الغد والعكس صحيح). من هذا المنظور، يمكن القول إن محاربة الإرهاب أصبحت إرهاباً من نوع آخر، لأنها تجبر أطرافاً على الدخول في صراعات هي في غنى عنها، وتحملها تبعات سياسات ومغامرات الغير. فدول عديدة تحارب اليوم داعش على مضض، لأنها مكرهة على ذلك، محاولة تدارك أخطاء وسياسات أطراف أخرى، مثل الولايات المتحدة (غزو-احتلال العراق حوله إلى منبت حقيقي لمختلف الجماعات الإرهابية) ودول إقليمية تلعب بالنار في العراق، وخصوصاً في سورية، كما فعلت وتفعل في ليبيا.
أما داخل الدول، فالاستراتيجيات المتبعة من الحكومات غير الديمقراطية تقوم على وصم كل معارض بالإرهاب، إن هو تحول إلى منافس قوي، وعلى التسيير الأمني للبلاد، فعوض أن تسير هذه الدول نحو الديمقراطية أصبحت دولاً أمنية بكل المقاييس، لكن أمنية من حيث القمع، وغير أمنية في باقي المجالات. فبعضها يحارب الجماعات الإرهابية، لكن العنف الاجتماعي والسياسي والجريمة (بكل أنواعها، بما في الاقتصادية) مستفحلة أكثر من أي وقت مضى. الدولة الأمنية من بين الدول الأقل استقراراً، ذلك أن الأمن اختزل في قمع المعارضين للإبقاء على النظام الحاكم. وهذا طبعاً يتناقض وأدنى شروط الأمن، لاسيما الأمن الإنساني الذي هو قوام الدول المتقدمة اليوم، والمقصود به أن يكون الإنسان في مأمن من الحاجة، ومن الخوف. ومن ثم يمكن القول إن الإرهابيين أكبر حليف للأنظمة التسلطية، لأنهم يقدمون لها مسوغات ومبررات تجديد وتحديث بقائها على طبق من ذهب، وللأنظمة الديمقراطية أيضاً، لأنهم يقدمون لها، على الطبق نفسه، مبررات ومسوغات سياسية جديدة، لبسط نفوذها وهيمنتها. فضلاً عن ذلك، هم يقدمون ذرائع قوية للحكومات، لتشديد الخناق على الحريات. فالحكومات غير الديمقراطية توظف الإرهاب، للتقليل من الحريات، محدثة تعارضاً بين الحرية والأمن، ما جعل وكالات الأمن وأجهزته أقوى من المؤسسات المنتخبة ديمقراطياً. أما الحكومات غير الديمقراطية، غير المبالية أصلاً بالحريات، فتشكل محاربة الإرهاب بالنسبة لها حجة إضافية، تستخدمها لانتهاك الحريات وقمع الشعوب. وأصبح التحرك الأمني المفرط القاعدة، على الرغم من أنه لا يحد من الإرهاب.
اللجوء إلى تدابير أمنية قصوى هو، أيضاً، دلالة على الفشل في محاربة الإرهاب، لأنه يوحي بل ويؤكد على أن كل الإجراءات الوقائية والسياسية لم تؤت أكلها. ولذا، بدل عسكرة محاربة الإرهاب (خصوصاً لما يتعلق بنشاط محدود، متقطع وغير منظم) يتعين التركيز على أسباب الظاهرة، ومعالجتها تربوياً واجتماعياً وسياسياً، خصوصاً أن بذور الإرهاب موجودة أيضاً في ثقافة طاعة أولي الأمر واللاتسامح، وفي المناهج التربوية، وفي ظاهرة العنف في المجتمعات (العربية). في سياق الربيع العربي المجهض في جله، وتصلب عود داعش، وغيرها من التنظيمات العابرة للأوطان والمحلية، هناك مخاطر من تحول محاربة الإرهاب إلى نموذج سياسي لإدارة الشأن العام، ما يعني أن الأنظمة التسلطية القائمة في المنطقة العربية بحاجة إلى إرهاب محدود، لا يضع وجودها على المحك، لكنه خطير، من حيث الحدة، بما فيه الكفاية، حتى يسمح لها بتبرير تسلطها، وتمرير مسوغات تحديث بقائها.

* كاتب وباحث جامعي جزائري /”العربي الجديد”

اقرأ أيضا

الصحراء المغربية

منزلقات تأويل موقف روسيا من المينورسو

أثار التصويت على قرار مجلس الأمن الدولي بخصوص التمديد لبعثة المينورسو جدلا كبيرا في مختلف …

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *