أدهشنا شكري المبخوت، الأستاذ الجامعي والناقد التونسي، بروايته المبدعة «الطلياني»، التي استحقت الفوز بالجائزة العالمية للرواية العربية، على رغم أنها تجربته الروائية الأولى. وأدهشنا في حفل استلامه الجائزة في أبو ظبي قبل عدة أيام حين أهداها الى نساء تونس والنساء العربيات، ذلك أن أي قارئ للرواية لن يخطر في باله نسبتها إلى أدبيات النسوية العربية، على رغم الصوت العالي للمرأة فيها. بطل الرواية رجل، عبد الناصر، فائض الحضور والرجولة، كما أن أبطال وشخوص الرواية الآخرين من الرجال يسيطرون على فضاءاتها الأوسع. على هامش الحفل، وفي حوار تلفزيوني مشترك سألته عن ذلك فقال إن عبد الناصر، بطل الرواية وضحيتها، هو نتاج نسائها: حبيبته ورفيقته في النضال الماركسي زينة هي التي توجه تكونه الفكري، جنينه زوجة الشيخ المخاتل والنفعي هي التي توجه تفتحه الجسدي والجنسي، أمه وأخواته، وعشيقته نجلاء، وحتى عشيقته السويسرية العابرة شقيقة زوجة أخيه، كل منهن تصوغ جزءاً من حياته. هكذا إذن يصير عبد الناصر كأنما هو جانب من هذا المجتمع الذي هو في نهاية الأمر صنيعة امرأة مجتمعات العرب حيث كانت. لربما كان هذا هو السبب الذي قرّب شخصية عبد الناصر، البالغ الوسامة الى درجة تشبيهه بالطليان والأوروبيين ونعته في الحارة والمدرسة بلقب «الطلياني»، إلى قراء وقارئات الرواية. يرون فيه وفي تناقضاته وحيرته ونجاحاته وإخفاقاته ونبله وسفالاته وتضحيته وخياناته، شظايا حياتهم المبعثرة. في محيط عبد الناصر تتحرك تونس ومجتمعها وأفكارها وسياستها ودولتها وجامعها. هذه حقبة بن علي، وهي ترث البورقيبية وترفع كل مزاعم التحرر من وطأة القائد الأب، ثم تنهار أو تكاد على عتبات الربيع العربي. تحمل شعارات تحرر المرأة وتحريرها… وتسجنها في تلك الشعارات، تحمل شعارات خصوصية التجربة الديموقراطية التونسية وتواصل نحرها على مذبح الاستبداد والسلطوية. على ضفاف السياسة المأزومة والمجتمع المنشطر، والتدين المتسارع، واليسار الآفل، تنفتح نيوليبرالية السوق لتساهم بدورها في طحن منظومات القيم وقلبها وعكسها. عبد الناصر هو الممثل الشرعي لمسيرة متعثرة لكنها حالمة وطامحة، فيها غدر كثير، لكن تظل تناضل كي تصل إلى كوّات الأمل. إبداع شكري المبخوت في هذه السردية الممتعة يكمن بالضبط هنا، في تخليق شخصيات حية تنبض بالدم والحياة، نرى أنفسنا فيها. لهذا، يتابع في حديث ممتع، جاءته صبايا تونسيات كثيرات يسألنه أين هو عبد الناصر وكيف يمكن أن يعثرن عليه. يردن التعرف إليه، حضنه، وتقبيله. قال لشابة يافعة، لكن عبد الناصر، وهو من صنع خيالي، سيكون بعمر والدك لو وُجد الآن. أجابته لا يهم فلقد عشقته. رد عليها، لكن خان زوجته مع صديقتها، ردت عليه لا يهم لقد عشقته. المبخوت ضخ في شوارع تونس وجوهاً لكائنات خيالية، لكنها باهرة، لأنها مرايا للعابرين والعابرات يرون فيها ربما ما لا يريدون أن يروا. لأجل ذلك وغيره كثير استحق وروايته الفوز.
تعاود «طلياني» المبخوت، في الصورة الأعرض، التوكيد من دون أن يكون ذلك همها الرئيس، على تشابه الهموم العربية مشرقاً ومغرباً، وتشابه ردات الفعل عليها. يصير استنساخ التعامل مع تلك الهموم من الجار العربي جزءاً من عناصر الصورة الكلية. لماذا، مثلاً، تعاقبت ثورات الربيع العربي من بلد عربي لآخر، ولم تنتقل الى بلدان الجوار غير العربي: إلى النيجر وتشاد، أو تركيا وإيران، أو أثيوبيا وأريتريا، على سبيل العدوى تأملاً؟
في «الطلياني» نقلب ملفات إرث البورقيبية التي شكلت تونس مابعد الاستقلال، وتمثلاتها المتنوعة: ثقافة، واجتماعاً، وتسيساً… واستبداداً. والبورقيبية، وكما كانت الأتاتوركية، حالة تفيض بالدراما، ذاك أنها متعددة الأوجه وحمالة للتفسيرات، وفيها وعليها ما يكفي ويؤهلها للتمرد على أي محاولة توصيف اختزالية. هي قاطرة تونس نحو الحداثة ولولاها لربما ظل البلد يترنح في زنقات التقليد، ثقيل الخطوة، ومتردد الاتجاه كما هو حال كثير من البلدان العربية والإسلامية. وهي، أي البورقيبية، مقام المرأة التونسية ودفعتها إلى موقع متقدم قياساً بنظيراتها في الجوار العربي وربما بعده. لكنها، أي البورقيبية، كانت استبدادية وأبوية صرفة أيضاً تحوم حول «المجاهد الأكبر» وما يراه ويقرره. في عنفوان شبابه ونضجه وعطائه، امتلك جبروت الشخصية كي يقود البلاد ويفرض رؤيته لتونس المنطلقة نحو المستقبل والمنفلتة من الماضي. في مراحل العنفوان تلك داس على المعارضة وهمّشها، يسارييها أولاً ثم إسلامييها. حُشر المعارضون في الجامعات واتحادات الشغل، وانفرد القائد الأوحد بتوجيه دفة البلاد.
لكن عندما استبدت حتمية الزمن بالقائد واحتلت الشيخوخة والعجز ما كان نصيباً للعنفوان واليقظة، تقدم أحد أكثر مساعديه إخلاصاً لينقذ البلاد ممّا صار يرى نزقاً في القائد. صار لا بد من إنقاذ البلاد من مؤسسها وحاميها الأول، فجاء زين العابدين بن علي. وعد الشعبَ ويسارييه وليبرالييه وإسلامييه بعهد دستوري جديد قوامه الثورة على فكرة «تسلم الحكم مدى الحياة». كان ذلك سنة 1987، وكلنا نعرف بقية القصة بعد ذلك. هذه هي السردية العريضة للواقعة التونسية في النصف الثاني من القرن الماضي وصولاً الى لحظة سقوط «المنقذ» بن علي. خلف هذه السردية كانت حياة المجتمع تمور بكل ما تمور به مجتمعات العرب: امتدادات عميقة ومتواصلة وراسخة للموروث الاجتماعي، والديني، والقبلي، والأبوي، يعشش بعيداً ورغماً من أحلام النخب، سواء كانت حاكمة أم معارضة، يسار متصاعد يبحث عن موقعه بين حكم ليبرالي الصفة لكنه استبدادي النزعة، وإسلاموية ناهضة تعتاش على الموروث وتحرض وارثيه على رفض الحداثة، بنى اقتصادية هشة لم تتمكن من تطهير رقاع الفقر العريض ولا من استيعاب أجيال الشباب الذين فاض كثيرهم في شوارع البطالة تتلقفهم تنظيمات متطرفة، أو عصابات التشرد، أو بكل بساطة مشاعر الضياع والتوهان. قليلهم تمكن من الهرب من الأوطان والهجرة إلى الخارج والارتماء في أحضان الغرب المشتوم صباح مساء، وكل ذلك وغيره تحت سيطرة نظام سياسي مطبق الإحكام على المجتمع، فيه الحريات السياسية مجففة، والمناصب العليا ونصف وربع العليا محجوزة للمنافقين والمتسلقين والمداحين.
في قلب تلك التناقضات وفي بيئة متوسطة عادية نتعرف، وفي المشهد الأولى من الرواية، إلى عبد الناصر، الشاب المتمرد الناقم على عائلته، وهو يسير ساهماً في جنازة والده الحاج محمود. في لحظة الدفن والعشرات من محبي الحاج يتحلقون حول القبر ويرددون الأدعية والآيات وراء «الإمام علاله»، إمام جامع الحارة الذي يزجي رأس الحاج محمود فوق اللحد، ينتفض عبد الناصر ويضرب بقدمه وجه الإمام بكل قوة فينفر منه الدم، ويغادر المقبرة ساهماً والكل تصعقه المفاجأة، ومعها تتحول الجنازة إلى فوضى مباغتة. بعد هذا المشهد الافتتاحي نحتاج إلى أكثر من ثلاثمائة صفحة كيف نفهم سبب هذا التصرف «الأرعن» الذي لم يكن ليليق بابن الحاج محمود صاحب السيرة الحميدة المشهود لها من الجميع. حوقل الناس وعادوا الى بيوتهم مذهولين، ولا يقل عنهم ذهولاً القراء، الذين استعجلوا تقليب الصفحات لمعرفة السبب. بين دفتي الكتاب، ومن ضربة الشاب اليساري المتمرد وجهَ السلطة الموروثة وإلى معرفتنا بأن إمام الجامع ذاك حاول مراراً الاعتداء جنسياً على عبد الناصر أيام كان ولداً صغيراً، يحوم في الحواري وحول الجامع، نجوب مع المبخوت في حكايا تونس، وتوتراتها، وناسها، وفقرها، وأيديولوجياتها، وحيرتها، ونسائها، وسِيَر العشق المكتمل والمنقوص.
عبد الناصر، والذي يعرفه الجميع بلقب أُسبغ عليه باكراً، وهو «الطلياني»، نظراً لـ «وسامته الأوروبية»، شخصية درامية بامتياز، وفيه كل التناقضات الممكنة. فهذا اليساري المهجوس بتحقيق العدالة والمساواة في المجتمع، والمناضل عن حقوق الناس في وجه السلطة، هو نفسه الشخصية المرذولة من قبل عائلته، وهي العائلة التي لا يهتم بها، وكأنها تقع خارج تعريف «الشعب» و «المجتمع» الذي يدافع عنه. نبله في النضال وفي الحب عندما تعرف إلى زينة، الريفية القروية، المُبهرة في الجامعة وفي تفوقها في الفلسفة، لا يوازيه إلا نذالاته وخياناته المتكررة لمن اعتبرها قديسة قلبه. تنظيراته في ضرورة الثورة الجذرية واقتلاع الوضع القائم واستبداله، تنزوي تدريجياً لصالح أفكار «الإصلاح من الداخل» والاقتراب من دوائر النظام والاشتغال في ماكينته. أفكار «الإصلاح من الداخل»، عملياً وحياتياً، يقع جذرها في الحاجات المادية وإكراهات الحياة، والتنظير المؤدلج لها ليس سوى التكرار المعروف لنفس القصة، حيث تُوظف مهارات لغة الأيديولوجيا لسوق المسوغات والمبررات لنقض تلك الأيديولوجيا نفسها، أو تحويرها لتتواءم مع الخيارات الجديدة.
شقيق عبد الناصر، صلاح الدين، يقدم إطلالة مُعلمة في الرواية، فهو المتفوق دراسياً، والذي أنهى الدكتوراه في الاقتصاد ويعمل في سويسرا مع مؤسسات دولية كبرى تريد أن تقود دول العالم المتخلفة الى سياسات تحرير السوق وليبراليته. زينة، المناضلة والمتفلسفة وحبيبة ثم زوجة عبد الناصر، يقتلها طموحها، ثم تفترسها ماديات الحياة عندما تحس بطعم المال والمرتب الشهري. تحاول أن تتعامل مع الحرية التي «منحها» بورقيبة لنساء تونس، فتلتبس عليها الأمور. تقول: «لقد أعطانا بورقيبة قيداً جديداً ظنناه انعتاقاً فتورطنا. لم يعد بإمكاننا أن نعود إلى الوراء. وإذا أردنا أن نتقدم تعذر علينا ذلك. أما البيت فسجن صغير، وأما الشارع فسجن كبير، أحدهما يعمره سجان بليد لا تنتهي طلباته، طفل صغير دللته أمه ولم يستطع الفطام منها، والآخر يعمره السفلة بتحرشهم بالنساء وعنف لغتهم الجنسية الناضحة كبتاً ونظراتهم التي تعري المرأة تعرية».
ليست هذه مراجعة للرواية، بل بعض التأملات في بعض ما جاء فيها، ومن دون هذه الملاحظة نكون قد ظلمنا شكري المبخوت وصنيعته «الطلياني».
* كاتب وأكاديمي عربي/”الحياة