بقلم: خالد الحدّاد
على ما يبدو في واقعنا من اضطراب وتداخل ، وربّما الكثير من الفوضى، في العديد من القطاعات والميادين فالمؤكّد أنّ تراكمات إيجابيّة بصدد التحقّق على طريق التأسيس الديمقراطي وتثبيت اركان الجمهوريّة الثانية.
صحيح أنّ الطريق ما تزال شاقّة وصعبة فتكسير نواميس الحقد الإيديولوجي والكراهيّة ودحر مخلَّفات الاستبداد والتسلّط التي عاش تحت قيودها المجتمع لعقود طويلة ليس بالأمر اليسير والهيّن، كما أنّ نقل الدولة بمختلف أجهزتها لتكون خادمة للمجتمع مستجيبة لتطلّعاته وطموحاته وتخليصها من كلّ مظاهر العنجهيّة والصلف وفكّها عن البيروقراطيّة ولوبيات الفساد والإفساد التي ركبتها طويلا يحتاجُ المزيد من الوقت.
لكن مرحلة بمرحلة تتقدّم الحياة الوطنيّة وخطوة خطوة يتمّ الفرز المجتمعي والسياسي لفائدة إنضاج شروط الحريّة الواعية والمسؤولة وتعزيز روح التعايُش وسلوك المواطنة والإيمان بالآخر المُخالف والتسليم بمبادئ التعدديّة والتداول السلمي على السلطة وزرع ثقافة العمل للصالح العام والتضحية في سبيل المجموعة الوطنيّة ورفع راية البلاد خفّاقة بين الأمم.
تعرفُ الحياة الوطنيّة العديد من التجاوزات والممارسات السلبيّة، فمن تحرّكات واحتجاجات عشوائيّة، ومنها حتى الصادرة عن هياكل نقابيّة او مدعومة من احزاب أو جمعيات ومنظمات ، ضارّة بالاقتصاد مُربكة للدولة وسير المرفق العمومي، إلى تشكيك في نوايا الخصوم السياسيّين واتهامات بالخيانة والعمالة ونعوت وسباب من هذا الطرف ومن ذاك.
لقد خلّفت عقود القمع والهيمنة والتسلّط عاهات جسيمة في الممارسة السياسيّة من كراهيّة وأحقاد وتطاحن ايدولوجي، والواضح أنّ الكثير من الفاعلين في حقبة ما بعد الثورة لم يتخلّصوا بعد من تلك الأدران بل طفق البعض منهم في استنساخها على الرغم من أنّهم كانوا ضحاياها، كما أنّ عقليّة الحزب الواحد والزعيم الأوحد التي استفحلت منذ الاستقلال ما تزال تلقى صدى لدى بعض النرجسيّين الحالمين بالزعامة والمجد.
كما أنّ أخطبوط الفساد والإفساد ولوبيات التمعّش من المال العام ومن التهريب والاحتكار والمُضاربات والتهرّب الجبائي والتي عشّشت لأكثر من خمسة عقود في جلّ دواليب الدولة والاقتصاد والمبادلات والخدمات، هذا الأخطبوط وجد في الطبيعة السلميّة للثورة وفي مناخ الحريّة والتسامح والتوجّهات الكبرى نحو تغليب المُصالحة على الانتقام والتشفّي مجالا لإعادة التموقع بل مزيد التمدّد وبثّ سمومه لتُصيب قفّة المواطن البسيط وتهدِّد أرزاق فئات اجتماعيّة بأسرها وتُربك مسارات تنشيط التنمية في الجهات المحرومة والمفقّرة.
ولكن اليوم «اللعب بات عالمكشوف»، فالحريّة ماضية كالهدير وتيّار التغيير الحقيقي يُحرز المزيد من الثبات والتقدّم والإرادات الوطنيّة الصادقة الموجودة داخل الدولة وبين إطاراتها وكوادرها العليا وفي الأحزاب ومكونات المجتمع المدني لن تسمح بصعود دكتاتوريّة جديدة ولن تستسلم لألاعيب البعض في تقسيم المجتمع أو احياء النعرات الجهويّة ولن تسمح لأخطبوط الفساد باستعادة كامل انفاسه.
ما يجري ، وإن بدا للبعض خطيرا، فهو طبيعي، إنّه المخاض الّذي يسبقُ الولادة النهائيّة لثمار الثورة واستقرار الوضع نهائيّا للجمهورية الثانية الديمقراطيّة والعادلة.
“الشروق” التونسية