د. أحمد إبراهيم الفقيه*
مع تفاقم الأزمات التي صاحبت التحول الذي اصطلحنا على تسميته بالربيع العربي في عدد من البلدان، وانهيار الأمن وتغول أهل التطرف والبلطجة، وارتفاع أرقام الضحايا، ارتفعت النغمة التي تدين الثورات التي قامت في هذه البلدان والتي صنعت هذا الربيع، وتدين القيادات التي تصدرت صفوف الثوار، وتدين الثوار وتسمي ما حصل مؤامرة دولية، ولا ينقص أصحاب هذه الأطروحة بعض الشواهد يعززون بها كلامهم، والاقتباسات التي يقتبسونها من أقوال مسؤول غربي، بل ولا يتحرج بعضهم من التهويل، بل والتزييف والتشويه لهذه المقولات، إلى درجة أننا سمعنا من روج لأقوال لم تقلها وزيرة الخارجية الأميركية السابقة هيلاري كلينتون، في كتابها خيارات صعبة، مدعيا أنها تعترف صراحة بأنها وراء تأسيس داعش وتمهيد الأجواء لانتشارها وتسليحها وتعزيز حضورها فوق الأرض العربية.
ربما نلتمس العذر لبسطاء الناس ممن فقدوا الأمن والأمان، ووجدوا الحرائق تحاصرهم، وعصابات مسلحة خارج القانون تغتصب أملاكهم وتطردهم من بيوتهم، وأحيانا من داخل القانون كما في سوريا، ولكنه قانون الحاكم المستبد. قد نجد العذر لمثل هذا المواطن البسيط في حنينه، كما سبق أن قلت، إلى ما كان ينعم به من أمان في ظل الأنظمة الاستبدادية، ولكن من يدعي الانتساب للحراك السياسي أو للطلائع المستنيرة من أبناء الوطن، ثم يقول مثل هذا الكلام، فيجب أن يراجع نفسه، ويراجع ملكات الحكم والتقييم عنده.
ولا أقبل إنسانا يشكك في ثورة الشعب الليبي، ضد حاكم يمثل البشاعة في أبلغ صورها، ونظام لم يكن يحترم أي حق من حقوق الإنسان، بل العجب العجاب هو كيف تأخرت هذه الثورة كل هذا الوقت، وكيف تمكن هذا المستبد من فرض سيطرته لمدة أربعة عقود ونيف، هذا ما يستحق الاندهاش، أما الثورة نفسها فإنها تملك من المصداقية ومن الدوافع ما يجعلها خارج أي درجة من درجات الشك أو الريبة، وما قدمه أصحاب هذه الثورة من تضحيات، وما أروه للعالم من صور البطولة والاستبسال، تكفي ليعرف القاصي والداني حجم مشاعر الإحساس بالظلم التي سكنت نفوس الليبيين ضد جور وظلم ذلك النظام، وأن هذا الظلم وما رافقه من عسف وقمع ومهانة، هي الدوافع وراء هذه الثورة، وليست الدوافع مؤامرة أو يدا أجنبية لإسقاط النظام وتقويضه.
وأقول أيضا إن هناك أعداء خارجيين للحاكم الليبي، يتمنون إنهاء حكمه، وربما كان هناك مثل هؤلاء الأعداء للحاكم في اليمن، أو الحاكم في تونس، والحاكم في مصر، والحاكم في سوريا، ممن استهدفتهم ثورات الربيع العربي، وهم يسعون أيضا لتقويض هذه الأنظمة والإطاحة بها، وهذا وارد، ولعله كان جزءا من الزخم الذي أدى إلى نجاح هذه الثورات في الإطاحة بمن أطيح بهم من هؤلاء الطغاة، بل أكثر من ذلك، هناك قوة كبرى في العالم، هي أميركا، لا يمكن لها أن تتصنع الحياد في أي حدث من أحداث العالم، كما لا يمكن تفاديها أو التغاضي عنها، وكأنها ليست موجودة، فهي بالتأكيد تراقب اتجاه الريح في المنطقة العربية، ولا مانع من أن تسعى لتحريك هذه الريح والدفع بها في الاتجاه الذي تشتهيه السفن الأميركية، وهناك شواهد في التاريخ الحديث تثبت أنها تخلت عن أصدقاء، إن لم نقل عملاء لها، عندما وجدت أن الرياح التي تحولت إلى عواصف للإطاحة بهم لا يمكن السيطرة عليها، فانضمت هي أيضا إلى قوى العاصفة، مع الحرص على أن يكون لها حضور في مركز القرار الذي يحرك العاصفة، ويسعى لتوجيهها في الاتجاه الذي لا يخالف مصالحها، متخلية عن صديقها من قادة النظام القديم، والثورة الإسلامية الإيرانية بقيادة الخميني، وضد الشاه بما لديه من تاريخ طويل في خدمة أميركا، خير مثال على هذه المدرسة الأميركية في التعامل مع الأحداث.
ما حدث للثورة الإيرانية، التي سخرتها أميركا في حربها لتقويض الاتحاد السوفييتي وإشعال النعرات الدينية والقومية في جمهوريات الاتحاد السوفييتي، والتي نجحت في تقويضه، كان لابد أن يتكرر مع ثورات الربيع العربي، وأسلوب تعاملها مع هذه الثورات التي هبت لتقويض أنظمة تسلطية تحظى بالدعم الأميركي، يشبه تعاملها مع عواصف أنجيلا وفردريكا وفرانكا التي تهب من المحيطين الهادي والهندي، حيث تملك أميركا تقنية ترويضها، والتنبؤ بها وبخط سيرها، وتستطيع درء الخسائر الناتجة عنها، قبل أن تفرغها من قوتها إذا عجزت عن توظيفها، وهو موضوع يقودنا إلى كيف ومتى وأين رأت أميركا في الإسلام السياسي حصانا يمكن أن تراهن عليه في العالم العربي، خاصة في شكله الذي يسمونه معتدلا، ويمثله في رأيها تنظيم الإخوان المسلمين.
*كاتب ليبي/”العرب”