بقلم: ربيع بركات
يُسجّل لـ «حزب العدالة والتنمية» التركي أنه حزبٌ إسلامي الجذور، انتظم في العملية الديموقراطية وقبِل بنتائجها. ويُسجّل له أنه قدّم رؤى من خارج «الاستابلشمنت» التركي عند تأسيسه قبل 14 عاماً، فخرج عن قيود كانت المؤسسة العسكرية ومعها جملة من بيروقراطيات الدولة التركية قد فرضتها على الحرية السياسية في البلاد، خصوصاً لناحية التسليم بطوطم «العلمانية الأتاتوركية» المتطرفة، كما خرج من عباءة الإسلام السياسي التقليدي الذي مثّله الراحل نجم الدين أربكان، علماً أن الأخير كان يعيب على تلامذته المنشقين عن حزبه (الذي كان يُعيد تأسيسه بأسماء مغايرة كل بضعة أعوام نتيجة الحظر)، إفراطهم في البراغماتية على حساب قضايا الإسلاميين «المبدئية».
على أن أردوغان وحزبه، وبرغم ما سبق، عمِلا على تطويع المنظومة الحاكمة للعمل السياسي في تركيا بشكلٍ يسمح لهما بمأسسة وجودهما في السلطة. حتى كاد يصبح التداول بين أردوغان وغول في رئاسة الحكومة ورئاسة الجمهورية، يشبه ذاك الذي حكم العلاقة بين بوتين وميدفيديف في روسيا، حيث الأول «قائد» فعلي حتى لو لم يكن في موقع القرار الأول، مع فارق أن هذا الموقع مقلوبٌ في المثالين، فهو الرئاسة في روسيا، فيما هو، حتى اللحظة، رئاسة الحكومة في تركيا. وقد استمر الأمر على هذا المنوال حتى دخول أحمد داود أوغلو، منظّر «العثمانية الجديدة» و «الالتفات نحو الشرق»، مشهد المُداورة في الحكم الذي بدا ثلاثياً هذه المرّة، مع احتفاظ أردوغان ضمناً بصفة «الزعيم».
وقد ظهرت محاولات مأسسة وجود «العدالة والتنمية» في السلطة من خلال مجموعة من الإجراءات والقرارات والمواجهات مع عديدٍ من الخصوم في ميادين الإعلام والتربية والجيش والمؤسسات الأمنية والقضاء، لعل آخرها تلك المتّصلة بالمعركة المفتوحة مع حليف أردوغان السابق وخصمه الحالي، الداعية الإسلامي المقيم في الولايات المتحدة والذي يملك «دولة موازية» داخل أجهزة السلطة وفي المجتمع، كما يتهمه أردوغان، فتح الله غولين.
إلا أن هذه المأسسة ما كان لها أن تصل إلى ذُراها التنفيذية من دون نصٍ دستوري يجمع مزيداً من الصلاحيات في يد الرئيس أردوغان. وهذا ما كان الزعيم الإسلامي يعوّل عليه في الانتخابات الراهنة التي يبدو أن نتائجها لن تُعمّر طويلاً، مع بروز احتمالات تنظيم انتخابات مبكّرة تدفع نحوها صعوبةُ تشكيل ائتلاف حكومي أو حكومة أقليةٍ فاعلة في البلاد.
لم يفلح أردوغان إذاً في إنجاز تحوّل تاريخي في بنية السلطة في تركيا يُسفر عن جعل النظام رئاسياً، وخسر إمكانية التحوّل إلى «أتاتورك الثاني»، أي إلى مؤسس نمط جديد من علاقات القوة داخل تركيا يسمح بتعديل هوية الدولة ورؤيتها لنفسها وللعالم جذرياً. وبات على الرجل الكاريزمي أن يتعامل مع اليوم التالي لتراجع هذا الخيار. وهذا، على الأرجح، من شأنه أن يُدخل البلاد في جولة غير قصيرة من التذبذب الناشئ عن الشد والجذب حول خيارات الدولة الاستراتيجية، والناتج كذلك عن إيغال أردوغان في سياسات يصعُب العودة عنها بسلاسة.
لم يُفكّر أردوغان كثيراً باليوم التالي للانتخابات في حال تراجعت نسبة التأييد لحزبه برغم وضعه أهدافاً بالغة الطموح، تتصل بتأمين غالبية الثلثين لتعديل الدستور والهرم السلطوي بأسره في تركيا. بات الاستقطاب اليوم بين الراغبين بمزيد من مركزية السلطة وأولئك المتخوّفين منها، أي بينه وبين سائر الأحزاب الممثلة في البرلمان، وهذا أول ما يصعّب عليه وعلى حزبه إدارة دفّة البلاد بالمشاركة مع بعض هؤلاء.
لم يُعر اهتماماً كبيراً إلى أن الاستقطاب السياسي القائم بشكلٍ مبالغ فيه على أساس هويّة الدولة والمجتمع، بين إسلاميين وعلمانيين، يصنع فجواتٍ يصعب ردمها بسهولة. فهذا الاستقطاب دفع قطاعات من الناخبين إلى الانزياح نحو التعبير عن هويّات فرعية أخرى، وهو ما يفسّر تعبير حزبي «الحركة القومية» و «الشعوب الديموقراطي» عن هواجس «قومية»، تركية للأول وكردية للثاني.
وأغفل أردوغان أن الخشية من الاستقطاب الهوياتي قد تدفع طبقات تركية أوسع إلى الاصطفاف على خطوط جديدة، عمادها البرامج الاقتصادية والاجتماعية أولاً، وأن جمعَ حزبِه بين طبقاتٍ ريفية فقيرة وأخرى تمثل كبار المحتكرين والمستفيدين من سياساته الاقتصادية، فيه قدرٌ من الهشاشة التي قد تنكسر عند أول انعطافة انتخابية وتذبذب في الأسواق كما يحصل اليوم.
لم يفكّر الزعيم التركي كثيراً في أن سياسة تركيا الخارجية، تحديداً حيال سوريا، كانت في صلب خطاب الأحزاب المناوئة له أثناء الحملة الانتخابية. فحزب «الشعوب الديموقراطي» ذو القاعدة الكردية الواسعة سبق أن اتهم الحكومة التركية بالتواطؤ مع «داعش» أثناء معارك الأخير مع الأكراد في شمال سوريا، وهو بادر في أول تصريح بعد الانتخابات لزعيمه ديميرتاش إلى اتهام التنظيم المتطرف باستهداف مناصريه في التفجير الغامض قبل أيام، وبالتذكير بموقف أردوغان أثناء معركة كوباني. وحزب «الحركة القومية» دعا إلى «محاسبة» الحكومة التركية لتقديمها تسهيلات «للإرهابيين» في سوريا، فيما «الحزب الجمهوري» ضلع في تسريب معلومات تؤكد حصول هذه التسهيلات.
اليوم التالي للانتخابات التركية ليس كذلك الذي سبقها. وأمام أردوغان وحزبه ومنظومة الحكم التي كانت قاب قوسين من التحوّل، شهور طويلة من المراجعة لاندفاعات في السياسات الداخلية والخارجية، فيها قدر كبيرٌ من المغامرة.
اليوم، أقفلت صناديق الاقتراع على ما يخشى أردوغان أن يشكّل بُعداً آخر لانهيار سياسة «تصفير المشاكل» التي نظّر لها رئيس الحكومة داود أوغلو قبل «الربيع العربي»، وهو بعدٌ يتّصل بمشاكل داخل الطبقة الحاكمة هذه المرة، قد يتطلّب حلُها إعادةَ رسم السياستين الداخلية والخارجية للحكم التركي بالكامل، على نحو مختلف.
“السفير”