من تابع مسيرة التأييد الكبرى في باريس، التي بثتها القنوات الفضائية، والتي شارك فيها نحو(50) من رؤساء دول العالم-تضامناً مع الشعب الفرنسي، واحتجاجاً على الإرهاب الذي ضربها وإدانته- من تابع المسيرة لاحظ تصرفات رئيس الوزراء الإسرائيلي “بنيامين نتنياهو”، الذي لم يدع للمشاركة، بل أن اتصالاً جرى من قبل قصر الإليزيه، مع مكتب رئيس الحكومة الإسرائيلية، يطالب بعدم مشاركة “نتنياهو”، ففي البداية، أعلن مكتب “نتنياهو” أنه ولأسباب أمنية، لن يشارك “نتنياهو” في المسيرة، لكن بعد ساعات، وحين أعلن كل من الوزراء “أفيغدور ليبرمان”، و”نفتالي بينت” أنهما سيشاركان في هذه المظاهرة، تراجع “نتنياهو” عن عدم المشاركة وأعلن مشاركته، فهو لا يريد ترك الساحة الفرنسية لهذين الوزيرين، ويكون هو غائباً في وقت تشتد فيه المعركة الانتخابية للكنيست، التي ستجري في منتصف شهر آذار القادم، إلى هنا نستطيع القول بأن الأمر عادي، لكن تصنيف “نتنياهو” بالتواجد في الصف الثاني في المظاهرة، بينما صنف الرئيس الفلسطيني “محمود عباس” بالصف الأول، أفقد “نتنياهو” صوابه، فدافش للدخول إلى الحافلة الأولى التي تنقل كبار المدعوين من القصر، إلى مكان المظاهرة، هذه الحافلة التي خصصت للملوك والرؤساء، فصعد إليها وأراد استغلال انفجارات باريس، لأهداف سياسية وحزبية، وكأنه كان في حملته الانتخابية في إسرائيل، أخذ يلوح بيده ليحيي الجماهير المحتشدة، وبالغ في وقاحته المعروفة، دون أي خجل، مما اضطر مسؤول فرنسي –حسب جريدة “يديعوت احرونوت 12-1-2015”-للتصريح بأن المسؤولين الفرنسيين طلبوا من مكتب “نتنياهو” عدم القدوم إلى باريس، كذلك طال الغضب الفرنسي أيضاً كل من الوزيرين “ليبرمان” و”بينت”، خاصة لتحريضهم بدعوتهم ليهود فرنسا بالهجرة إلى إسرائيل.
لكن وقاحة “نتنياهو” لم تنته عند هذا الحد، إذ أنه –وحسب جريدة قضية مركزية الإسرائيلية “13-1-2015- احتال على رئيس دولة مالي إبراهيم أبو بكر كسيتا للوقوف في الصف الأول في هذه المسيرة، فتقدم من الصف الثاني في المسيرة إلى الصف الأول، وصافح الرئيس المالي مصافحة حارة، بينما لا معرفة بينهما، ولا وجود لعلاقة دبلوماسية بين إسرائيل ومالي، ودافش للوقوف إلى جانبه في الصف الأول، الذي يفصله عن الرئيس الفرنسي الرئيس المالي، بينما كان ترتيب وقوف الرئيس الفلسطيني بالصف الأول، يفصل بينه وبين الرئيس الفرنسي المستشارة ميركل، فالجهات الفرنسية الرسمية كانت شديدة الضيق من تصرفات “نتنياهو” الذي لم يدع أصلاً للمشاركة، مما أدى إلى موجة انتقادات في وسائل الإعلام الفرنسية التي أبدت الكثير من الاستخفاف به.
لكن لم تكن هذه الإهانة الوحيدة التي تعرض لها “نتنياهو”، فخلال زيارة الكنيس اليهودي في باريس، بحضور الرئيس الفرنسي “هولاند”، وعندما قام “نتنياهو” لإلقاء خطابه، غادر الرئيس الفرنسي الكنيس، لتجنب الربط بين المراسم الدينية مع رسائل “نتنياهو” السياسية والانتخابية، ومغادرة “هولاند” كان صفعة قوية في وجه “نتنياهو” الذي قال في كلمته: “إن الإسلام المتطرف لا يكره الغرب بسبب إسرائيل، لكنه يكره إسرائيل لأنها جزء من الغرب”، ومن حملة وسائل الإعلام الإسرائيلية، على تصرفات “نتنياهو”، التي أظهرت صورة الإسرائيلي غير المؤدب والفظ.
جريدة “يديعوت احرونوت 12-1-2015″، كتبت عن المشهد المحرج الذي بثه التلفاز الفرنسي، والذي يظهر فيه “نتنياهو” وهو ينتظر في الشارع الحافلة التي ستنقل القادة إلى المسيرة، وكيف سخر منه المذيعون ووصفهم محاولته الاندفاع إلى حافلة الزعماء الأولى، و”نتنياهو” الذي حاول تسويق الإرهاب الذي يتعرض له الأوروبيون، هو نفس الإرهاب الذي تعاني منه إسرائيل، غير أن الأوروبيين لا يشترون هذا التشبيه، وإذا كانت العملية الإرهابية على مجلة “شارلي إيبدو” في باريس، لنشرها صور ومواد غير مقبولة، تسيء إلى المسلمين، فإن إسرائيل حسب جريدة “هآرتس 9-1-2015” سبق وأن قامت بعملية إرهابية، ضد كاتب رأي يدعى “زئيف شترنهل” بسبب آرائه، وعدد آخر من الصحفيين والكتاب الإسرائيليين بسبب آرائهم، وفي كل يوم هناك تهديدات وتخوينات بسبب آراء وأفكار كتاب وتهديدات على حياتهم، ومن لا يتذكر رسام الكاريكاتير المشهور “ناجي العلي” الذي اغتيل في لندن عام 1987، وتم اعتقال عميل مزدوج للموساد، وتبين أن ثلاثة من الموساد طردوا من لندن على هذه الخلفية، وتم إغلاق القضية بصمت، وإذا كانت إسرائيل تتحدث عن الإرهاب، فسجلها حافل بالعمليات الإرهابية من اغتيالات وتصفيات، ومن إرهاب الدولة بقتل آلاف الفلسطينيين، كان آخرها عملية “الصخرة الصلبة”، بالعدوان على الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، وكما قال رئيس الوزراء التركي “أوغلو”، بأن “نتنياهو” ارتكب جرائم ضد الإنسانية مثل جريمة باريس.
إسرائيل استغلت ما حدث في باريس، بالعمل لتهجير يهود فرنسا إلى إسرائيل، وهذه سياسة قديمة معروفة في محاولة لتهجير يهود العالم كما حدث ليهود العراق وغير العراق ثم تحاول اعتبار هؤلاء المهجرين لاجئين، تطالب التعويضات لهم ولإلغاء عودة اللاجئين الفلسطينيين، بوضع المتفجرات لإرهابهم وحملهم على الهجرة، لكن إسرائيل محتارة في أمرها، ما بين التهجير، وبين البقاء ليشكلوا ثقلاً سياسياً ووجوداً مؤثراً في الساحة الفرنسية، ففي عام 2014 هاجر لإسرائيل سبعة آلاف يهودي فرنسي، ويتوقعون أن يهاجر هذا العام عشرة آلاف يهودي فرنسي، فنسبة الهجرة لإسرائيل ما زالت ضئيلة، فميزان الهجرة المعاكسة، من إسرائيل للخارج يزيد عن نسبة الهجرة إليها، وحسب جريدة “يديعوت احرونوت 14-1-2015″ـ فإن الحكومة الإسرائيلية ترى بأحداث فرنسا فرصة لتقوية الاستيطان بالأراضي الفلسطينية، وإسكان يهود فرنسا في هذه المستوطنات، وحسب جريدة “هآرتس 14-1-2015″، فإن الحكومة الإسرائيلية هي التي ضغطت على عائلات القتلى اليهود الأربعة لدفنهم في إسرائيل، ومع ذلك، وحسب جريدة “يديعوت احرونوت 13-1-2015″، فإن مؤسسة “كديش” التابعة لوزارة الأديان الإسرائيلية، المتخصصة بدفن الموتى، والتي قامت بدفن اليهود الفرنسيين الأربعة في المقابر الإسرائيلية، تطالب عائلاتهم، بربع مليون شيكل، مقابل تكاليف الدفن.
إن الإدعاء الإسرائيلي، بأن إسرائيل هي المكان الآمن ليهود العالم، لإقناعهم بالهجرة إليها، هي كذبة كبيرة، ففي كل بضع سنوات، تفتعل إسرائيل الحروب والمواجهات مع الفلسطينيين، ويقع المئات من جنودها ومستوطنيها ومواطنيها في هذه الاعتداءات، فقد بلغ عدد الإسرائيليين الذين قتلوا في هذه الاعتداءات، منذ إقامة إسرائيل، حسب الإحصائيات الرسمية حتى اليوم، أكثر من (24) ألف قتيل، إذن كيف يدعون أن إسرائيل المكان الآمن ليهود العالم؟ أم أنهم يريدون من هذه الهجرة، أن يكون المهاجرون وقوداً في اعتداءاتهم القادمة؟ فمدير عام اتحاد المنظمات اليهودية في فرنسا، الحاخام “مناحم مرغولين” رفض دعوة “نتنياهو” لهجرة يهود فرنسا، وقال:” يؤسفني أنه في أعقاب كل حادث “لاسامي” يقع في أوروبا، تحث الحكومة الإسرائيلية اليهود بالهجرة إليها”، كما اعتبر المسؤول الأول عن يهود أوروبا “جوزيف شوستر”، أن اليهود الأوروبيين لن يكونوا أكثر أمناً في إسرائيل، منهم في أوروبا في حالة هجرتهم، وذلك رداً على دعوة “نتنياهو” بتهجير يهود أوروبا لإسرائيل.
لقد أخطأ “نتنياهو” متعمداً بتحميل المسلمين مسؤولية الإرهاب، متجاهلاً أن الملايين من مسلمي أوروبا وفرنسا وألمانيا، وبريطانيا ليسوا إرهابيين، ويسعون للانخراط في المجتمعات الأوروبية، وتحريض “نتنياهو” بأن الإرهاب الإسلامي يهدد البشرية، وأنه يشارك مع زعماء العالم في النضال المتجدد ضد الإرهاب الإسلامي، وبأن الإسلام المتطرف في مواجهة الثقافة الغربية والمسيحية والديمقراطية، وقول “نتنياهو” بأن عدونا جميعاً هو الإسلام المتطرف، لكن المجلة تشارلي إيبدو بنشرها من جديد رسم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم هو الاستفزاز بعينه، ومن يريد منع إثارة المسلمين، عليه وقف مثل هذا الاستفزاز، لكن الرئيس الفرنسي “هولاند” قال لدى زيارته المعهد الثقافي العربي في باريس، أن العرب والمسلمين أكبر ضحايا الإرهاب والأصولية، فهذا أقوى رد على الاستفزازات ضد المسلمين.
وأخيراً … فإن الحكومات العربية والإسلامية مقصرة وعليها أن تتحمل مسؤولية نشر الرسوم التي تسيء إلى نبينا، بعدم قيامها أو فشلها في استصدار قرار من الأمم المتحدة، أو من الدول الأوروبية، باعتبار من يسيء إلى الأنبياء والرموز الدينية لجميع الأديان، جريمة يعاقب عليها القانون، كما نجحت الحركة الصهيونية، باعتبار كل من يشكك في المحارق النازية ضد اليهود، جريمة في أوروبا، يخضع للمحاكمة ويجرم.
*كاتب فلسطيني