حتى الآن لم يهدأ السجال في المجتمع الجزائري حول القوانين التي تمت المصادقة عليها مؤخرا من طرف البرلمان والتي بموجب تفعيلها (إذا فعّلت فعليا طبعا)، فإنَ صفحة بائسة أخرى من تاريخ استعباد وإهانة المرأة الجزائرية التي تعيش داخل زنزانة الثقافة الذكورية المتعسفة تكون قد ظهرت أمام الملأ دون مساحيق.
وفي الواقع فإن ردود فعل الأحزاب الإسلامية وجيوب أخرى كثيرة مسعورة من المجتمع الذكوري الجزائري، تجاه حقوق المرأة، توضح بجلاء أنه بعد أكثر من 50 سنة من استقلال البلاد عن الاستعمار الفرنسي، لم يحدث أي تغيير جوهري يذكر في البنية العائلية وفي الثقافة الرجعية المتخلفة المستشرية في جميع مناحي الحياة الجزائرية.
إن القوانين الخمسة التي نحن بصدد التحدث عنها تمنع ظاهريا الرجال من ضرب النساء، وتعتبر مثل هذا السلوك العنيف جريمة يعاقب عليها القانون الجنائي.
لكي نفهم المشهد كاملا فإنه ينبغي التوقف قليلا عند تصريحات كبار السياسيين والمحامين، وآراء نخبة من الإعلاميين الذكور، وكذلك مواقف عيّنات من المجتمع النسوي نفسه، مع العلم أن الترسانة الأصولية الإسلامية قد تمكنت في الماضي القريب من التشويش على عدد من المواد القانونية الصادرة سابقا، والسعي إلى تعطيلها مثل المادة المخصّصة لتحديد الولاية في عقود الزواج.
وأكثر من ذلك فإن هذه التيارات الإسلاموية قد تمكنت من تمييع ومحاربة القوانين التي تمنع تعدد الزوجات، الأمر الذي فرض على الجهات التشريعية الرسمية إيجاد مخارج ومسوغات وتبريرات تفتح المجال للتعددية الزوجية بهذا الشكل أو ذاك.
إلى جانب ما تقدم فإن الأحزاب الإسلامية الأصولية، إلى جانب قطاع واسع من المجتمع المدني المتذبذب، قد اعتبرت إنشاء صندوق لمساعدة المطلقات ماديا بمثابة تشجيع النساء على التخلص من الأزواج وتحفيزهن على تدمير بيت الزوجية بعد استتباب الاستقلال الاقتصادي لصالحهن بعيدا عمّا يسمى بكفالة الرجال. كما اعتبر هذا التيار أن تخصيص 30 بالمئة من مقاعد البرلمان للنساء، سابقة سياسية مخلة بالأعراف وغيرها من التوصيفات الذكورية المغرقة في التخلف.
في هذا الإطار عارض نواب تكتل ما يسمّى بالجزائر الخضراء، الذي هو كناية عن تكتل الأحزاب الإسلامية، قانون حماية المرأة من ضرب الرجال للزوجات معتبرين إياه مناقضا للشرع وتمسحا بالعلمانية وتمهيدا مباشرا لتفكيك أواصر الأسرة الجزائرية.
وفي الحقيقة فإن التصدي للقوانين التي تمنع استخدام الأزواج الرجال للعنف الجسدي والنفسي والمالي، فضلا عن القانون الذي يعطي للزوجة الحق في خلع زوجها بحرية، قد امتد إلى قطاع واسع من المحامين والناشطين السياسيين والإعلاميين بما في ذلك العنصر النسوي. هناك عدد من المحامين من يعتقد بصريح العبارة أن هذه القوانين سوف “تشجّع المرأة على الانتقام من زوجها” كما صرح بذلك ليومية الشروق اليومي أحد المحامين المعروفين في الجزائر وهو إبراهيم بهلولي.
في هذا السياق صرح الخبير القانوني الجزائري عمار رخلية للصحيفة نفسها قائلا بأن “قانون العقوبات المعدّل جاء مغازلة للغرب وانعكاساته ستكون سلبية”. وفي مكان آخر صرحت رئيسة حزب العدل والبيان نعيمة صالحي وأبدت تحفظها إزاء التداعيات التي ستنجر عن تطبيق قانون حماية المرأة الجزائرية، وإن رحبت، ظاهريا، بمبدأ عدم ضرب الزوجة من طرف زوجها. ومن جهتها صرحت المحامية زهية مختاري أنها تعتبر “القوانين التي ظهرت في الآونة الأخيرة تحت شعار حماية المرأة تكريسا لزمن الرداءة وتهدف إلى تأنيث المجتمع الجزائري”. هناك تأويلات أخرى لقانون حماية المرأة على أنه لعبة من ألاعيب النظام الجزائري الذي يريد من ورائه استقطاب النساء للتصويت لصالحه في الانتخابات القادمة أسوة بما حدث في الانتخابات السابقة.
كيف نقرأ هذه التصريحات والمواقف، هل هي تعبير عن مواقف فردية أم أنها تعبير عن التخلف الفكري والأخلاقي والاجتماعي الذي كرّس في المجتمع الجزائري منذ الاستقلال إلى يومنا هذا؟ ثم هل يمكن اعتبار جملة القوانين هذه قارب نجاة للمرأة الجزائرية أم أنها مجرد ذرَة مجهرية في مجرَة من الأوضاع البائسة وغير العادلة التي حشرت ولا تزال تحشر المرأة الجزائرية في ثقوبها السوداء؟ دون شك فإن استصدار القوانين وحدها لن تحدث ثورة جذرية بوجهها الإنساني الساطع في المجتمع الجزائري، ولن ترسخ التحول الراديكالي في البنية الثقافية المؤسسة أصلا على علاقات القوة والسيطرة الاقطاعية للذكورة.
فالمرأة والرجل في المجتمع الجزائري المعاصر هما ضحية الفكر الإقطاعي والممارسات الإقطاعية المستشرية في الهرم الأعلى للسلطة، ودون تغيير هذا على مستوى الهرم الأعلى وعلى نحو متزامن مع تغيير البنية الثقافية القاعدية الإقطاعية التي يستند إليها، فإن دار لقمان سوف تبقى على حالها.
بطبيعة الحال فإن لجوء الرجال إلى استخدام الضرب لحل الخلافات الزوجية أمر ينزل بهم إلى مراتب حيوانية، ولكن لا بد من قراءة الواقع الوطني قراءة صحيحة لكي نحيط بالأسباب التي ما فتئت تخرَب الأسرة التي هي الخلية الأولى في جسد المجتمع.
لا بد من الاعتراف، أولا، أن قطاعا واسعا (وهو الأغلبية) من الأسر الجزائرية تعيش الأزمات الاقتصادية الخانقة والتهميش الاجتماعي، الأمر الذي خلق ولا يزال يخلق التوترات والجنوح الأخلاقي وظاهرة الطلاق المتفاقم. وفي هذا الخصوص لا بد من الجهر بأن التغييب المنهجي للأمن المادي والنفسي للأسرة الجزائرية، وانعدام تقسيم الثروة بين الزوج والزوجة بالعدل – وفقا لما تحقق في المجتمعات المتحضرة – هما العنصران السائدان في التشريع الجزائري سواء عند حدوث الطلاق أو عند وفاة الزوج.
إلى جانب هذا فإن مناهج ونصوص البنية التربوية والتعليمية المكرسة في المنظومة التعليمية فضلا عن التمثيلات الرجعية للنساء في الإعلام، وفي خطابات التراث الثقافي الشفوي والمكتوب المعمول بهما في الحياة اليومية منذ الاستقلال، طمست جميعا الوجود النوعي المستقل والإنساني للمرأة.
بناء على هذه القراءة فإن نسف علاقات القوة الذكورية ليست مسألة قانونية فقط، بل إن إزالتها مشروطة بترسيم النهج الديمقراطي على مستوى تداول الحكم وفي الأسرة، وتوزيع السلطة توزيعا عادلا في المؤسستين معا، فضلا عن بناء أسس دولة الرعاية الاجتماعية الحقيقية التي تحفظ أمن الأسرة ماديا ونفسيا على نحو متزامن.
ودون تحقيق هذه الشروط فإن الثقافة الإقطاعية ستستمر في وعي ولاوعي الرجل والمرأة معا، وجراء ذلك لن يحدث التحول الديمقراطي بما في ذلك العلاقة بين الزوج والزوجة.
*كاتب جزائري/”العرب”