بقلم: مصطفى القلعي*
منذ إسقاط نظام معمر القذافي، لم تكن تونس بعيدة عن الشأن الليبي بل كانت مورّطة فيه اجتماعيا وسياسيا واقتصاديا. اجتماعيا تضاعفت الحركة في الاتجاهين فتضخم عدد الليبيين المقيمين في تونس، مقابل ارتفاع هجرة الشباب التونسي إلى ليبيا بعضهم لأجل العمل والبحث عن فرص جديدة وبعضهم للانخراط في الجماعات المتطرّفة المتقاتلة وبعضهم الآخر للعبور إلى مناطق النزاع، لاسيما سوريا والعراق بعد التدرّب على السلاح في ليبيا. وتقول آخر الإحصاءات إنّ التونسيّين يتصدّرون أعداد المقاتلين في ليبيا.
سياسيّا كانت تونس قريبة من التأثير في الأوضاع منذ ثورة 17 فبراير، لاسيما أثناء حكومة الباجي قايد السبسي سنة 2011 وساعدت في إسقاط نظام القذافي. وهذا الدور السياسي مستمرّ اليوم بشكل غير مطمئن، إذ تحتفظ تونس بتمثيليّتين دبلوماسيتين عند حكومتين متصارعتين، واحدة معترف بها دوليّا في طبرق، والثانية غير معترف بها في طرابلس. وهو تعاط دبلوماسي غريب لا سابقة له في الأعراف الدولية.
مبرّر تونس في الاعتراف بحكومتين في ليبيا هو حفاظها على مصالحها في طرابلس، حيث العدد الأكبر للتونسيين والحجم الأضخم للمبادلات الاقتصادية. ولكن لابد لنا من أن نشير إلى أنّ هذا التعاطي الدبلوماسي لم يكن ناتجا عن سياسة إستراتيجية عميقة ولم يكن تنفيذا لبرنامج الحزب الحاكم نداء تونس. بل العكس هو الصحيح إذ أن افتقار الحزب الحاكم إلى الرؤية والبرنامج هو ما جعله يسقط في خطّة شريكه الغريم حركة النهضة التي دافعت بشدّة عن فجر ليبيا، وكان رئيس النهضة راشد الغنوشي قد اعتبر، منذ أيّام، أنّ هذه الميليشيا هي التي تؤمّن تونس من الدواعش.
في هذا المستوى لابدّ من طرح سؤالين؛ الأوّل هو ما هي مصلحة النهضة مع فجر ليبيا؟ والثاني هو هل مصلحة تونس في مصلحة حركة النهضة؟ لا يخفى أنّ فجر ليبيا هي ميليشيات إخوانية تفرض سلطة المؤتمر الوطني في طرابلس، وتمثّل الذراع العسكريّة لحكومة طرابلس التي لم تفز في الانتخابات التشريعيّة الأخيرة. ومبرّر حركة النهضة المعلن في دعمها لفجر ليبيا ومؤتمرها الوطني وحكومته هو وجودها على التخوم القريبة من تونس، كما ذكرنا أعلاه. والحقيقة أنّ ما يجمعهما هو العقيدة الإخوانية.
إنّ مصلحة تونس ليست في مصلحة النهضة وعقيدتها الإخوانية. والبديل الذي لم تفعله النهضة ولا الحكومة التونسية كان يتمثل في إقناع ميليشيات فجر ليبيا بالانخراط في الجيش الليبي، وتشكيل قوّة غربية ضاغطة على الأصوليين والجماعات التكفيرية وتعمل بالتنسيق الكامل مع الجيش الليبي وتحت إمرته لتخليص ليبيا من الإرهاب. لو حدث ذلك لكانت طرابلس محرّرة الآن، ولسلمت تونس فعلا من خطر الدواعش بلا مساومة ولا ابتزاز.
ولكن الواقع غير ذلك. فميليشيا فجر ليبيا معادية للجيش الليبي ومعادية للدواعش في الآن نفسه. وهذا يضعف المقاومة الليبية ويتيح فرص المناورة والامتداد أكثر للإرهابيين التكفيريين، ويزيد من حدّة الخطر على تونس خلافا لما قاله رئيس حركة النهضة. كما أنّ الحفاظ على ميليشيا فجر ليبيا يعني، إستراتيجيا، الحفاظ على قوّة عسكرية إخوانية تمثل قوّة صد ضدّ الجيش الليبي الذين يعتبرونه مواليا لمصر. وفي هذه النقطة تتقاطع ميليشيا فجر ليبيا مع الدواعش في معاداة مصر وتهديد أمنها.
ولهذا تعمل فجر ليبيا، بمساعدة النهضة وتأثيرها في السياسة الخارجية التونسية بفضل العلاقة الكبيرة بين رئيس الجمهورية التونسية ورئيس حركة النهضة، على تحييد تونس واستلال اعتراف بها، وهو ما نجحت فيه. ولكن هذا النجاح لم يكتمل، باعتبار تفطّن الجزائر إلى هذه المسألة وعدم انخراطها في ما انخرطت فيه تونس من الاعتراف المتسرّع بحكومة طرابلس.
كما أنّ الواقع الليبي على الأرض يزداد تعقدا إذ أنّ القوّة ليست عند الجيش الليبي وميليشيا فجر ليبيا والدواعش فحسب، بل هي موزعة بين القبائل مثل ثوار مصراتة والميليشيات والأذرع الصغيرة والجيوب المستقلّة التي تعمل بالأجرة أو بالوكالة، مثل التي نفّذت الهجوم الأخير على القنصلية التونسية في طرابلس واختطفت 10 من الموظفين التونسيين.
إنّ اندراج فجر ليبيا تحت الجيش الليبي لو تمّ كان سيدفع البقيّة إلى مجاراته، لاسيما القبائل الغربيّة والجماعات المسلّحة المتفرّقة في الغرب. وكان هذا سيكون في صالح ليبيا إذ سينقذها من لعبة المحاور ومن أن تكون ساحة يلعب فيها الجميع ويخطّط عبرها الجميع لضرب من يريد من الخصوم. وكان الشعبان الليبي والتونسي سيكسبان وقتا ويوفّر عليهما ذلك جهدا ضائعا وينشر الأمن على الحدود الليبية التونسية، دون اللجوء إلى فكرة الجدار العازل الذي سيكرّس التجزئة ويعزل الشعبين عن بعضهما بعضا ويملأ جيوب المقاولين والسماسرة بالنقود.
ولكن دبلوماسية تونس لم تكن لها هذه الإستراتيجية. وإنما وقعت في التهافت الدبلوماسي إذ استقبلت رئيسيْ الحكومتين المتصارعتيْن في مناسبتين مختلفتين. ولم يكن اللقاءان من أجل التقريب بينهما، بل كان حضور رئيس حكومة طبرق، عبدالله الثني، للمشاركة في المسيرة العالمية للتنديد بالإرهاب عقب اعتداء باردو الإرهابي، وبعده بأسبوعين قدم رئيس حكومة طرابلس باسم حكومته. وتمّ استقباله رسميا في تونس.
وأعتقد أن التهافت الدبلوماسي التونسي تجاه ليبيا سببه عجز الحزب الحاكم، صاحب الأغلبية النيابية والذي يرأس رئيسُه الجمهوريةَ التونسية، عن وضع برنامج كامل لتونس يتضمن رؤى إستراتيجية في الدفاع والأمن والخارجية. ومن علامات هذا العجز التجاء رئيس الجمهورية وواضع السياسة الخارجية إلى الولايات المتحدة الأميركية يمضي معها بروتوكول تعاون طويل المدى، معتقدا أنّ أميركا ستحمي تونس وتحلّ مشاكلها. والمفروض أنّ الاتفاقيات والبروتوكولات المصيرية تكون مع دول الجوار، لاسيما مع الجزائر وليبيا حيث تختلط المصالح وتترابط المصائر.
لم تمرّ الإستراتيجية الدبلوماسية التونسية تجاه ليبيا دون خسائر، فتونس تعاني من الحكومتين إذ حكومة طبرق تناور بورقة الصحفيّين التونسيّين سفيان الشورابي ونذير القطاري المخطوفين في المناطق القريبة منها، دون أن تساهم جديا في كشف خفايا قضيتهما. وحكومة طرابلس عجزت عن توفير الأمن ليس للتونسيين العاملين في ليبيا أو المتنقلين إليها، بل وحتى للدبلوماسيين. فتواترت عمليات اختطاف التونسيين أمام عجز السلطات التونسية عن التصرف لحماية مواطنيها المسؤولين منها.
ومن خسائر تونس أيضا أنّ موقفها من الاعتراف بحكومة طرابلس غير الشرعية والتعامل مع ميليشيا فجر ليبيا الإخوانية أطرداها من المشاورات حول ليبيا المنعقدة بتواتر بين إيطاليا والجزائر ومصر. كما أنّ تونس ليست قريبة من مشاورات المبعوث الأممي حول ليبيا برناردينو ليون وليست مؤثرة فيها، بما يوحي بعدم الثقة في سياستها وخياراتها الدبلوماسية التي جعلتها بمثابة الطرف لا الجار الشريك.
*كاتب وباحث سياسي تونسي/”العرب”