جرى خداع شعوب عديدة، في مراحل زمنية مختلفة، من خلال تبرير حروب كثيرة أخرى جرت على مدار التاريخ، حيث ابتدع لها أسماء وصفات لا تُعبر عن حقيقة أهداف هذه الحروب. ألم تكن حرب إدارة بوش على العراق تحت اسم «الحرب على الإرهاب»؟! ثم ألم يُشوه الأوروبيون معنى كلمة «الاستعمار»، فاستخدموها لتبرير احتلالهم لبلدان عديدة في آسيا وأفريقيا؟! وألم تفعل ذلك أيضاً الحركة الصهيونية باستغلال اسم «إسرائيل» لتبرير مشروعها الاستيطاني على أرض فلسطين؟!
ولعل أخطر التوصيفات للحروب والصراعات يحدث حينما يحصل استغلال أسماء دينية ومذهبية لوصف حروب ونزاعات هي بواقعها وأهدافها سياسية محض، وهذا ما يجري عادة في الحروب الأهلية التي تسخر فيها كل الأسلحة بما فيها سلاح الطائفية السياسية. فالحرب الأهلية اللبنانية التي بدأت في العام 1975، بسبب خلاف بين القوى السياسية اللبنانية حول مسألة الوجود الفلسطيني المسلح في لبنان تحولت في ما بعد إلى «حرب بين المسلمين والمسيحيين»!
ولنتخيل لو جرى اعتبار الصراعات والحروب التي حصلت بين الهند وباكستان أنها بين المسلمين والهندوس تستوجب الصراعات بين الطرفين حيثما يتواجدان في العالم! أو لو تم توصيف الحرب بين الإنجليز والأيرلنديين الشماليين بأنها حرب بين الكاثوليك والبروتستانت تفرض الصراع بين الطائفتين في كل أنحاء العالم المسيحي!
طبعاً ما كان غائباً في هذه الصراعات المشار إليها هو وجود «الطرف الثالث»، الذي يكون له مصلحة كبيرة في تصعيد وتوسيع دائرة الصراعات وتأجيج المشاعر الانقسامية بشأنها، وهو الموجود للأسف حالياً في كل الصراعات والحروب المحلية الجارية في المنطقة العربية.
وهذا «الطرف الثالث» الحاضر في الأزمات العربية هو مجموعة من الجهات الإقليمية والدولية، التي قد تتباين مصالحها، لكنها تتفق على هدف جعل الأزمات العربية تأخذ أبعاداً طائفية ومذهبية وإثنية، فصحيح أن هناك خلافات عديدة بين إيران وبعض دول الخليج العربي، لكن ما المصلحة العربية والإسلامية من توصيف هذه الخلافات بأسماء مذهبية أو قومية؟! ولماذا يحرص البعض على القول إن الصراع مع «إسرائيل» ليس بصراع ديني، بينما يتم استخدام التوصيفات الدينية والمذهبية في صراعات مع أطراف أخرى؟!
ويسعى الكثير من العرب والمسلمين لنزع الصفة العربية والإسلامية عن جماعات التطرف والإرهاب، بينما لا يجدون مشكلة في تعميم التسمية الطائفية أو المذهبية على أي خلاف مع فريق سياسي محلي أو بلد عربي أو إسلامي مجاور.
إن المخاطر القائمة حالياً هي ليست على أتباع هذا الدين أو ذاك المذهب فقط، بل هي أخطار محدقة بحق الأوطان كلها. إن تنظيم «داعش» مثلاً، ينتعش ويستفيد من هذه التوصيفات المذهبية لصراعات سياسية محلية أو إقليمية، حتى من قبل بعض من يتحدثون ضده شكلاً ويدعمون ضمناً- ولو عن غير قصد- مبررات وجوده حينما يتجهون بحديثهم إلى «عدوهم» الآخر، وهو هنا قد يكون من طائفة أخرى أو مذهب آخر أو من دولة أخرى، فكثير ممن يظهرون الآن على الفضائيات العربية يبدأون حديثهم ضد «داعش»، لكنهم فوراً ينتقلون إلى الحديث عن «الحالة الطائفية والمذهبية»، وعن وجود «الخطر الآخر» في داخل الوطن أو من دولة مجاورة، ما يسهم في إعطاء الأعذار لوجود «داعش» ولممارساتها باسم الإسلام، الذي هو دين براء من فكر هذه الجماعات وأساليبها.
طبعاً، فإن هذا النوع من الأحاديث الطائفية والمذهبية يزيد الآن الشروخ الدينية والوطنية ولا يبني سدوداً منيعة أمام جماعات التطرف، بل على العكس، يرفدها بمزيد من المؤيدين، فالمواجهة مع جماعات «التطرف العنفي» تحتاج الآن إلى وقف كل الصراعات والخلافات داخل المجتمعات العربية والإسلامية، وإلى تحقيق أقصى درجات التوافق الوطني والديني حتى يمكن محاصرة هذه الجماعات وتجفيف كل منابع الدعم المادي والبشري لها.
* مدير مركز الحوار العربي في واشنطن/”البيان” الاماراتية