بقلم: سليمان جودة*
يبدو الأمر في تركيا هذه الأيام، وكأنه في حاجة إلى دراسة لنفسية الناخب في أعماقها، أكثر منه حاجة إلى دراسة لاتجاهات الرأي العام وتوجهاته.
لقد كانت كل المؤشرات، أو معظمها على الأقل، تشير إلى أن حزب «العدالة والتنمية» الذي يتزعمه رجب طيب إردوغان، ويحكم هناك منذ عام 2002 سوف يفوز بأغلبية الأصوات، في انتخابات البرلمان التي جرت الأحد قبل الماضي.
كانت المؤشرات كلها، أو معظمها، تشير إلى ذلك، ولم تكن تقول بأنه سوف يخسر الأغلبية، وأن نصيبه من مجمل الأصوات، لن يتجاوز 40 منها، فهذه النسبة تقول بوضوح، بأن 60 ناخبًا، من بين كل مائة ناخب ذهبوا إلى صناديق الاقتراع، قد صوتوا لغير صالح إردوغان، ولغير صالح الحزب الذي حكم الرجل بلاده باسمه، على مدى 13 عامًا كاملة.
فما هو بالضبط، الشيء الذي جعل هذه الكتلة الكبيرة من الناخبين، ضده، وضد حزبه؟!
ذلك أنه على المستوى الاقتصادي، وهو في العادة المستوى الذي يمس أي ناخب بشكل مباشر، ويحركه في أي انتخابات، في أي بلد، كان المواطن التركي، منذ جاء «العدالة والتنمية» إلى الحكم، ينتقل ولا يزال كمواطن، من حياة اقتصادية مريحة، بوجه عام، إلى حياة أكثر راحة منها، حتى وصل متوسط دخل الفرد إلى معدلات من متوسط الدخل، لم يحدث أن وصل إليها من قبل، لدرجة أنها تضاعفت أربع مرات تقريبًا، الآن، قياسًا على ما كانت عليه قبل 13 عامًا.
إن المسألة الاقتصادية، في ظن كثيرين من دارسي عادات الشعوب، هي ما يهم كل شعب، أكثر من غيرها، وهي تؤثر فيه، وفي توجهات ناخبيه، أكثر بكثير من المسألة السياسية مثلاً.. فما الذي بالضبط أسخط 60 ناخبًا، من بين كل مائة، على إردوغان، وعلى سياساته، وما الذي بالضبط جعل الناخبين، في غالبيتهم، يعاقبونه بهذه الطريقة القاسية، إلى حد أنه أصبح عاجزًا عن تشكيل حكومة من خلال حزبه وحده، إلا أن يأتلف مع واحد من الأحزاب الثلاثة التي حصلت على كُتل لا بأس بها من الأصوات، وإلا أن يذهب إلى انتخابات مبكرة، إذا خذلته الأحزاب الثلاثة، ولم تسعفه؟!
هل لأنه انقلب، مثلاً، على إرث مصطفى كمال أتاتورك العلماني في البلاد؟! ربما.. ولكن المؤمنين بذلك الإرث، والمتمسكين به، ليسوا أقوياء إلى هذه الدرجة، وليسوا كتلة انتخابية ضخمة، إلى هذا الحد، بدليل نتائج الانتخابات نفسها، من حيث حصة كل تيار سياسي فيها!
هل لأن اتهامات بالفساد، قد طالته، وطالت ابنه، وطالت أعضاء في حكومته، طوال الفترة الماضية ولم يأخذها هو بالجدية الواجبة؟!.. ربما أيضًا.
هل لأنه شن حملة غير مبررة، على فتح الله غولن، القطب التركي صاحب الشعبية الكبيرة، في المجتمع التركي بصفة عامة؟!.. يجوز جدًا.. ولكن أين كان تأثير هذه الحملة عليه، وقد شنها هو قبل انتخابات الرئاسة، ثم فاز رغم ذلك، بأغلبية الأصوات، حتى ولو كانت أغلبية بسيطة!
كل هذه الاحتمالات، لا تصلح كما ترى، لتفسير هذه الضربة القوية التي وجهها إليه ناخبون، كان هو قد ذهب لانتخابات البرلمان، وهو واثق بأنهم جميعًا معه، فإذا بـ60 منهم ضده بشكل واضح، ومفاجئ، وصادم معا!
كيف، إذن، يمكن فهم ما جرى، وكيف يمكن استيعابه؟!.. وهل نحن في حاجة إلى ضرب الودع، أو إلى قراءة الفنجان، للوقوف على حقيقة السبب الذي صرف عنه غالبية ناخبيه هكذا؟!
تقديري أن الدراسة الجادة لنفسية الناخب، يمكن أن تكشف عن أن هذا الناخب، في غالبيته مرة أخرى، قد راح يراقب سلوك إردوغان، فيما بعد فوزه في الرئاسة، وأن هذه المراقبة من ناحيته، قد كشفت له، عن أن «إردوغان» رئيس الحكومة، ليس هو «إردوغان» الرئيس، وأن هذا الأخير قد بدأ يتصرف في قصر الرئاسة بأسلوب المغامر، لا بأسلوب رجل الدولة الذي كان يتصرف به من قبل رئيسًا للحكومة، وأن تماديه في أداء دور المغامر، وتقمص طبيعته، يمكن أن يبدد رصيد 12 عامًا في بناء الاقتصاد التركي، وأنه لا بد لذلك من كبح جماحه، حتى لا يأخذ معه اقتصاد بلده، في قدميه، أثناء جموحه الذي بدأ في لحظات كثيرة، وكأنه بلا حد، وبلا قيد، وبلا ضابط.
الاقتصاد الذي بناه إردوغان، طوبة، طوبة، هو الذي صعد به، رئيسًا للحكومة 12 عامًا، ثم كان الخوف على بنيان هذا الاقتصاد ذاته، هو الذي دفع الناخب إلى أن يعيد تذكيره بالحقيقة، بل ويدق له جرس الانذار، لعله يفيق، إلى أنهم في حاجة إلى رجل دولة، عرفوه على رأس الحكومة، من قبل، ورضوا به، لا إلى مغامر فوجئوا به على رأس دولة، وأشفقوا عليه!
*صحفي وكاتب مصري/”الشرق الأوسط”