يعيش حزب نداء تونس الحاكم أزمة خطيرة تهدده وتهدد تونس معه. والغريب أن هذه الأزمة ليست خارجية إذ لم يتلق الحزب أذى من أي مكون سياسي منذ فوزه بالانتخابات، بل إنّ خصمه اللدود حركة النهضة صارت حليفته في الحكم. وبقية المكونات السياسية والاجتماعية تعطي للحكومة الجديدة فرصتها الكاملة قبل الحكم لها أو عليها.
أزمة نداء تونس داخلية، إذ لم يصبر المنتسبون إليه على حزبهم وهو يتحمّل مسؤولية الحكم، إلاّ أسابيع قليلة قبل أن تنفجر بينهم الخلافات والصراعات التي فشلت محاولات رئيس الحزب السابق ورئيس الجمهورية الحالي الباجي قايد السبسي في التوسط لإطفائها. وممّا زاد في التهاب هذه الأزمة وتعقدها خروجها للعلن وإدارتها بشكل علني في برامج الفضائيات والإذاعات.
خطر الأزمة العاصفة بنداء تونس تكمن في طبيعتها ورمزيتها. فهي أزمة تسيير وأزمة هيكلة وأزمة نظام وأزمة تمرد وانشقاق كما تراها الهيئة التأسيسية، في حين تراها الهيئة التصحيحية حركة تاريخية لتصحيح المسار وترسيخ الممارسة الديمقراطية في الحزب. ولكن الأخطر أنها أزمة حكم أيضا كما سنبيّن لاحقا. بينما رمزيتها لا تقل خطورة، إذ أن من يقود الهيئة التصحيحية المتصادمة مع الهيئة التأسيسية هو نجل المؤسس ورئيس الجمهورية الحالي نفسه، فما الذي يريده ابن أبوه رئيس الجمهورية؟ وما الذي يريده من حزبه الذي أوصله إلى حكم البلد؟
الهيئة التأسيسية المثار عليها من قبل الهيئة التصحيحية أسسها السبسي ويرأسها اليوم، بالنيابة، محمد الناصر رئيس مجلس نواب الشعب المعيّن من السبسي نفسه. والهيئة التصحيحية يتزعمها حافظ قايد السبسي نجل الرئيس. بمعنى أن السبسي الابن ينشق عن السبسي الأب والغاية ليست إسقاطه طبعا، وإنّما إسقاط من حوله من أعضاء الهيئة التأسيسية الذين تمركز بعضهم مع الرئيس في قصر قرطاج وبعضهم الآخر في الحكومة. ولئن كان من انضموا إلى طاقم الرئيس متضامنين موحدين، فإن الشق الحكومي منقسم بين من يساند الهيئة التصحيحية التي يقودها نجل الرئيس، وبين من يحافظ على ولائه للرئيس وهيئته التأسيسية.
أمّا أعضاد رئيس الجمهورية ومساعدوه من المنتسبين إلى الهيئة التأسيسية في قصر الرئاسة، فمُتهمون بعزل الرئيس وبالاستحواذ على مؤسسة رئاسة الجمهورية. وأما بقية مكونات الهيئة التأسيسية فتهمتهم من قبل منتسبي حزبهم الغاضبين هي الاستبداد بالرأي وفرض خيارات فردية معزولة على الحزب أسوؤها خيار التحالف مع حركة النهضة. كما يتهمون بتهميش القيادات الجهوية والخبرات الحزبية. والتهمة الرئيسية الموجهة إليهم هي سوء إدارة ملف تشكيل الحكومة، بدءا باختيار شخص رئيس الحكومة، فاصطفاء الشركاء، وصولا إلى أشخاص الوزراء وصفاتهم وانتماءاتهم.
لقد كان الشعب التونسي كريما مع نداء تونس إذ منحه كل السلطات في انتخابات موفى 2014 التشريعية والرئاسية. ولكن يبدو أنّ نتائج الانتخابات فاجأت الندائيين قبل غيرهم، فلم يتمكنوا من إخفاء خلافاتهم العاصفة التي ولدت كبيرة، تماما كما ولد حزبهم كبيرا، وكما كان فوزه الانتخابي كبيرا أيضا. ولم يحدث أن فاز حزب فوز نداء تونس بالانتخابات التونسية وعصفت به المشاكل والصراعات الداخلية، كما يحدث للحزب الحاكم في تونس أمام دهشة التونسيين وتوجّسهم وخوفهم على مستقبلهم. فما لم يجد له التونسيون جوابا هو؛ ما الذي يريده حزب سياسي أكثر من الفوز الانتخابي الكاسح الذي يعني تولي الحكم وإدارة الدولة واحتلال المناصب السيادية والإدارية السامية؟
نداء تونس تأسس في يونيو 2012 وانضمّ في صيف 2013 إلى جبهة الإنقاذ التي كانت الجبهة الشعبية قد دعت إليها لإنقاذ تونس من الوضع الاجتماعي والاقتصادي والأمني الخطير الذي تردّت فيه بسبب استبداد الترويكا بقيادة حركة النهضة. ومنذ اعتصام الرحيل الذي شارك فيه نداء تونس لوجستيا لم يتوقف النداء عن إعلان مواقفه التي تقضي بالإقرار بفشل الترويكا في الحكم، وفشل حركة النهضة في قيادة ائتلاف الترويكا الثلاثي في كلّ المهام المناطة بهم. وكان الندائيون حريصين على إبراز إلمامهم بكل الصعوبات التي تعيشها تونس نتيجة الفساد الذي خلفه زين العابدين بن علي والخراب الذي تركته الترويكا.
لكن نداء تونس فاجأ الرأي العام الوطني حين اختار إشراك حركة النهضة في حكمه بعد أن كان يصفها برأس الفشل، وبعد أن شارك في إجبارها على التخلّي عن الحكم. وكان القرار صادرا عن السبسي وعن الهيئة التأسيسية للحزب ومكتبه التنفيذي الذي كان أمينه العام الطيب البكوش رافضا لإشراك النهضة. ورغم أن البكوش التحق بالحكومة ليتسلم حقيبة الخارجية السيادية، فإن قرار إشراك النهضة في الحكم وفرضه فرضا دون نقاش ديمقراطي عميق، كان بداية انزلاق الحزب إلى دوامة الصراعات المعلنة والخلافات العاصفة.
ذكرنا أعلاه أن أزمة نداء تونس هي أزمة حكم لماذا؟ لأن شقا كبيرا من نوابه في البرلمان ومن وزرائه في الحكومة ومن قادته الجهويين ومن خبرائه ومن المساندين له بالمال أو بالإعلام أو بالدعاية أو باللوجستيك، هؤلاء جميعا اجتمعوا السبت 14 مارس 2015 في حركة وصفوها بالتصحيحية لسحب الثقة من الهيئة التأسيسية ومنح السبسي رئاستهم الشرفية داعين إلى تشكيل مكتب سياسي جديد يقود حزبهم. وهذا الذي يسمّيه نجل السبسي ومن معه حركة تصحيحية، يسمّيه أعضاء الهيئة التأسيسية الذين هم مع والده “انقلابا” على مؤسسات الحركة وسطوا عليها.
في أفق هذه الأزمة بين شقين متنازعين نزاعا صداميا داخل الحزب الحاكم في تونس لا شيء قد يوحي بالسيطرة عليها وإنهائها، لا سيما بعد دعوة الهيئة التأسيسية التي تحظى بمساندة شق آخر من نوّاب الحزب في البرلمان إلى انتخاب مكتب سياسي جديد ترى فيه الهيئة التصحيحية إمعانا في المغالطة باعتبار أنّه يقوم على الفرز والتعيين وفقا للولاء، لا على الانتخاب الحر.
هذه الأزمة لو استمرّت فإنها ستقود إلى انقسام الحزب الحاكم بما سيفقده أغلبيته التي على أساسها تم تكليفه بتشكيل الحكومة، وهو ما يهدد حكومة حبيب الصيد في وجودها. وفقدان الأغلبية يعني إعادة تشكيل المشهد البرلماني فيعيد النهضة، المتراصّة صفوفها إلى الصدارة، أو يدفع الكتل الأخرى غير المتجانسة إلى تحالف جديد تشكل بموجبه أغلبية كافية لتشكيل حكومة جديدة.
وإذا دفعت الحكومة القائمة نحو الانحلال وفشلت الكتل البرلمانية في المصادقة على حكومة جديدة بما يهدّد بفراغ حكومي في ظل هذه الأوضاع التونسية المتردية، فإن البرلمان المنتخب حديثا سيكون مهددا بالانحلال، وهذه من صلاحيات رئيس الجمهورية. أزمة نداء تونس الحاكم ليست هيّنة ولا بسيطة. وهي تحمل نذر خطر جسيمة على تونس ومستقبل شعبها.
*كاتب وباحث سياسي من تونس/”العرب”