في الرابع عشر من يناير/كانون الثاني 2011، عزفت تونس لحنها الثوري العذب، وتمايل الشعب طربا، تناغما مع ألحان لطالما اشتاق إلى سماعها عبر سنوات طوال. قبل هذا التاريخ الجليل، كانت قوافل الشهداء تسير خببا في مشهد قيامي مروّع، باتجاه المدافن، بعد أن حصد الرصاص المنفلت من العقال رقاب شبابٍ، تبرعم ربيعهم وأزهر في بساتين العمر الجميل. شباب تقدموا بجسارة من لا يهاب الموت، ليفتدوا تونس بدمائهم الزكية، ويقدموا أنفسهم مهرا سخيا لعرس الثورة البهيج.
كان محمد بوعزيزي أوّلهم، حين خرّ صريعا ملتحفا نارا بحجم الجحيم، ثم سقط من بعده شهداء كثيرون مضرّجين بالدّم، بعد أن أفرغ حفاة الضمير غدرهم في أجسادهم الغضّة. أجسادهم التي سالت منها دماء غزيرة. وفي تلك الأثناء، كانت الفضائيات بارعة، وهي تمطرنا بمشاهد بربرية دموية، لا يمكن لعاقل أن يصدّق وقوعها في بلدٍ، كان يزعم حاكمه أنّه من مناصري حقوق الإنسان.
قد لا أجانب الصواب، إذا قلت إنّ تونس استثناء، إذا ما قيست ببقية البلدان العربية، ولا سيما التي استنشقت، مثلنا، نسيم الحرية في ظل إشراقات ما سمي الربيع العربي، لكن روائح البارود سرعان ما انتشرت في أجوائها، ليرخي شتاء الخمول بظلاله عليها، ثم يحجب ربيعها وتتحوّل، تبعا لذلك، مدنها وقراها إلى مدافن ومداخن، حيث الموت طيف يُرى في الهواء، أو يتجوّل في هيئة قطيع من غربان.
قلت تونس استثناء، فهي ليست مصر ولا سورية ولا العراق، ولا هي اليمن، ولا ليبيا المتاخمة لحدودها شرقاً، بقدر ما هي أيقونة “الربيع العربي”، وهذا يعود إلى شعبها العظيم الذي أدرك بوعيه التاريخي، ونضجه العميق، أن التحول الديمقراطي الحقيقي لن يتحقق إلا بالإصرار على المسار السياسي، وإعلاء شأن الانتخابات، لا الانقلابات، مهما كانت أنواعها.
ومن هنا، لا يمكن نفي أهمية التجربة الانتخابية التونسية التي بدت، وعلى الرغم من كل العوائق، خطوة ناجحة لمواصلة السياق الديمقراطي الذي انخرطت فيه البلاد، واستعدادا جديا لدى القوى السياسية، للتداول على السلطة انتخابياً، مما يحمل الوافدين الجدد إلى الحكم مسؤولية كبرى في الحفاظ على هذا المنجز الثوري، وعدم الانجرار إلى رغبة الإقصاء الكامنة في نفوس بعض منتسبي الحزب الحاكم الجديد، لأنه حينها سيكون رد الشارع التونسي عنيفاً، وربما يفضي إلى دخول البلاد في فوضى، ليست قادرة على تحمل تبعاتها في ظل محيط إقليمي ملتهب، ووضع دولي تغلب عليه الحسابات والتجاذبات، فهذه الديمقراطية التونسية ولدت لتبقى وتتطور، وليست مما يمكن استغلاله للوصول إلى الحكم، والبقاء فيه نهائياً، فعصر الاستبداد انتهى زمانه في تونس التحرير.
أقول هذا، لأنّ تونس، ببساطة، استثناء، قياسا ببلدان عربية زارها على عجل الربيع العربي، ثمّ غادرها تاركا مكانه لنعيق المدافع ونباح الرشاشات. وعلى هذا الأساس، تحتاج تونس التحرير، وهي تستشرف المستقبل، بتفاؤل خلاّق، من يؤازرها، ويدفع بها في الاتجاه الصحيح، لكي تستكمل مسارها الانتقالي، تبني مؤسساتها الديمقراطية المنتخبة، وتمضي، بخطى ثابتة، نحو بناء صرح الجمهورية الثانية، بسواعد فذة، وفي إطار الهدوء والمحافظة على وحدتنا الوطنية والاجتماعية.
تونس، البلد الصغير بحجمه، والكبير بمنجزاته، تحتاج منا جميعا في المرحلة المقبلة، إلى الاستقرار، كي تهضم مكاسبها الديمقراطية التي أنجزتها في زمن متخم بالمصاعب والمتاعب. أنجزتها بخفقات القلوب ونور الأعين، وبدماء شهداء ما هادنوا الدهرَ يوماً.
تونس، اليوم، تصنع التاريخ، تصنع مجدها وحضارتها من جديد، ولا مكان فيها قطعاً للاستفزاز، التجييش، التشهير، التنابز والتراشق بالتهم.
أقول هذا لأنّ الوقائع بدورها تقول إنه ليس من السهل الارتداد بحركة التاريخ، التي انطلق قطارها من دون توقف. وعلى الرغم مما يعرض لها من تعطيل أو إرباك، فالشعوب ليست جمادات، وإنما كائنات فاعلة، طبقا لحرية أصلية فيها، بحيث “إذا كان ممكناً أن نملي مسبقاً ماذا عليهم أن يفعلوا، فإنه لا يمكن أن نتنبأ بما هم فاعلون، كما يقول كانط، ونار الثورة المقدسة التي أوقد جذوتها بوعزيزي، ذات يوم، لن تنطفئ، حتى وإن خفت نورها، لأن الأجيال العربية قد تسلمت مشعلها، وستحافظ عليها، مهما كانت الأثمان”. فهل نبرهن لها أننا أصحاب مواقف شامخة ونضالات فذّة، وأننا ما زلنا قادرين على استعادة حقوقنا السليبة والمستلبة، ومن ثم تجاوز رد الفعل إلى مختلف مجالات الفعل الهادف، الخلاق والمفتوح على كامل المفاجآت..؟
بإمكانك، أيها القارئ الكريم، وأنت تحتفي مثلي، تماماً، بنجاح المسار الديمقراطي التونسي، وتراقب “انطلاق أشغال” بناء الدولة العصرية بمنأى عن كل التجاذبات السياسية، وبعيدا عن كل أشكال زراعة الخوف والتخويف، أن توفّر عنّي مشقة البحث عن جواب.
*عضو بإتحاد الكتاب التونسيين/”العربي الجديد”