أحد أوجه الحرب المعلنة على الشعوب العربية، منذ أربع سنوات، اتهام ثورات الربيع العربي بأنها التي قادت المجتمعات إلى الانقسام والفوضى والخراب الذي تعرفه، اليوم، بلدان عربية عديدة. والحال ليس ما تعيشه هذه المجتمعات نتيجة الثورات التي عرفتها، والتي كانت، على العموم، سلمية وسياسية، وإنما ثمرة إجهاضها، ودفع المجتمعات، من جديد، إلى السقوط في هاوية العبودية واليأس. فما نشهده، اليوم، من عودة الحرب المعلنة بين النخب المتكالبة على الدولة تحت شعار حمايتها، والدفاع عن مؤسساتها ضد “البرابرة” الجدد من جهة، والنخب الإسلامية التي وضعت يدها على الدين، لإضفاء الشرعية على صراعها، من أجل السلطة والمشاركة في الحكم، أو لانتزاعه ممّن أصبحوا يعتقدون أنهم أصحابه الشرعيون النهائيون، من جهة ثانية، هو بالضبط ما كان سائداً قبل ثورات الربيع العربي، وما جعل أنظمة عربية عديدة تحكم بقانون الطوارئ والأحكام العرفية، عقوداً، وتسحق كل بادرة احتجاج أو تعبير مختلف. وهذا هو الوضع الذي أنتج، أيضاً، جدلية التطرف والعنف، ودفع مجموعات معارضة عديدة إلى الانخراط في أعمال قتالية، ردت عليها السلطات الحاكمة بمجازر جماعية، كان ضحيتها، بالدرجة الأولى، المدنيون الأبرياء، ومثالها ونموذجها الأكبر مذبحة حماة في سورية عام 1982.
الثورة خيار الشعوب
كانت هذه الحرب الأهلية المديدة تعبيراً عن الشرخ الذي ظهر مع بداية عهد الاستقلال، لكنه ما لبث أن توسّع وتعمّق، حتى قضى على الوطنية الوليدة كلها، بين كتلتين، أو نخبتين سياسيتين، ورؤيتين للدولة والمجتمع، تبني كل منهما مشروعها على إقصاء الأخرى، ولا ترى سبيلاً إلى تحقيق برنامجها، من دون الانفراد بالحكم والسيطرة الأحادية على الدولة، إما باسم الوفاء للهوية، منظوراً إليها من زاوية العقيدة الدينية، أو باسم الدفاع عن القيم “التقدمية” القومية أو “العلمانية” المرتبطة بالحداثة والمعاصرة. كلاهما تُخضِعان السياسة للعقيدة، وتضعان الدولة والإدارة العامة في خدمة تحقيق الأجندة الخاصة على حساب بلورة أجندة وطنية دامجة. كانت مظاهر هذه الحرب واضحة في الخطاب العدواني المتبادل، والاتهامات بالتخوين والتكفير، وبتحويل السجون إلى مقر إقامة دائمة و”تأهيل” ملايين الشباب الناشطين. لكن، حتى في هذه الحقبة، لم تعدم هذه الحرب الأهلية، ذات الوتيرة الضعيفة، لحظات اشتعال وتسعير قويين، ظهرت على شكل انتفاضات، أو عمليات مسلحة، أو حملات اعتقال وتعذيب وقتل بالجملة، حتى لو أنها كانت تسعى، دائماً، إلى إخفاء وجهها والتلطي خلف شعارات أمنية ودينية محايدة.
بل إن هذه الحرب المشتعلة جهاراً، أو تحت الرماد، التي دانت المجتمعات بالدوران في الفراغ والتخلّف والبؤس وعدم الاستقرار، هي المولّدة الحقيقية للثورة السلمية التي تفجّرت باسم الربيع العربي، وكان هدفها إصلاح ما أحدثته خيارات الدولة والمعارضة في الحقبة السابقة من فتنةٍ جعلت من الهوية نقيضاً للحداثة، ومن الحداثة نقيضاً للهوية، وقتلت أي أفق للتجديد والتغيير والانسجام الاجتماعي، وحكمت على المجتمعات بالدمار المعنوي والمادي. وكانت هذه الثورة، في مادتها وجمهورها وأسلوبها السلمي ومظاهرها الاحتجاجية الشعبية، وشعاراتها وصورها وأهازيجها، عيداً وطنياً جامعاً، ومناسبة لإعادة توحيد الشعوب والمجتمعات، وبث روح الألفة والانسجام والتفاهم والتسامح في ما بينها، في ما وراء انتماءات أفرادها الأهلية، الدينية والقومية والمذهبية، بعد شقاق مديد، أي كانت فرصة لولادة الشعب والأمة الدولة، ومصهراً تتعانق فيه الأجيال الجديدة مع الأجيال القديمة، ويتفاعل فيه التراث مع الحداثة، وتلتقي فيه السياسة بالثقافة والفن، وتصدح فيه الوطنية الجامعة بالقيم الإنسانية والنظرة العالمية. وككل ثورة، كان الربيع العربي طفرة وجدت فيها المجتمعات، التي فتّتها وشلّ إرادتها العنف والشك والعزلة والاضطهاد، نفسها في سياق جديد، أو خارج السياق الطبيعي، في لحظة يتكثف فيها التاريخ، وتشعر فيها الجماعات بقوة استثنائيةٍ، تدفعها إلى تخطي تناقضاتها ونزاعاتها القديمة، وكل ما عجزت عن تخطيه في الشروط العادية، والتجرؤ على قيود مادية ومعنوية كثيرة كبّلتها قروناً، لحظة تتصالح فيها المجتمعات مع ذاتها، ويتوحّد فيها الماضي مع الحاضر، والتاريخ مع الجغرافيا، والفرد مع الجماعة، ويمتزج فيها الحلم بالواقع، ويتطابق فيها المصير والمستقبل، تنجز فيها المجتمعات في أيام ما تعجز عن إنجازه في قرون.
لم تولد هذه الثورات من رحم السياسة الأيديولوجية والفئوية التي فرّغت المجتمعات من طاقاتها واستنزفتها، وصارت مثالاً للفساد والإفساد والتنازع والخلاف، وإنما في مواجهتها وضدها. ولدت من السياسة بالمعنى النبيل الذي يشير إلى عملية تحرير الأفراد والمجتمعات من مخانق التاريخ والأيديولوجيات وصراعاتها القديمة، ومن ورائها إلى ولادة المواطنة وبناء الوطنية كمشروع أخوّة جامعة تتجاوز الفوارق والتمايزات، وتوحد الأفراد في ظل قانون الحرية والكرامة والمساواة. ولدت في حضن جمهور لم يعرف السياسة القديمة أصلاً، ولم ينخرط في أي نزاعات على السلطة، ما عرفتها النخب السياسية السائدة. وقامت على أكتاف أجيال الشباب التي عانت، أكثر من أي فئات أخرى، القهر والإذلال والخوف والتهميش، أجيال ملّت المعارك الأيديولوجية والسياسية الفارغة، الشخصية والفئوية، التي سدّت على المجتمعات كل الأبواب، وأفرغت الدولة والدين معاً من وظائفهما الإنسانية الأساسية، بدل أن تفتح لها طريق التحرر والتغيير والخلاص. وفي هذه اللحظة الاستثنائية، اكتشف المجتمع، من جديد، المعنى الخالص للوطنية، وأطلق شعار الشعب الواحد، ومفهوم الدولة المدنية.
الثمن الباهظ لإجهاض الثورة
أشعلت هذه الثورات، التي حررت الشعوب من انقساماتها وفواتها التاريخي وتخلّف نخبها، ودفعت بها إلى قلب التاريخ، أملاً عظيماً عند ملايين الأفراد في تجاوز الأزمة الطويلة التي عاشتها الدول والمجتمعات، وما رافقها في عقود الاستقلال الطويلة من انقسامات مدمرة بين إسلاميين وعلمانيين، وقوميين وقطريين، ويساريين وليبراليين، ومتغربين وسلفيين، والانطلاق، أخيراً، موحدين نحو المستقبل.
لكن، مرة أخرى، اصطدمت إرادة التحرر عند الشعوب بمصالح قوى محلية وإقليمية ودولية عاتية: المصالح الدنيئة للنُّظُم المافيوية الفاسدة التي حوّلت البلدان إلى مزارع وإمارات خاصة، والمصالح التوسعية للدول المأزومة، الباحثة عن نفوذ خارجي، تغطي به على تناقضاتها الداخلية، وفي مقدمها الجمهورية الإسلامية الإيرانية، ومصالح النظم شبه الامبرطورية التي أرادت أن تعوّض بتعطيل المنظومة الدولية، واستعادة مناخ الحرب الباردة عن الدور الذي لم تعرف الوصول إليه بالمشاركة الإيجابية في العالم، ومصالح إسرائيلية وجدت في شعار “الأسد أو نحرق البلد” حرب التدمير الذاتية التي لطالما تمنتها، للقضاء على ما تبقى من قوى عربية. واصطدمت، أخيراً، بخواء منظومة الحق العالمية، وتخلي الأمم المتحدة والدول الكبرى عن مسؤولياتها، سواء نتيجة اعتقادها بأن سلام الشرق الأوسط ومستقبله ومصيره لم يعد يشكل مصلحة أساسية لها، أو بسبب جرثومة العنصرية المبطنة والخوف من الإسلام والعرب الذي لجم أي روح تضامن حقيقية في الغرب مع شعوب المنطقة منذ عقود طويلة. ومن الواضح أننا، اليوم، بصدد تبديد إحدى الفرص الكبرى النادرة التي قدمها التاريخ للمجتمعات العربية، لكي تنهض بنفسها، وتتحرر من عطالتها ودورانها الطويل على نفسها، وتدخل في صميم قيم العصر ودينامياته. وهي الفرصة التي كان العرب ينتظرونها منذ قرن، لاستعادة روح المبادرة التاريخية، وعودة الثقة بالنفس والقدرة على المراجعة الحرة لإرث الماضي السلبي، وتقاليده ونماذج تنظيمه.
وكما يحصل في كل الانكسارات، لن تكون نتيجة إجهاض ثورة الشباب العربي العودة البسيطة إلى ما كان عليه الوضع السياسي والاجتماعي من قبل. ما سنشهده هو أزمة مضاعفة مرات عديدة، عنوانها الرئيسي تعميم النزاع والعنف، من دون حدود ولا ضوابط ولا روادع. لن تستطيع أي نخبة أن تفرض سيادتها وسلطتها على أي مجتمع، ولا أن تعيد بناء أي دولة وإدارة ثابتة ومستقرة. ولن تبقى الحرب محصورة في التنافس الدموي بين نخبتين تتنازعان على احتكار السلطة والسيطرة على الدولة والمجتمع والفضاء العام، وإنما ستتحول إلى حروب مركبة ومتعددة واسعة الانتشار. وسوف يضاف إلى الحروب الناجمة عن إجهاض الوطنية الذي عرفناه في السابق، الحروب الجديدة النابعة من انفجار المجتمعات وتشظيها، بحيث لن يعود الصراع على الدولة هو المشكلة، وإنما سيحل محله صراع الجماعات والفئات المتعددة في ما بينها، وعلى أنقاض بعضها. فبعكس ما كان سائداً قبل الثورات، لن تبقى الصراعات ذات طبيعة سياسية، يقتصر الانخراط فيها على النخب التي تملك مشاريع وأجندات خاصة، لكنها سوف تدفع كل فئات المجتمع إلى الدخول فيها. وتحولها من حروب لغايات محددة، دينية أو سياسية، إلى حروب حياة أو موت لهذه الجماعات. وكما هو الحال في كل الحروب التي يكون طابعها الصراع من أجل البقاء، لن تحتمل هذه النزاعات أي تسويات أو حوارات، ولن تقيس ربحها وانتصارها إلا بحجم العنف والإبادة التي يكبّدها كل طرف للطرف الآخر، ومستوى الوحشية التي يعامل بها فريق غريمه. وربما دخلنا، منذ الآن، في هذا المنطق الذي يعرف كل طرف فيه أنه لم يعد هناك ما يربحه، وأن الهدف تكبيد الخصم أكبر الخسائر، لا الانتصار عليه. هذه هي حروب القتل الهمجي والتطهير العرقي المتبادل والانتقام.
لن يكون القضاء على ثورات الربيع العربي إجهاضاً لمشروع ولادة أمم حديثة بقيت، منذ عقود طويلة، ضحية تلاعب الكبار وحكراً على سلطة العصبيات الأهلية ومافيات السياسة والمال فحسب، لكنه يعني، لا أكثر ولا أقل، الحكم على شعوب كاملة بالإعدام. ولن يقتصر أثر تفجير المجتمعات وزعزعة الأسس العميقة لاستقرارها على البلدان العربية والإسلامية وحدها، لكنه سيشكل الحلقة الأولى من مسلسل تعميم موسّع للفوضى والعنف، ومنطلق ارتدادات تهدد بتحويل العالم، شيئاً فشيئاً، إلى ميدان موحد للصراع، أقل أمناً بكثير ممّا كان عليه قبل هذه الثورات، وأكثر تشتتاً وتفتتاً وأقل استعداداً للانضباط والجمع والاتساق. إجهاض ثورات الربيع العربي قنبلة تاريخية طويلة المدى والانفجار، لن تتوقف مفاعيلها قريباً، ولن تستطيع قوة حصرها. وليس صعود موجة التطرف والإرهاب إلا الجزء البسيط البارز من جبل الإحباط والخوف والبؤس الذي يقبع على قلب المجتمعات المحطمة والمتروكة من دون أمل، ولا مستقبل، ولا أوهام.
يضع إجهاض هذه الثورات، كما لم يحصل من قبل، موضع السؤال من جديد، بناء الدول والانتقال التاريخي المعاق للمجتمعات نحو الحداثة والتصالح مع العالم، ويجدد التفكير في نقد الأسس التي أقام عليها النظام العالمي استقراره خلال القرن الماضي، ويكشف عن الزوايا الميتة التي تركها من حوله، ودفعت ولا تزال إلى تهميش ثلثي البشرية، وسد آفاق التطور والتقدم والنمو الأخلاقي والمادي أمامها. ولا يمكن أن يمر حرمان الشعوب من التقدم، وتجاهل تطلعاتها إلى الانخراط في عصرها، والتمتع بقيمه، من دون ثمن.
باختصار، كما كانت ثورات الربيع العربي خيار التحرر عند الشعوب، فإن داعش خيار اليأس والانتحار.
* أكاديمي سوري/”العربي الجديد”