– 1 –
يختلف مفهوم “التغيير”، في مغرب الألفية الثالثة عن مفاهيمه الأخرى في القرية الكونية، حيث بدأت موجات التغيير تتصاعد منذ سقوط الاتحاد السوفياتي (عام 1979)، وانهيار النظام الثنائي للقطبية، وتحول النظام الدولي إلى نظام القطبية الأحادية، الذي أصبحت فيه الولايات المتحدة الأمريكية، تهيمن على المسرح العالمي، بحكم قوتها العسكرية الفائقة وإمكاناتها المالية والاقتصادية و التكنولوجية الفائقة أيضا. وهو ما يجعل مفهوم التغيير في العالم الحديث، مختلفا ــ عن التغيير الذي يتحدث عنه المغاربة.
وإذا أردنا تحديد السمات الأساسية لهذا التغيير، على المستوى العالمي، سنجد في المقام الأول، التطوير التكنولوجي، وأثاره على صناعة الحسابات وشبكات الأنترنيت ووسائل الاتصال، وعلى مجالات السياسة و الاقتصاد و الثقافة، وما يرتبط بها من قيم وسلوكيات. وفي المقام الثاني والأخير سنجد “العولمة” التي تعمل على إلغاء المسافات بين السياسات الداخلية و الخارجية للدول والقارات، وأثارها على تشكيل الوجه الجديد للقرية الكونية.
من هذه الزاوية، تصبح كلمة “التغيير” غير قابلة للاختصار، ولا للقراءة المحدودة على المستوى المحلي، (مستوى الدولة القومية) ولكن مع ذلك، نجد لها موقعا متميزا في الثقافة السياسية لأجيال ونخب المغرب الحديث.
– 2–
• مغربيا، تسللت هذه الكلمة/ “التغيير” إلى جانب كلمة “الإصلاح”، إلى الخطاب السياسي المغربي في فترة ما قبل عهد الحماية في القرن التاسع عشر، حيث كانت البلاد في حاجة إلى قومة تغييرية شاملة. فكان صداها الفطري يتردد على لسان النخبة المغربية التي كانت تامل ابعاد الخطر الاستعماري عن البلاد، و لكن رغم ما حدث في مارس 1912 حيث تم عقد الحماية، و فتح أبواب البلاد أمام الجيوش الفرنسية والإسبانية، لم تختف هذه الكلمة “التغيير” من الوجود السياسي المغربي، وضلت حية متحركة نابضة خارج المتغيرات السياسية و داخلها.
و في سنة 1955 حيث استعاد المغرب استقلاله، عاش الشعب المغربي بكل فئاته و طبقاته، أحلام التغيير في اللحظات الانتقالية من عهد الحماية إلى عهد الاستقلال. بعض النخب من الشعب المغربي توفقت في طرح أسئلة الانتقال التي كان يستوجبها واقع المغرب آنداك. وبعضها الآخر اكتفى بالتفرج على لحظات الانتقال، من وضع الحماية إلى وضع الاستقلال. وما كان مطروحا في تلك اللحظات هو الخوف من السقوط في تغيرات مغلوطة أو سطحية، تنطلق من نفس منطلقات تحقير الإرادات، والاستخفاف بالتاريخ.
– 3 –
ويمر نصف قرن من زمن الاستقلال، وتبقى كلمة “التغيير” حاضرة في الحياة المغربية، رغم ما اعتراها من مواجهة وفساد وتحد.
عندما عينت حكومة التناوب التوافقي قبل سنوات(سنة 1998)، أعلنت “التغيير” شعارا لها، باعتبار أنها جاءت من أجل إصلاح ما أفسدته السياسات السابقة، ومن أجل احداث القطيعة مع أساليب التدبير العشوائي للشأن العام الوطني… وإحداث توافق فعلي بين الدستور والسلطة.
ولأن “التغيير” في نهاية القرن الماضي أشع مفاهيمه في القواميس السياسية، واتسعت دائرة شموليته، حتى أصبحت تشمل السياسة والاقتصاد والمجتمع والثقافة و القانون وكل منا حي الحياة، سيطر هذا المصطلح بقوة على خطاب هذه الحكومة، من داخل بيتها ومن خارجه، ليصبح جزء منها ومن برنامجها… وهو ما كان يتطلب تنقية أرض الديمقراطية من كل المفاهيم المنحرفة التي علقت بها منذ انطلاقتها مع أول دستور للبلاد سنة 1962 حتى تتمكن الدولة من أن تكون ديمقراطية، و تغيير عقلية المسؤولين عن تطبيق القانون، وتطبيق مفاهيم الديمقراطية، وأعني بهم الزعماء السياسيين والوزراء والمدراء و الولاة والعمال والباشوات والقواد وكل رجال السلطة… وهو ما جعل “التغيير” عملية شبه مستحيلة، في زمن شبه مستحيل.
لربما، كانت المرة الأولى التي انتبه فيها دعاة التغيير، إلى أن هذا الأخير، هو رهان استراتيجي، لا يتحقق بـ “الكلام” و أن تحقيقه يعني قبل كل شيء إعداد البلاد و تأهيلها من أجل الإندماج في النظام العالمي الجديد وما يطرحه من تحديات… وهو ما كان يتطلب إرادة فعلية و انخراطا حقيقيا في دولة المؤسسات ودولة الحق و القانون…. وبالتالي في عهد العولمة.
– 4 –
عندما بدأت تظهر علامات الإعياء و القنوط على حكومة التناوب التوافقي و تبين لها أن ” التغيير ” ليس شعارا مجانيا يمكن استهلاكه بسهوله ويسر، أدرك قادتها، أن المجتمع المغربي، وبالرغم من كل المساحيق التي تلمع وتزين واجهته، يظل في العمق مجتمعا يعاني من سلسلة أمراض موجعة، منها الواضح ومنها الخفي، يعاني من البطالة و الأمية والجهل والتهميش والتخلف والفقر والظلم والقمع، يعاني من الفساد المتعدد الصفات، يعاني من بطش السلطة وجبروتها، وهو ما يجعل من ” التغيير ” الذي يبدو أن المغاربة مجمعون عليه، عملية صعبة التحقيق، وفي حاجة إلى فهم و استيعاب وإدراك…بل في حاجة إلى إرادة حديدية.
أن التغيير في المفاهيم العلمية، لا يمكن أن يكون فوقيا، يمس التنظيمات و القوانين فحسب، بل هو مجموعة عمليات تهدف قبل كل شيء إلى تغيير الأفراد والجماعات و التنظيمات والمناهج، و العقول و الإرادات. ان الأمر يعني، الانتقال من مرحلة استنفدت إمكاناتها و بدأ يطبعها الجمود، إلى مرحلة أخرى أكثر حيوية وأكثر تطورا، وأكثر استيعابا لطبيعة المرحلة. و هو ما جعل حكومة التناوب، والحكومات التي بعدها، عاجزة عن الاقتراب منه، أو التداخل معه… بل هو ما جعلها في نهاية المطاف تتخلى عن شعارها المركزي والأساسي، والانغماس في أوراش “الإصلاح” التي ورثتها بامتياز عن الحكومات السابقة… بل وهو ما جعلها في نهاية المطاف، ترحل بلا أسف، و دون أن تعطي للتغيير أو الإصلاح مفهومهما على أرض الواقع.
– 5 –
إن عصر السرعة المذهلة، عصر القرية الكونية المتواصلة التي أصبح الإنسان يعيش عليها بجسم واحد، وعقل واحد، وإدراك واحد، تفرض على المغرب، وعلى كل دول العالم الثالث، التي يرهبها “التغيير” وتحدياته ألف سؤال وسؤال.
• أي تغيير نريد في حالتنا المتردية، التي يتكرس على ساحتها الفساد و التخلف من كل جانب؟
ما الذي ينبغي علينا تغييره؟
• إلى أي الأدوات نحتاج لكي نصل إلى التغيير المنشود؟
• هل نحتاج إلى العقل، أم إلى الأدوات التقنية، أم إلى الإرادة؟
• كيف نصل إلى الالتحام بعصرنا؟
• كيف نصل إلى استئصال الفساد، و التخلف الذي يضربنا في العمق.
• كيف نصل إلى تأصيل الديمقراطية وإشاعة ثقافة حقوق الإنسان في حياتنا و هويتنا؟
• كيف نضع السلطة في موضعها الأصلي ونضع الدستور في موضعه الأصلي؟
• هل نحتاج في ذلك إلى الموارد المالية والبشرية أم إلى الأخلاق والإرادة… أم إلى ثقافة التغيير…؟
آلاف الأسئلة… و”التغيير” من خلالها يبدو ــ بالنسبة لوضعنا ــ مازال بعيدا، ليس لأنه يعني في حالتنا الصعبة، التفتح على الأفكار و التكنولوجيا و مناهج العمل السياسي / الثقافي/ الاقتصادي، الحديثة والمرتبطة بعصر العولمة التي تفصلنا عنه معالم الفساد و الزبونية والتخلف والانتهازية التي تضرب في أعماق إدارتنا واختياراتنا، ولكن أيضا لأن التغيير لا تتصدق به الدولة أو قادتها الكبار. إنه ضرورة دائمة بحكم منطق الحياة العادية، كلما توقف، توقفت معه دواليب الاستمرارية والتواصل والتقدم.
إن التغيير مهما كانت أسئلته ملحة أو طارئة، لا يمكن أن يكون مطلبا طارئا يطرح على الدولة التي لم تحسم بعد روح الفساد الذي يسكن معظم دواليها. فهو مطلب دائم تتطلبه الحياة في صيرورتها اللامتوقفة، حتى في الدول والمجتمعات التي تسكنها روح الفضيلة العامة، والتي لا تتردد في معاقبة الذين يمسون بها أو الذين تسول لهم أنفسهم بذلك.
إن التغيير ليس مجرد ضرورة، بل أكثر من ذلك و أبعد منه، شرط من شروط التعايش والاستمرارية… لأجل ذلك، كانت وما تزال شروطه كأسئلته، حادة و قاسية ومحيرة على مستوى الدولة، وصعبة ومستحيلة على مستوى مؤسساتها المختلفة، وتلك مشكلة ربما ستحتاج منا إلى زمن آخر لهضمها وفهمها و قراءتها وتحليلها.
*كاتب صحفي