قد يثير الحديث عن «الربيع العربي» بعد ما يقارب السنوات الخمس على انطلاقه الكثير من التساؤلات، وربما الغضب والاستنكار، فعن أي «ربيع عربي» نتحدث، مع هذه المشاهد المرعبة من التوحش والانحطاط؟
في الإجابة على ذلك أقول بكل إصرار إننا أمام مخاض عسير لـ «ربيع عربي» يتآمر لإجهاضه المتضررون منه في العالم، لأنهم يعرفون أن العالم مع «ربيع» كهذا لن يكون عالم ما قبله، وأن هذا الذي يسمونه نظاماً عالمياً ليس إلا مظلة لقوى العدوان والعنصرية والاستغلال.
هل أنا أحلم؟ نعم، ومن حقي أن أحلم، بعد حفلة التجني على التاريخ العربي التي روج لها أدونيس وأقرانه. إن الثورة تبدأ بحلم على أي حال، وإن انتصار الحق على الباطل حلم، وانتصار الشعوب وسقوط الطغاة حلم، وانتصار الحب والتسامح والعدالة والمساواة والأنسنة على الكراهية والعنصرية والظلم والتوحش حلم. من حقنا أن نحلم، بل الحلم واجب وضرورة حياة ووجود. على أن المشكلة بالحالمين عندما لا يكونون جديرين بأن يحملوا تلك الأحلام، إذ يقعدون عن امتلاك الأدوات والوسائل لتحقيقها.
نقول إن جميع عناصر الحلم متوفرة بأكثر من الحاجة، لكن المشكلة كامنة ببناء المؤسسة الجمعية التي تحمل برنامج الأمة، وتعرف كيف تستخدم الأدوات والوسائل لتحويلها من منطقة نفوذ تتصارع عليها وفيها قوى العدوان إلى مركز إشعاع حضاري وإنساني.
ولعل الخطوة الأساس في ذلك تكمن في التخلص من حالة الاستلاب والتبعية لقوى الهيمنة الخارجية التي رسختها قرون من الاحتلالات المتعاقبة، وتوجتها عقود من تسلط أجهزة القمع والفساد والنهب والاستجداء بالخارج، وهو ما أدى إلى حالة من الاستلاب عند أجيال عربية متعاقبة، ترسّخ عندها الخوف والشك بالآخر، وبات معها العمل الجماعي المؤسساتي شبه مستحيل. صحيح أن هذا الواقع يكمن وراء تعثر «الربيع العربي»، ووراء الاختراقات التي يتعرض لها، لكن «الربيع» في الوقت ذاته كسر حالة الاستكانة والاستلاب التي كانت سائدة، وهذا ليس بالأمر الهين، بل هو ضرورة لإمكانية الانطلاق وتجاوز التعثر.
إن الإنسان العربي في هذا الإطار هو الأساس، ولا بد بالتالي من نقلة نفسية من حالة الارتهان للعجز والتساؤل عما يُراد لنا، إلى حالة نقيضة تبدأ وتنتهي بماذا نريد نحن، وماذا نملك من قدرات، وما هي برامجنا.
إن الخروج من حالة الاستلاب والاستكانة للخارج شرط أولي وأساسي لوضع حد لعواصف هذا الشتاء، ذلك أن حالة الاستلاب مزدوجة ومتداخلة، فهي تحيل إلى الخارج على تناقضاته، وتتصل بامتداداته في الداخل، التي تعبر عن نفسها على شكل عصبيات طائفية ومذهبية وأثنية.
لذلك، لا بد من التعامل مع الخارج وفقاً لمبدأ الولاء للوطن، واعتبار كل تجاوز لذلك «جرم خيانة» لا يحجبه دين ولا طائفة ولا مذهب ولا إثنية، ولا بد من وضع حد لاختراق البنية المجتمعية العربية تحت أي عنوان، فهذه الأمة لن تنهض من كبوتها إلا باعتماد معايير تنتقل بها من صراعات التاريخ الغابر وثأريات الأمس، إلى التعامل الإيجابي مع مشكلات الحاضر، وإيجاد الحلول لها، والتخطيط للمستقبل وامتلاك أدوات ووسائل تحقيق أهداف بعيدة المدى.
إن دروس التاريخ بالغة الدلالة، تؤكد أن العرب لم يتمكنوا في قديمهم وحديثهم من التحرر والنهوض، لا كأجزاء ولا ككل، عندما كانوا يركنون لجهة خارجية ـ أياً كانت – في مواجهة قوى خارجية أخرى. بل كانوا في هذه الحالة يتحولون إلى وقود في تلك الصراعات. لذلك نجد أن تباشير التحرر والنهوض بانت عندما وجّه جدنا العربي محمد بن عبد الله أولئك الرسل في وقت واحد إلى امبراطوريات ذلك الزمان في الشرق والغرب: أن كفوا عن الطغيان والظلم والعدوان، فلن نكون فرساً بعد اليوم، ولن نكون روماً. وكان هذا المنطلق كافياً لانطلاق معارك التحرير، إذ لم تتحرر الأمة بمعركة القادسية ضد الفرس، ولا بمعركة اليرموك ضد الروم، وإنما بتلازم المعركتين معاً. وعندما فعلتها، نهضت واستعادت قرارها وإرادتها.
وفي العصر الحديث عندما بدأت إرهاصات تحرر ونهوض عربي في خمسينيات القرن المنصرم، بعد توالي احتلالات وتدخل قوى وهيمنة خارج، كانت راية تلك المرحلة بالغة الدلالة مرة أخرى: «لا شرقية ولا غربية». لكن عندما تعقدت الظروف وغابت الراية ووضع النظام الإقليمي بتصرف الأجندات الخارجية، تم إجهاض مشروع التحرر والنهوض، وأخذت العصبيات تستعيد الأجندات الخارجية، كمخلب قط، وراحت تحتل الساحة العربية من جديد، وتتصارع عليها بتوحش لا مثيل له.
نحتاج إلى وقفة مصارحة مع الذات للانتقال من المراهنة على الخارج إلى مواجهة مخططاته المعادية، ومن ثم رسم الطريق إلى «الربيع» الذي نتغنى به.
*كاتب صحفي/”السفير”