لدينا أكثر من فكرة أو مفهوم في طريقة التعامل بين العامل “الوظيفي” و”التنظيمي” أو”الحزبي” أو السياسي، حيث يتجلى المفهوم الأول لدى البعض بالخلط المقصود بين كل المكونات ويقابله المفهوم الثاني الذي يفصل بينها ما يمثل برأيي حقيقة البناء الصحيح للمواطنة في البلد، ومع ذلك فنحن الآن في فلسطين في منزلة بين المنزلتين في حقيقة الأمر.
إن عملية الخلط بين الوظيفي والتنظيمي عملية فاسدة لا تؤسس لبناء مجتمع مدني ديمقراطي، ولا مجتمع مؤسسات حقيقية. لذا إن تم التعيين أو الترقية أو الفصل على قاعدة الانتماء التنظيمي أو السياسي أو على قاعدة الولاء الشخصي أو النزق نكون قد أسهمنا في تدمير أسس الكيان المفترض إننا نسعى لبنائه.
مارست حركة فتح مع قيام السلطة هذا الخلط،واستمرت لفترة قد تكون مبررة في البدايات، إلى أن اقتنعت وتنظيمات (م.ت.ف) أن مفهوم بناء الوطن والمؤسسات والدولة يستند لأساس المقدرة والكفاءة والتعليم والخبرة لا لأساس حزبي أو تنظيمي يرفع من قيمة الولاءات الشخصية على حساب البلد.
مارست “حماس” ذات الفعل بعد انقلابها عام 2007 ووقعت في ذات المرض المعدي ذاته، وإن غالت فيه كثيرا، إذ ميزت بكفاءة بين عناصرها وباقي الموظفين، كما ميزت بين “شعبها” والشعب الفلسطيني في أمور كثيرة ليس أقلها في الامتيازات والمساعدات الخارجية.
إذن مع استقرار مفهوم الفصل بين الحزبي التنظيمي وبين الوظيفي سواء في الوظيفة المدنية أو العسكرية فإن علينا تكريس هذا الفهم بوضوح، ويصبح أمام حركة فتح تكريس ذلك القرار واضح المعالم في مؤتمرها العام السابع، وكذلك الأمر مع كافة التنظيمات.
النقطة الأخرى المثارة في الموضوع هي عقلية المكافأة أو الثمن أو المصلحة تلك التي كانت تفترض أن للانتماء التنظيمي ثمن يتوجب دفعه للمنتمي (وإن انتمى صوريا) بتوظيفه دون اعتبار للكفاءة أو التعليم أو المقدرة أو الخبرة مفترضة إن هذا حق لها، ما هو باطل.
رغم ما قلناه فلقد أصبح لدينا موظفين اليوم ربما جزء منهم لا يتمتع بالمواصفات المطلوبة للوظيفة المحددة، وما كان هذا ذنبهم وإنما ذنب من وظّفوهم، نتيجة سياسات خاطئة من معظم الأطراف ولسبب الاحتراب السياسي والانقلاب الدموي في غزة وسيادة عقلية المنفعة الحزبية والتجييش والذي أدى لحصول هذا الأمر ما يجب معالجته بالحكمة وعلى قاعدة العدل والإنصاف والترفّق، وبما يتفق مع مقررات الاتفاقات الداخلية الفلسطينية وهدف الفصل بين الحزبي والوظيفي لبناء المؤسسة والدولة.
في ذات الاطار وفي ظل الخلافات المستعمرة تم استغلال قضية الموظفين بشكل حزبي بغيض ولمصالح شخصية غالبا ما تجيّر لصالح هذا الطرف أو ذاك، لندخل في المعطى الجديد الذي تجلى بإقدام عدد من كوادر حركة فتح الى القيام بفعاليات مناهضة للتوجهات الرسمية في الحركة أو السلطة، ما ولد نقمة حركية وردود فعل بقطع رواتب هؤلاء ليس باعتبارهم حركيين وإنما باعتبارهم موظفين لنعود لنفس الخلط الناجم عن مثل هذا الفهم.
كما لا يجوز لأعضاء في الأجهزة الأمنية أو العسكرية أن يخرجوا على قيادتهم بأي شكل من الأشكال، وإلا عُدّ هذا الأمر تمردا، فإن أي تحرك يأتي بهذا السياق وضمن عقلية أومفهوم بناء المؤسسات لا بد أن يحترم هذا المفهوم الملتزم بالمؤسسة.
إلا أننا ولسبب وقوعنا في المنطقة الرمادية بين فكرة أو عقلية الخلط المقصود وبين الفصل الكامل، علينا النظر للأمر بعين ثالثة فاحصة، فاللوم إذ لا يقع على الموظفين (الكوادر الحركيين) وإنما يقع على المستغلين، لهم وجب علينا من هنا ان نتعامل مع الموضوع بشكل مختلف ليس في حده الأقصى كما هو حاصل أي بقطع الاعناق، وليس بالتهاون وغض النظر كليا.
يحاجج الكثيرون بأن المنشقين عن حركة فتح بل والعملاء في جسد الثورة لم يتم معاملتهم أبدا بهذا الأسلوب، بل ظلت رواتبهم مستمرة ولم يتم قطعها باعتبارها حق لعائلاتهم وهذا ما حصل حقيقة، والنماذج كثيرة، ولكن المقارنة في المنطقة الرمادية تحتاج لكثير من الجهد ولكثير من التفهم ولكثير من الحوار والصبر.
لست بصدد وضع تصور نظري للفعل الصحيح، كما لست هنا بصدد التنظير لهذا الرأي أو ذاك أبدا، فالرأي الصحيح واضح وضوح الشمس وهو أننا يجب أن نتوجه لبناء الوطن والدولة وإن كان هذا على حساب التنظيم بالقطع، لكن العين الفاحصة غير المحكومة بمصالح حزبية أو تنظيمية سواء داخل حركة فتح، أو في “حماس” التي أحسنت استغلال الحدث واستخدامه سيفا على رقبة حركة فتح، هذه العين تستطيع الاستدلال على الجواب المطلوب في المنطقة الرمادية.
بكل وضوح ولكل ما سبق من حيثيات، يجب على قاطعي الأرزاق أن يكفوا عن نصب المشانق تماما، ويتفضلوا مشكورين بحل المشكل الذي تسبب بهذا الوضع، وليتفضلوا بإعادة الرواتب لأصحابها وإن أخطاؤا ولكن مع إنذار واضح واستقصاء وتوضيح مشدد ونهائي بضرورة الالتزام الوظيفي وفق نظام الخدمة العسكرية أو المدنية، والتقدم خطوات أبعد لسن قانون يجرّم ويحرّم الخلط بين الحزبي والوظيفي، فتصبح الوظيفة حق لكل مواطن مؤهل ولا تدخل في تجاذبات الساسة أبدا.
* مفكر وكاتب وأديب/ “دنيا الوطن”