لا شك أن عنوان هذه المـقــال، ســيعيد للأذهـان جوانب من تاريخ الحرب العالمية الثانية. وفعلا، فـقـد دخل الجيش البريطاني الثامن طرابلس في يوم 23 يناير 1943. ولقيت جيوش الحلـفــاء اســتقبالا ترحيبيا من الليبيين. وتم تأسيس إدارات عسكرية مؤقتة بقدر كبير من النجــاح وبهامش واسع من الحرية السياسية. وفي نهاية العقد، منحت الأمم المتـحــدة، أقاليم ليبيا الثلاثة، طرابلس وبرقــة وفـزان، اسـتقلالها كدولة ملكية موحــدة، فيدرالية برلمانية.
وبالمـثـل ما كان ســقـوط دكتـاتـورية القـذافي ممكنا لـولا معونة الحلف الأطلسي في عام 2011. وقـد حظي قادة دول الأطلسي بترحاب مشابه. لكن هذه المرة، نسي الـغـرب أن يتـمّ مـهـمـتـه، وغادر البلاد تاركا وراءه فـراغا لا قـاع له، وفـوضى عارمة.
وها هي ليبيا، بعد أربع سنين من اندلاع ثـورة فبراير، بحكومتين في طبرق وطرابلس، في خـضـم صراع سلطوي عنيف. لكن ما هـو قـادم قـد يكون أسـوأ، وقد تتصاعد حـدة القـتـال لترمي العاصمة طرابلس في حمام دم مرعـب.
المـشــهـد بـعـد الثــورة
ثــورة فبراير 2011 كانت إلى حـد كبير، دون قـيــادة منظمة، ولهـذا انتقلت السلطة إلى عـدة جماعات غير متجـانســة، ومتناحـرة. وتصدّر السلطة سياسيون ذوي طموح، بعضهم دون رؤية سياسية، وبعضهم فاسـد الذمـة. وشكل هؤلاء إدارات ضـعيفـة ضمت في البداية إســلاميين معتدلين ( إخوان مسلمون).
أما الشباب الذي شاركوا في القتال والذين اكتسبوا سـمـعـة كمقاتلين شـجـعان، فـسرعان ما عـكـفوا على تأسيس تشكيلات مقاتلة أو مليشيات، اســـتـقرت في المعسكرات القديمة، واخـتزنت كميات كبيــرة من ترســانة القــذافي الهائلة. ومن جهة ثالثة بقيت أجـزاء من الجيش الرسمي متماسكة كما في حالة كتيبة الصاعـقة في بنغازي، وكتائب أخرى عديدة في طرابلس.
من جـهـة أخـرى تزايدت شــكوك الرأي العـام في الشارع السياسي الليبي، في جـدوى خلط السياسة بالدين، وهـو ما أكـدته الانتخـابات المتعددة التي أجريت بالبلاد.
وكنتيجة لتلك التحولات، ظهر برلمانان وحكومتان، في العاصمة ومدينـة طبرق، ممثلتان لذلك التأقـطـب السياسي، وكل يدعي الشرعية.
واسـتمرت تلك الترتيبات متأرجـحــة في مـشــهـد متوتـر وهـش. لكن اسـتمرار تصدير النفط أمّن دفـع المرتبات وتغطية دعم السـلع الغـذائيـة. عدا هـذا، بقى ويبقى الاقـتـصــاد راكــدا وإدارات الدولــة مشــلولة،والمدارس والجامـعـات مـغـلـقـة. بل إن الخدمات الأساسية معـطـلــة، من تنظيف الشوارع إلى المصارف. كما أجليت عشرات الألوف من العائلات عن بيوتـها وأحـيــائـها وقـراها. وآخرين لم يترك لهم خيار ســوى اللجــوء إلى دول الجــوار.
في البداية ولعدة شـهور، كانت العاصمة تحت هيمنة كتائب تنتمي لبلدة الزنتان الجبلية، والتي اكتسبت سمعة بطولية في مواجـهـة قـوات القذافي، لكنها فشلت في ضبط أمن مدينة طرابلس الحضرية.
وبـعـد شهور، شـنت قـوات فجر ليبيا المكونة من تحالف بين مصراته وتشكيلات إســلامية، حملة قصيرة، وسرعان ما نجحت في بسـط سيطرتها على كامل طرابلس ذات المليوني نـســمة. كانت أيضا حملة شـرســة، أحـرقت مطار طرابلس وخزانات الوقود الضخمة، التي بدت كما شـعلة تـشــهـد على عـدوانـيـة وإفـراط البشر. وبالمقابل انسحبت كتائب الزنتان أو أجبرت على ذلك.
إحــياء الجيش النظــامي
ومؤخرا، بدأت التحالفات القديـمــة تتشــقق، ربما تحت إغـواء المشاركة في حـوار المصالحة برعاية الأمم المتحـدة، وبفضل ضغوط الدول الكبرى وكذلك نتيجـة تزايد الخلافات الداخلية، التي تولدت كنتاج ثانوي لظهور تنظيم الدولة الإسلامية في شمال أفريقيا.
في نفس الوقت، شـهدت ليبيا إعادة تشكيل الجيش النظامي تحت قيادة الفريق خليفة حفتر، وبأسلحـة جـديدة ربما جـاءت من مصر وروسـيا. ويوجه هذا الجيش الوطني نيرانه نحوالمسلحين الإسلاميين في بنغازي منذ شـهر مايو الماضي. وخلال الأســابيع الماضية نشر الجيش الوطني وحـداتـه في غرب وجنوب طرابلس.
فـجــر لـيــبـيا
وفي ظل هذه التطــورات، أعادت مصراته حســاباتـهـا، وهي التي خرجت في حقبة ما بعد القـذافي، كأقـوى دولة – مدينة، في الأرخبيل الصـحراوي الليبي. من ذلك مثلا، أنها ســحبت قواتـهـا ( الشروق) من منطـقــة الهــلال النفطي شرقي سرت. كما تمت إقــالة رئيس وزراء حكومة طرابلس، على الأرجح نتيجــة حثّ من زعامة مصراته الجديدة، التي حسب تفسير المراقبين المحلـيـين، تفضل إبعاد نفسها عن رموز الجماعة الليبية المقاتلة المتشــددة التي كان يقودها عبد الحكيم بلحـاج.
مـثـلـث الـحــرب
الأكيد أن الصورة السياسية العسكرية لليبــيا معـقـدة، ومتداخـلـة. لكننا نسـتطيع الجزم بأن حـربا شرســة تدور رحــاهـا منذ أســابيع في سـهل الجــفـارة الواقـع جنـوب وغرب طـرابلس. لكن المفــارقـة تكمن في أن العدويّـن اللدودين، وهـما جيش حفتـر الوطني، وقـوات فجـر ليبيا التابـعــة لمصراتـه، يحــاربان جـزئيا نفس العـدو، وتحـديدا المسلحين الإســلاميـين في بنغــازي وسـرت، على التوالي.
الكـابــوس
الجانب المـظــلـم للحرب الحالية في طرابلس، هـو الثـارات الجانبية، والانتـقــامات المتوقـعــة ضــد الزنتـان وضـد مدينـة الزاويــة. وعلى سبيل المثال، لدى قبيلة ورشــفانة غضبا وإصرارًا على القصاص، بسبب ما عانـوه قبل شــهـور عندما عبر مـقاتـلـوا فجر ليبيا منطـقـتـهـم الممتدة على محيط طرابلس من البحر إلى المطــار.
وغني عن القول أن الحروب تطلق عـنــان أبشــع المشــاعر وشـتى صـنـوف السـلوك الانتقــامي. ومن الملفت أن زعـامة الزنـتـــان، تحسبًا لذلك، قـد أصـدرت بيانا تتـبـــرأ فيه من أية مســئولية جماعية، عن أية جرائم ضد الإنسانية يمكن أن يرتكـبـــهـا أبناؤهـا الذين قد يشاركون في حرب طرابلس القادمــة. من جـهـتــها، أصدرت قيادة قبيلة ورشــفـانـة بدورهــا بيانا تطـمـئن فيه أهالي الزاويــة، مؤكـدة أن الهـجـوم المرتقب إنما هـو موجـه إلى فجـر ليبيا وأعـوانهم وليس ضد مواطني المدينة. لكن هـذه البيانات، حتى بافتراض حـسـن النوايا، تبقى محملة بالخـوف مما هـو آتٍ.
إن ما نـراه الآن، لهـو أشــبه بالدخــان الذي يـسـبق انفجــار البركان.وبكلمات أخـرى لا يجب أن نسـتسـلم لوهم الأماني والأمـل، ولا أحـد يجب أن يفـاجــأ بما قـد يحـدث. ويجب أيضا أن ندرك محـدودية جـهـود الحـوار الساعية لوضع ترتيبات دسـتورية لتسوية الخــلاف بين الأطـراف الليبية المتنازعـة. وفي قناعتي أن علينا التركيز على تحقيق هـدنة ووقف لاطـــلاق النـار برعاية المجتمع الدولي، وتقوم بمراقبتها قـوات ليبية من مناطـق خــارج دائرة الصراع، على أمل منع مذبحــة كابوســية لا تـبــقي ولا تــذر.
* وكاتب وباحث/”رأي اليوم”