عام وبضعة أيام مرت على إعلان ما يسمى بـ»الدولة الإسلامية» في خطبة أبو بكر البغدادي الشهيرة من على منبر المسجد النوري الكبير في مدينة الموصل غرب العراق، وتنصيب نفسه خليفة للمسلمين..
كان عاما عاشت فيه المنطقة ولا تزال، ويلات التفتت والتشرذم والتنكيل والقتل والإعدامات على الهوية، والتفنن في أساليب القتل من قطع للرؤوس وحرق بأقفاص وإغراق بالماء إلى آخره من أساليب الإجرام.. عاما من الاستقطاب الطائفي والديني والعرقي لم تشهد له المنطقة مثيلا.
عام كامل سالت فيه الدماء بين أبناء الشعب الواحد، بحورا.. سنحتاج إلى سنين طويلة لتجفيفها أن أعطينا الفرصة ولن نُعطها.
عام كامل تفتت فيه الأنسجة الاجتماعية واللحمة الوطنية والعلاقات الإنسانية وحتى العائلية والأسرية.. ووصلنا فيه إلى مرحلة أصبح فيها الأخ يشهر السلاح في وجه أخيه، وما أسهل الضغط على الزناد.. ولم يعد هذا المشهد المؤلم المظلم ينطبق على سوريا والعراق فحسب، فلحقت بهما ليبيا واليمن والحبل جرّار والمقبل أعظم.. والطامة الكبرى أن كل ذلك يَتِم باسم الدين والدين منهم براء..
عام أصبحنا فيه كالأيتام على مآدب اللئام، وفريسة تنهش في لحمها كل الذئاب جائعة كانت أو غير جائعة.. عام كامل و»الدولة الإسلامية» التي حملت بداية اسم «تنظيم الدولة الاسلامية في العراق وبلاد الشام» (داعش) ومن بعدها « الدولة الاسلامية في العراق والمشرق» لا تزال قائمة ورقعة المناطق التي تسيطر عليها تتسع ويتعزز وجودها فيها.. يأتي هذا بينما أصبحت هذه الدولة تحصيل حاصل، خاصة وسط تزايد الاحاديث في الدول الغربية عن إمكانية التعامل معها كأمر واقع في المستقبل.
وباتت حدود هذه الدولة تمتد من حلب شمال غرب سوريا مرورا بالرقة وحتى الموصل شرقا، يضاف إليها الرمادي جنوب غرب العراق على الحدود مع الاْردن. فبين نوفمبر الماضي وحتى الان زادت المساحة التي تخضع لسيطرة هذا التنظيم من حوالي 250 ألفا إلى حوالي 350 ألف كيلومتر مربع، لتزيد عن مساحة معظم الدول العربية وحتى الغربية.
ولمواجهة توسع وتمدد نفوذ الدولة، قادت الولايات المتحدة تحالفا وهميا هُلّـل وكُبّر له إعلاميا، حتى ظن من اختار تصديقهم أن نهاية «داعش» أصبحت قاب قوسين أو أدنى. وضم هذا التحالف أكثر من60 دولة، كل لغرض في نفس يعقوب، من بينها دول عربية التحق بعضها بالركب لفائدة مالية، ومنها لفائدة إعلامية بالمشاركة في غارات استعراضية، قبل أن يتراجع دورها شيئا فشيئا ليبقى هذا التحالف مقصورا على غارات تشنها الطائرات الحربية الامريكية والكندية بين الحين والآخر، ضد مواقع مختارة راح ضحيتها مئات المدنيين، إن لم يكن الآلاف، من دون أن يكون لها تأثير يذكر على زحف تنظيم الدولة، إلا في أماكن معينة مثل عين العرب (كوباني) في شمال سوريا وغيرها من مناطق وجود الأكراد.. وهو ما يثير تساؤلات كبيرة حول ما اذا كان الهدف من هذه الغارات هو المساعدة في تنفيذ مخطط تقسيم سوريا إلى معازل إثنية وقومية وطائفية؟ وأذكر هنا أن نظام الاسد المسؤول الاول عن الكوارث التي تعيشها سوريا، ألغى العملة التي كانت تحمل صورة حافظ الأسد بعملة جديدة، قَام بتوزيعها في ثلاث محافظات وهي دمشق وطرطوس واللاذقية.. فهل لهذا دلائل او مؤشرات إلى كيف سيكون تقسيم سوريا؟ ربما..
عام كامل مر على اعلان الدولة ولم تتكشف فيه بعد، كل أسرار هذا التنظيم الغامض، والدور الذي لعبته وتلعبه الولايات المتحدة ودول غربية أخرى، إن لم يكن في تأسيسه فعلى الأقل في تعزيزه.
اعرف أن الحديث كثر ومن مصادر متنوعة حول العلاقة بين الولايات المتحدة وصعود «تنظيم الدولة» لكن نزيد لمن لا يزال لديه بقايا شك، في أن واشنطن هي من يدير من وراء الكواليس، واحيانا علنا ما يجري في المنطقة، ففي الأسابيع القليلة الماضية حصلت شركة محاماة يطلق عليها «جوديشال ووتش» من أجل الصالح العام، على مجموعة وثائق جديدة صادرة عن وكالة الاستخبارات العسكرية (DIA) الامريكية من بينها وثيقة لم تحظ بتغطية إعلامية كافية، تلقي مزيدا من الضوء على مدى تورط الولايات المتحدة في صعود «تنظيم الدولة»، إن لم يكن على نحو مباشر فعلى الأقل بغض الطرف عن المعطيات على الارض.. وتبين هذه الوثيقة كيف أن حكومات غربية تحالفت مع تنظيم «القاعدة» وجماعات اسلامية متطرفة في سوريا. وتكشف أن الغرب وبالتحالف مع دول خليجية وتركيا، ومع سبق الإصرار رعى المجموعات الاسلامية المتطرفة في عنفها. ووفق الوثيقة فإن وزارة الدفاع الامريكية توقعت احتمال صعود «الدولة الاسلامية» كنتيجة مباشرة لهذه الاستراتيجية وحذرت من أن ذلك قد يزعزع الاوضاع في العراق، كما حذرت من أن الدعم الغربي والخليجي والتركي للمعارضة في سوريا، بما فيها «القاعدة في العراق» قد يقود إلى ظهور «الدولة الاسلامية» في العراق وسوريا.
وعلى الرغم من ذلك فان الوثيقة خلت مما يشير إلى قرار تراجع عن هذه السياسة، ليس هذا فحسب، بل أن ظهور جماعة سلفية مرتبطة بـ»القاعدة» في العراق نتيجة لهذه السياسة، اعتبر فرصة استراتيجية لعزل نظام الاسد في دمشق، كما يقول الروائي والصحافي الامريكي ديفيد مزنر المختص في شؤون الحرب والسلام وحقوق الانسان وقضايا الامن.
ويذكّر مزنر بتصريحات لنائب الرئيس الامريكي جو بايدن في اكتوبر الماضي، كنت قد أشرت اليها في مقال سابق، انتقد فيها علنا حلفاء أمريكا في المنطقة لدعم «تنظيم الدولة». وقبلها بشهر أبلغ الجنرال الامريكي ديمبسي لجنة القوات المسلحة في مجلس الشيوخ، بان حلفاء أمريكا العرب يمولون «تنظيم الدولة». وحاول المسؤولون الامريكيون إبعاد أنفسهم عن دعم حلفائهم لـ»تنظيم الدولة» من دون أن يكون هناك نوع من الادانة.
واضطر بايدن إلى التراجع نوعا ما عن اتهامه بالقول إن دعم الحلفاء الخليجيين لـ»تنظيم الدولة» كان غير مقصود، بينما دافع عنهم السيناتور ليندسي غراهام في رده على الجنرال ديمبسي بالقول «كانوا يحاولون الحاق الهزيمة بالاسد. واعتقد انهم ادركوا خطأ أساليبهم».
وجاءت هذه الانتقادات للحلفاء كما يقول الكاتب وسط جهود الأمريكيين لتمرير قرار قصف مواقع «تنظيم الدولة»، الذي أصبح متحصنا في شمال شرق سوريا والجزء الغربي من العراق. وتابع الكاتب «لكن ليس هناك أي دليل على أن إدارة باراك اوباما حاولت في الأشهر أو السنين منع حلفائها من مساعدة «تنظيم الدولة» لكي يصبح قوة إقليمية.
وأما الولايات المتحدة يقول الكاتب فقد واصلت إرسال السلاح إلى سوريا، رغم معرفتها بأن جزءا منه يجد طريقه إلى «تنظيم الدولة». وهذا ما أكده أبو أثير أحد قادة التنظيم في عام 2013 وفقا للكاتب.. بقوله «تجمعنا علاقات مع إخواننا في الجيش الحر». وأضاف أن التنظيم اشترى صواريخ مضادة للطائرات والدبابات من هذا الجيش. وتجاهل الرئيس الأمريكي وفريقه في خطبهم الأساسية حول الاوضاع في سوريا موضوع «تنظيم الدولة»، وحتى بعد سيطرة التنظيم على مدينة الفلوجة في يناير 2014 ولم يصبح التنظيم العدو رقم واحد، إلا بعد جملة الانتصارات التي حققها في نهاية 2014، أو بالاحرى بعد عمليات قطع رؤوس الرهائن الغربيين التي حازت تغطية إعلامية كبرى، وما كان بالإمكان السكوت عنها. ويقول الكاتب إن المسؤولين الأمريكيين يزعمون أن «تنظيم الدولة» أخذ الاستخبارات الامريكية على حين غرة، ولكن وثيقة وكالة الاستخبارات الدفاعية في عام 2012 التي وزعت على أطراف الحكومة المختلفة، تكشف أكاذيبهم، إذ توقعت قيام منطقة سلفية في شرق سوريا. وتوقع التقرير أيضا أن يعود «تنظيم الدولة في العراق» إلى ما وصفه بجيوبه القديمة في الموصل والرمادي، وإعلان الدولة الإسلامية في غرب العراق وشرق سوريا. ويذهب التقرير إلى ما هو أبعد من ذلك، وهو أن قيام دولة إسلامية كان بالتحديد هدف الدول الخارجية. والغرض من ذلك هو في التحليل المنطقي عزل نظام الاسد عن عمقه الاستراتيجي في العراق وايران ومنع التوسع الشيعي.
واكتفي بهذا الكم من التقرير الذي يقودني إلى الاستنتاج أن ما يجري ليس اكثر من مؤامرة اخرى واتفاقية سايكس بيكو بنسخة جديدة تفتت المفتت أصلا، ولكن هذه المـــــرة على أساس الطائفة والعرق.. تفتيت المنطقة إلى معازل ودويلات متنازعة ومتناحرة متقاتلة، تبقي صناعة السلاح في الغرب، لاسيما الولايات المتحدة قائمة ومزدهرة… دويلات ومعازل تتسابق لنيل رضى إسرائيل، مجرد اجتهاد لا اكثر.
٭ كاتب فلسطيني/ «القدس العربي»