بعد موت الأستاذ عبد الله بها رحمه الله، أثيرت أسئلة كثيرة عن موقعه ودوره وأدبياته وتراثه الشفوي والمكتوب، وكان لهول الصدمة أثر كبير في بناء هالة أسطورية على شخصية المرحوم، دفعت بعض الإخوة الفضلاء في بعض الأحيان إلى الحديث عن العبقرية الموسوعية، فصار البحث يتحدث عن عبد الله بها المفكر، والبعض الآخر عن عبد الله بها الإعلامي، والبعض الآخر عن عبد الله بها السياسي، في حين تسربت نتف غير قليلة من الثقافة العرفانية لدى طيف من المحبين، فصاروا ينسجون عن الرجل أشياء أسطورية لا تمت بصلة إلى نوع الثقافة التي تم تأسيسها خلال ثلاثة عقود الماضية داخل المجال التداولي للتنظيم.
والحقيقة، أن التقييم الصحيح لموقع الرجل ودوره وتراثه وأدبياته، يحتاج إلى قدر كبير من التحرر من صدمة المصاب، بل والتحرر من العلاقة التاريخية التي كانت تجمع المرحوم بالأستاذ عبد الإله بنكيران، إذ بدا هناك نوع من الالتباس والخلط بين الشخصين إلى الدرجة التي صارت تنسب فيها أفكار هذا لذاك.
نظن، بعد هذه المسافة الزمنية التي تفصلنا عن الحادث الجلل، أن النظر قد تحرر بشكل كبير من هذه الضغوط النفسية والعاطفية، وصار بالإمكان أن نبني صورة حقيقية عن دور الرجل وموقعه وتراثه وأدبياته، وأن نتأمل بشكل جدي التمثلات الثقافية التي نشأت عنه، ونقرأ ونفسر دلالاتها، وننظر عما إذا كانت تشكل مؤشرات للعافية الفكرية، أم أن ذلك يعكس صورة من صور تراجع النموذج الفكري الذي أسسته الحركة الإسلامية منذ تدشينها للمراجعات في مستوياتها المختلفة.
بعد موت الأستاذ عبد الله بها رحمه الله، كتبت مقالين عن شخصه، الأول تحدثت فيه عن رحيل رجل المرجعيات الثلاث، والثاني تحدثت فيه عن قواعد المنهج التي كان المرحوم عبد الله يحرص عليها في العمل السياسي.
أي أن التقييم الذي قدمته لموقع الرجل ودوره وتراثه وأدبياته، ركز على ثلاث مستويات:
1- المستوى الأول: ويهم الجانب القيمي، والذي كان الأستاذ عبد الله بها مرجعية فيه.
2- المستوى الثاني: ويهم الجانب المنهجي، فالرجل كان يمتلك ميزانا دقيقا يقيس به الأفكار، ويرجح بعضها على بعض، هذا فضلا عن كونه كان مرجعية في حراسة المنهج الذي أرسته الحركة الإسلامية بعد مسار طويل من المراجعات.
3- المستوى الثالث: ويهم الجانب التوافقي والتواصلي، والذي كان يتميز فيه عبد الله بها عن غيره بفضل أخلاقياته العالية أولا، ثم بفضل وفائه لمقتضيات المنهج التي كانت تركز على فكرة التعاون.
ما عدا هذه المستويات الثلاث، وهي بالمناسبة ليست أمرا هينا بل هي رأس الأمر كله. ما عدا هذه القضايا الثلاث، يصعب أن نرى في شخص عبد الله بها شيئا آخر لا تتحمله شخصيته.
بعض الإخوة الفضلاء، من فرط حبهم للرجل، صاروا ينظرون إليه باعتباره مفكرا، مع أن الرجل لا تتوفر فيه مقومات المفكر وسماته وخصائصه، فالأستاذ عبد الله بها لم يخلف إلا افتتاحيات كان يكتبها في جريدة الإصلاح تحت عنوان سبيل الإصلاح، تم جمعها في كتيب، وهي في معظمها تتناول المراجعات التربوية، الممهدة والمؤسسة للمبادئ التي تبنتها الحركة الإسلامية في مواثيقها.
فإذا غادرنا هذا الكتيب الذي جمع هذه الافتتاحيات، ونظرنا إلى أحاديثه القليلة، فلا نكاد نجد أفكارا اختص بإنتاجها، اللهم ما كان من براعة أدبية أو رمزية كان يملكها في توضيح بعض الأفكار وتجميلها، وأحيانا قدرة على الجمع بين الأفكار أو الترجيح بينها.
بيد أن هذه المقومات التي لا تتيسر لكثير من الناس، ليست كافية لكي يأخذ الرجل مكانه ضمن دائرة المفكرين، حتى ولو كان حبنا للرجل يدفعنا دفعا لنراه ضمن زمرة منتجي الأفكار.
وإخوة فضلاء آخرون، تحدثوا عن المرحوم عبد الله بها الإعلامي، ووجدوا في تجربته في “جريدة الإصلاح” دليلا لينسجوا عنه هذه الأسطورة، مع أن الرجل كان يعبر عن خلاصة الأفكار التي كانت تتخمض في أحشاء التنظيم لحظة المراجعات.
نعم كانت للمرحوم أدوار ما في مراجعة بعض الافتتاحيات التي كان المدير المسؤول آنئذ (الأستاذ عبد الإله بنكيران) يقدر أنها تحتاج إلى تقييم، لكن هذا الدور كان مرتبطا بالسقف السياسي الذي كانت الحركة تتحمله، وليس بالخبرة الإعلامية. فلم يعرف- في حدود اطلاعي- أن الرجل كانت له خبرة إعلامية، بل حتى وتيرة قراءاته واطلاعه ومتابعته للجرائد لم تكن في المستويات التي تسمح بالحديث عن عبد الله بها الإعلامي.
ربما أكون مبالغا إن ذهبت إلى اختبار مقولة عبد الله بها السياسي، وهو الرجل الذي وصف بنص الرسالة الملكية بأنه رجل الدولة الكبير.
لكن، يكفي في هذه المقالة هذه الجرعة، حتى لا يفهم الرأي على غير مقصوده، وإلا فلنا رأي في قضية علاقة المرحوم الأستاذ عبد الله بها بالسياسة، سيأتي أوان بسطه حينما تهدأ الخواطر أكثر، ويصير بإمكان المتلقي أن يتجرد من الموقف العاطفي المرتبط بالشخص، ويتعامل مع منهج النظر الذي كان المرحوم عبد الله بها دائما ينافح عنه.
ثمة مشكلة فكرية تتسرب للأسف من الثقافة العرفانية المهيمنة على المجال، فهناك من يستعيض عن تبخيسه للمقومات الحقيقية التي كان يمتلكها المرحوم عبد الله بها باختلاق مقومات أسطورية خيالية يتم التعسف في إلصاقها بالرجل ظنا أن ذلك سيزيد من قيمته وصورته وهو الذي أفضى لخالقه.
التقدير الحقيقي لشخص عبد الله بها رحمه الله هو أن يذكر بما فيه، لا أن يتم اختلاق صورة أسطورية عن شخصه لا يعرفها عنه حتى أفراد أسرته.
ربما أكون قاسيا بعض الشيء في حق الإخوة المحبين، لكن المزايدة على حب المرحوم لا تستبيح التكلف، ذلك أنه من السهل اليوم أن تخرج وتتحدث عن شخصية عبد الله بها المفكر والإعلامي والسياسي وربما الفنان والمبدع، ففي لحظة المصاب كل شيء جائز ومغتفر، فكثير من الناس ممن لم يتيسر لهم لقاء المرحوم صاروا يتحدثون عن لقاءات متواترة معه، ويحكون مواقفه التي لم يتبينها أحد. لكن، بعد أن تخف الوطأة، وتبعد المسافة عن المصاب، كيف يكون الصنيع لو طلب منا أن نأتي بما يثبت الادعاءات؟
أختم المقال، بكلمة، أتقاسمها مع المحبين، وأنا منهم، وأقول: إن أفضل طريقة للاحتفاء بهذا الرجل الكبير، هو أن نلقي الضوء على مقوماته الحقيقية، لا أن نصنع صورة أسطورية عنه، تعبر عن اللاوعي الساكن في جوانحنا، وكوننا نستضمر صورة الشيخ الذي طالما رفضته ثقافتنا الحركية، فعاد بسبب أزمة الفكر داخل التنظيم، ليسكن في لاشعورنا، وجاءت وفاة عبد الله بها رحمه الله لتظهر جانبا من هذه الصورة المطاردة.
يقيني، أن هذا المقال سيصدم البعض، وسيجد فيه البعض الآخر أشياء أخرى قد يتأولها خارج السياق، لكن، حسبي أن نيتي وقصدي أن أنتصر إلى النموذج الفكري الذي تربيت فيه، وأن أنتصر إلى المنهج الذي تعلمنا مفرداته من جيل المؤسسين وفي مقدمتهم الأستاذ عبد الإله بنكيران والمرحوم عبد الله رحمه الله.
*كاتب مغربي/”التجديد”