يُصادف هذا العام ذكرى مرور 40 عاماً على اشتعال الحرب الأهلية في لبنان (13 نيسان/أبريل 1975)، وهي الحرب التي لم تهدأ نارها إلا بعد خمس عشرة سنة حين جرى توقيع اتفاق الطائف في العام 1990.
وقد أخطأ من ظنَّ أنّ الحرب اللبنانية عام 1975 كانت حرباً أهلية فقط، تنتهي باتفاق اللبنانيين فيما بينهم. ويخطئ من يظنّ اليوم أنّ «المستقبل اللبناني» سيتحقّق بإرادة لبنانية فقط. فلقد كانت أزمة لبنان منذ ذلك التاريخ وحتى اليوم مزيجاً من عوامل مركّبة داخلية وخارجية تتحرّك دائماً معاً لتصنع الأزمات والصراعات المسلّحة أحياناً، والتسويات السياسية أحياناً أخرى.
ثمّ هكذا كان الحال عام 1958 حينما شهد لبنان أحداثاً دموية كانت هي أيضاً مزيجاً من عناصر أزمة سياسية داخلية مع تحريك وتأثير خارجي، نتج عن إعلان مشروع حلف أيزنهاور والصراع الأميركي مع مصر عبدالناصر..
وجاءت حرب نيسان/أبريل 1975 لتؤكّد من جديد هذه الخلاصة عن تاريخ الأزمات اللبنانية، حيث امتزج الصراع الداخلي بأسبابه السياسية والاجتماعية مع الأبعاد الإقليمية والدولية، وتحديداً حول الموقف الإقليمي والدولي من الصراع العربي الإسرائيلي ومن الوجود الفلسطيني المسلّح في لبنان.
وقد استطاعت إسرائيل في احتلالها المباشر أوّل مرّة عام 1978 لمناطق لبنانية عدة، ثمّ في احتلالها وغزوها لمناطق أخرى وللعاصمة بيروت عام 1982، أن تكون أكثر العوامل تأثيراً في الحرب اللبنانية وفي انعكاساتها الفلسطينية والسورية والعربية عموماً، بينما خطوات التسوية والمعاهدات كانت تجري على جبهات عربية أخرى.
صحيحٌ أنّ إسرائيل حقّقت أهدافاً كثيرة في محطات الحرب اللبنانية، واستطاعت الوصول بغزوها العسكري عام 1982 إلى أوّل عاصمة عربية، لكن أيضاً كان لبنان أوّل بلد عربي يُجبر إسرائيل على الانسحاب عام 2000 بفضل المقاومة الشعبية، لا حصيلة مفاوضات ومعاهدات.
وصحيح أنّ إسرائيل دعمت أطرافاً لبنانية في الحرب وساهمت بإشعال معارك طائفية عدة، لكنّها فشلت في تجزئة الوطن اللبناني وانتصر اتفاق الطائف العربي على مشروعات التقسيم الطائفي الإسرائيلي.
وها هو لبنان الآن يعيش مزيجاً من تأثيرات التاريخ والجغرافيا في كيانه ونظامه، وفي أمنه واستقراره، فماضي لبنان وتاريخ وظروف نشأة كيانه وكيفية بناء نظامه الطائفي، كلها عناصر تاريخية سلبية دائمة التأثير في أحداثه، تماماً كما هو أيضاً دور موقع لبنان الجغرافي، حيث الخيار فقط بين محيطه العربي وبوابته السورية، وبين الوجود الإسرائيلي الذي سبّب أصلاً حدوث مشكلة مئات الألوف من اللاجئين الفلسطينيين، كما هو أيضاً هذا الوجود مصدر الأخطار على أرض لبنان وعلى وحدة شعبه.
وما جرى في لبنان منذ 40 عاماً كان «نموذجاً» أرادت وعملت إسرائيل على تعميمه في بلاد عربية أخرى. فالحروب الأهلية العربية هي التي تشغل العرب جميعاً عن الصراع مع إسرائيل، وهي التي تُهمّش القضية الفلسطينية، وهي التي تجعل «كره العربي للعربي أكثر من كرهه للإسرائيلي»، وهي التي تُحطّم الكيانات العربية القائمة الآن وتستبدلها بدويلات طائفية ومذهبية وإثنية تسبح جميعها في «فلك الدولة اليهودية الإسرائيلية». فما حدث في لبنان من حرب أهلية تكرر في السودان وأدّى إلى تقسيمه، كما جرت الحروب الأهلية في الجزائر والعراق والصومال، وهي تحدث الآن في سوريا وليبيا واليمن، وحتى مصر كانت مهددة بهذا الخطر الطائفي التقسيمي أيضاً في الحقبة السابقة.
أربعون عاماً مضت على اشتعال حرب لبنان التي تزامنت مع توقيع مصر- السادات على المعاهدة مع إسرائيل ثم على معاهدات «كامب ديفيد»، كما ترافقت أيضاً مع الحرب العراقية ــ الإيرانية عقب اندلاع الثورة الإيرانية، والتي حوّلت سفارة إسرائيل في طهران إلى سفارة فلسطين، وأنهت العلاقة القوية التي كانت قائمة بين نظام الشاه والكيان الإسرائيلي.
أربعون عاماً تخللها أيضاً غزو النظام العراقي السابق لدولة الكويت بسبب «حفنة من الدولارات»، بينما كانت النتيجة تدمير العراق وفرض الحصار القاسي عليه لعقد من الزمن، وتوزيعه إلى مناطق مقسمة على أسسٍ إثنية ومذهبية، ما سهّل الحرب الأميركية – البريطانية عليه في العام 2003 ثم إشعال الصراعات الداخلية المسلّحة التي أفرزت «القاعدة» و«داعش» في المنطقة العربية، وما تقوم به الآن هذه الجماعات من أعمال إرهابية بأسماء دينية ومذهبية.
تداعياتٌ سلبية خطيرة حدثت في المنطقة العربية وجوارها الإقليمي في العقود الأربعة الماضية منذ خروج مصر من الصراع العربي/الإسرائيلي، كان منها إمّا ما هو بفعل إراداتٍ وظروفٍ محلية أو بسبب تخطيطٍ وعدوانٍ خارجي، أو مزيجٌ من الحالتين معاً.
والأمَّة العربية تحصد الآن نتائج سلبيات العقود الماضية، وأخطر هذه السلبيات، تصاعد دور الطائفيين والمذهبيين والمتطرّفين العاملين على تقطيع أوصال كلّ بلدٍ عربي لصالح مشروعات أجنبية وصهيونية. فليست الظروف الداخلية فقط وراء عناصر الصراعات في هذا البلد وذاك، بل يلعب أيضاً التدخل الدولي والإقليمي دوراً مهماً في تقرير مصير بعض البلدان العربية.
*مدير “مركز الحوار العربي” في واشنطن/”البيان”