عديدة في تونس تلك الأشياء التي باتت تبعث على أكثر من مجرد القلق. عادت الصدور لتختنق من جديد بعد أن كانت ظنت أنها تنفست الصعداء بانتهاء المرحلة الانتقالية وانتخاب رئيس وبرلمان دائمين لخمس سنوات. مؤشرات «الربو السياسي” هذا زادت بالأخص عند أولئك الذين لم يكن عندهم شك أن التخلص من «كابوس» حكم حركة «النهضة» وحلفائها ورئاسة المرزوقي سيفتح الأبواب والنوافذ على مصراعيها لنسائم عليلة منعشة. لا شيء من ذلك قد تم.
أمران بالأخص باتا يؤرقان كل من أصيب بداء رصد الأوضاع التونسية عن كـثب، هما الأبرز الآن والأهم قبل الخوض في أي تفاصيل أخرى:
– الأول ترهــل شبه كامل أصاب الطبقة السياسية يمينا ويسارا، المغادرون الحكم والقادمون إليه، رئاسة وحكومة وأحزابا وبرلمانا وجمعيات وقد أصبح عددها أكثر من الهم على القلب. إنهم جميعا عاجزون عن الفعل وعن التأثير وعن قيادة الناس وتوجيهها وعن إعطاء الحياة السياسية رؤية واضحة وقيمـًــا قادرة على الإقناع والتحفيز. السنوات الأربع الماضية أصابت معظمهم بحالة إعياء وتهافت في الخطاب ليس من السهل رده إلى الرصانة.
– الثاني أن شرائح واسعة من الشعب أصبحت لا تطاق في تذمرها الذي لا حدود له وفي مطالبها التي لا تنتهي. الكل يبحث عن مصالحه الفئوية ولا يهمه من شأن البلد أي شيء آخر. المظهر الأبرز في هذا السياق هو تفشي الإضرابات في كل القطاعات تقريبا مع مطالب أولها مالي وآخرها أشياء عديدة أخرى. لا نتحدث هنا طبعا عن العاطلين والمهمشين والفقراء الذين قيل إن هناك ثورة لإنصافهم ووضع حد لمعاناتهم فهؤلاء ازدادوا بؤسا وتعاسة، بل نتحدث عن أناس يعملون ومنهم من يعتبر من «علية القوم». ربما تكون مطالب المضربين مشروعة في معظمها ولكن لا أحد قال لهم بالصوت العالي، ولا هم قالوا لأنفسهم طبعا، بأن الظرف ليس مناسبا أبدا وأن أوضاع البلاد لم تعد تحتمل وأن استنزاف ما تبقى من قدراتها سيودي بها إلى التهلكة أو الارتهان الدائم إلى تداين يتفاقم. «عريان يسلب في ميت» هذا هو المثل التونسي الذي ينطبق الآن على علاقة المواطنين بدولتهم.
المفزع في العنصر الأول هو أن وصول الناس، لا سمح الله، إلى الكفر المطلق والنهائي بسياسيي البلد، إسلامييهم وليبرالييهم ومن بينهما على حد سواء، ووصولهم إلى أنهم جميعا «كيف كيف» كما يقول التونسيون، أي أنهم كلهم سواء لا يبحثون سوى عن الكرسي وعن مصالحهم الشخصية قبل الحزبية والحزبية قبل الوطنية، إن الوصول إلى هذه الخلاصة وتفشيها ثم ترسخها لن يكون سوى مقدمة لفتح الباب تدريجيا لكل مغامر أو متطرف ليستغل ما هو حق ليصل به إلى كل ما هو باطل بالكامل، وهو الانقلاب على كل ما حصل من إنجازات على الصعيد السياسي والقانوني ليصرخ في وجه الجميع بأن اللعبة انتهت وعلى الجميع أن يعودوا إلى بيوتهم ويأووا إلى فراشهم!!
أما المخيف في العنصر الثاني فهو أن شرائح واسعة من الشعب التونسي قد رأت «نخبتها» السياسية على هذا النحو فسارت على نهجها إلى أن صارت هي نفسها أسوأ منها. التونسي الآن، وللحقيقة حتى قبل ذلك، لم يعد يهمه سوى مصلحته المباشرة في أضيق حدودها ولو كانت على حساب الجميع، القريب قبل البعيد. الأنانية و»تدبير الراس» صارت شعار الجميع وديدنهم اليومي. والنتيجة أن الشعور الوطني صار إلى تراجع مستمر بعد أن كان نفض عنه غبار الدكتاتورية عقب سقوط بن علي وإن كان يعود بين الفينة والأخرى وبالأخص إثر بعض العمليات الإرهابية من حركات دينية متطرفة، أصيلة أو مخترقة أو عابرة للحدود لا يهم.
ما يغذي الأمرين معا أن متابعة تضاريس الشأن العام في تونس صارت مرهقة لما يكتنفها من غموض مريب، فكثير من الأمور التي تجري ومن القوانين التي تسن والتعيينات التي تحصل تحيل إلى شعور ملتبس بأن هناك دوائر خفية ما هي من يحرك خيوط اللعبة، نوعا من حكومة الظل التي لا أحد يعرف تفاصيلها بالضبط، أو قلة هم من يعرفها، مع تدخلات أجنبية عديدة لا أحد يسردها جميعا. هذا فضلا عن دائرة الفساد التي ازدادت تشعبا والتباسا مع امتدادات سياسية الخفي فيها أكثر من من الظاهر. كل ذلك مصحوبا بعالم لا أول له ولا آخر من الإشاعات والأخبار الكاذبة المفضوحة في وسائل التواصل الاجتماعي، مع إعلام متخم بحسابات لا تتوانى عن استغلال حيرة الناس لتوظيفها في اتجاهات غير معروفة بالضبط، مستعينا بـ «نجوم تلفزيون» يوجهون الرأي العام بلا أهلية مهنية ولا سياسية ولا أخلاقية.
هل هي الفوضى أم كله مدروس بعناية؟! الأكيد أن الصورة قاتمة ومغرقة في التشاؤم.. ولكن أن يطلق بعضنا صرخة الفزع هذه الآن أفضل من أن يطلقها بعد خراب تونس… لأن خراب البصرة تم منذ زمن بعيد.
٭ كاتب من تونس/”القدس العربي”