عندما اندلعت في ليبيا ثورة 17 فبراير، كان أبطالها ووقودها ليبيين من شتى فئات المجتمع، وليس طبقاته، لأن نظام معمر القذافي نجح، خلال أربعة عقود، في صهر الشعب الليبي في طبقة واحدة، هي طبقة الشعب المسحوق، والذي هو في مجمله موظفون، يعتاشون على فتات اسمه المرتب أو المعاش، لا يكاد يسد الرمق، أو يفي بالحد الأدنى من الاحتياجات الأساسية، وكانت السلع التموينية الأساسية المدعومة (الدقيق والأرز والزيت…إلخ) هي غذاء شعب يعيش على خط الفقر، بينما تهدر ثروات أرضه، وتبعثر عائدات نفطه، في بقاع الأرض، من دون حسيب أو رقيب. وفي المقابل، كانت هناك فئة من المنتفعين تحيط بالقذافي، ويقوم عليها نظام حكمه، امتلكت السلطة والثروة والسلاح باسم الشعب، وهيمنت على مقدرات البلاد، ونهبت خيراتها، وطغت واستبدت.
وكان انتصار الثورة انتصاراً لإرادة شعب حطم القيود، وتحرر من الطغيان، وانطلق، وقد نزع لباس الجوع والخوف، يحلم بعالم جديد، حيث الرفاه والأمن، وحيث الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، وحيث العدالة الاجتماعية. ولكن، لم يتحقق الحلم، على الرغم من مرور أكثر من أربعة أعوام على انتصار الثورة. لا بل تحول الحلم إلى كابوس مرعب، مليء بالدماء والفتن والدمار. وانقسم الشعب الذي كان جبهة واحدة إلى جبهات وفئات متناحرة، وعمت الأحقاد، وتمزق النسيج الاجتماعي، وغدا السلاح لغة الخطاب بين الإخوة الأعداء، ولم يعد الحوار ممكناً بين الأطراف المتحاربة، إلا من خلال طرف ثالث، هو بعثة الأمم المتحدة للدعم والمساندة، برئاسة المبعوث الأممي، برناندينو ليون.
وحتى مع وجود هذا الوسيط الدولي، فإن الإخوة الأعداء لا يستطيعون الجلوس على طاولة الحوار متقابلين، لأن حكم المحكمة العليا (الدائرة الدستورية) الذي ألغى وجود البرلمان المقيم في طبرق من جهة، واعتراف المجتمع الدولي بهذا البرلمان، من جهة أخرى، فاقم النزاع ووسّع دائرة الخلاف، وأصبح موضوع الشرعية قنبلة موقوتة، تهدد بإفشال الحوار، لأن الشرعية، وهي الحاضر الغائب المؤثر، لا يمكن تجاهلها أو تجاوزها، أو الالتفاف عليها، في أي اتفاقٍ أو تسوية، كما لو أن حكومة الوفاق الوطني التي ترى فيها الأمم المتحدة والمجتمع الدولي حلاً سحرياً للصراع بين الأطراف الليبية لن تكون مؤهلة وقادرة على القيام بمهامها، إلا من خلال سلطة شرعية، تحظى بدعم المجتمع الليبي، أولاً، والمجتمع الدولي، ثانياً، وإلا فإن هذه الحكومة التوافقية ستواجه، على الرغم من دعم المجتمع الدولي لها، انهياراً سريعاً وفشلاً ذريعاً، لأن الشعب الليبي سوف يرى فيها حكومة (كارزاي الليبية).
من هنا، يكمن الإصرار على اعتبار أن حل الأزمة الليبية في الوصول إلى حكومة توافق وطني وتدابير أمنية فقط تلفيقي، مصيره الفشل والانهيار، حالما تبدأ هذه الحكومة في مواجهة المشكلات الحقيقيّة والمزمنة في الواقع. ثم إنه من المفيد أن نتذكر أن حكومتي عبد الرحيم الكيب وعلي زيدان يمكن أن نطلق عليهما، إلى حد ما، حكومتي وفاق وطني، قامتا في ظل شرعية المؤتمر الوطني العام المطلقة، وبلا منازع، قبل ظهور البرلمان على المسرح السياسي في ليبيا. مع ذلك، فشلتا في تحقيق الأهداف المرجوة، وفي حدها الأدنى، لا بل ساهمتا في زيادة تدهور الأمور، وانتشار الفساد وفقدان الأمن، واتساع هوة الخلاف والاختلاف بين الليبيين. والسبب أنهما تجاوزتا، أو تجاهلتا، المرحلة الانتقالية، الواقعة بين الثورة والدولة، والتي كان يفترض التوقف عندها، وليس القفز عليها، والتعامل مع أثقالها وتبعاتها، بما في ذلك موروث نظام القذافي، وبما يحقق العدالة الانتقالية، وصولاً إلى السلم الاجتماعي.
ما يجري، اليوم، في ليبيا من احتراب سياسي وعسكري، وحتى اجتماعي، يعود، بالدرجة الأولى، إلى إهمال المرحلة الانتقالية، وتجاهل استحقاقاتها الاجتماعية بشكل خاص. وبالتالي، لا تكون تسوية الأزمة إلا في إطار حل شامل، تنبثق عنه سلطة تشريعية، وحكومة وحدة وطنية توافقية، من أهم أولوياتها تحقيق العدالة الانتقالية والتنمية البشرية، ووصل ما انقطع من النسيج الاجتماعي.
* كاتب ودبلوماسي ليبي سابق/”العربي الجديد”