أقرب إلى التفهم أن الأزمة بين الرباط وباريس فتحت ثغرة في جدار، نفذ منه الماء. وإذا كان التعاون القضائي الذي جرى تعليقه يعتبر من الواجهات التي تضررت، فإن البعد الأمني كان له وقع أكبر، بخاصة أن البلدين دأبا عند كل حادث إرهابي، يكون المغرب أو فرنسا مسرحاً له، على تكثيف جهودهما ذات الصلة بتبادل المعلومات والخبرات ورصد تحركات التنظيمات الإرهابية.
عندما تعرض فندق «أطلس- أسني» لهجمات أدت إلى مقتل سياح أجانب في مراكش، صدرت في الرباط اتهامات بضلوع خلايا يحمل أفرادها الجنسية الفرنسية، وهم من أصول جزائرية ومغربية، من دون أن يثير إقحام الجنسية الأجنبية أي تداعيات، على عكس ما وقع في العلاقة مع الجزائر التي آلت إلى إغلاق الحدود البرية التي ما زال مفعولها سارياً منذ أكثر من عقدين. والأهم في ذلك أن مجالات التنسيق المغربي – الفرنسي زادت متانة.
كذلك كانت الحال عندما تعرضت منشآت في باريس لهجمات إرهابية تورط فيها متهمون يتحدرون من أصول شمال إفريقية، فيما سار المغرب وفرنسا على طريق واحدة في الحرب على الإرهاب، ما جنّب الساحة الفرنسية مضاعفات أحداث خطيرة، عندما وضعها المغاربة في صورة التخطيط المسبق لشن هجمات. ولم يقتصر الأمر على هذا المحور بل تعداه إلى دول الفضاء الأوروبي، مثل إسبانيا وبلجيكا وهولاندا وإيطاليا وغيرها.
التأمل في مجالات وأبعاد ذلك التنسيق يدفع إلى التوقف عند قضية محورية، مفادها أن الرسوم والتصريحات المسيئة إلى الرسول محمد (صلى الله عليه وسلم)، شكلت بواعث متلاحقة في التخطيط لهجمات أجهضت قبل انتقالها إلى حيز التنفيذ. ما كان يعزز احتمالات تكرار سيناريوات مماثلة في الأهداف. فقد تبث من خلال الاستقراء والرصد أن الأعمال الإرهابية تركز على المعابد والرموز الدينية وممثليات البعثات الأجنبية والمنشآت الاقتصادية الحيوية، وهي إن كانت تدور في هذا الفلك فإن الرؤية الاستباقية تملي تتبع ذات الخيوط، وإن تغيرت الأسماء والوجوه وألوان التنظيمات الخارجة عن القانون.
هل كان ضرورياً أن تحدث المأساة، ليلتفت المغاربة والفرنسيون إلى المجالات الحيوية التي تحتم لقاء جهودهم، وتطوير تعاونهم المفتوح على آفاق أرحب؟ ليس الأمر بهذه الفرضية، فالأزمة بين باريس والرباط وقعت في غفلة عن كل التنبؤات. وثمة سوابق تؤكد أن هذا المحور لم يتأثر بتغيير الحكومات. فقد تجاوزت الرباط وباريس أكثر الخلافات تعقيداً في نطاق توجيه اتهامات حول عدم احترام قضايا حقوق الإنسان خلال حكم الرئيس الاشتراكي الراحل فرنسوا ميتران، ولم يكن هناك من داع لمعاودة نكء جروح قديمة، في ظل السعي المتواصل للرباط لتحسين سجلها في هذا النطاق، أقله الإقرار بأن البلاد اجتازت ما يعرف بسنوات الرصاص، ثم طوت الصفحة بهاجس عدم تكرار سلبياتها.
أبدى المغاربة تفهماً حيال انضباط الرئيس فرانسوا هولاند لترتيبات جديدة، تطاول العلاقة مع دول النفوذ التقليدي لفرنسا في الشمال الإفريقي، ولم تخلف زيارته إلى الجزائر قبل الرباط أي ردود فعل غاضبة، لأن هناك قاعدة تتحكم في التوجهات الفرنسية، أساسها أن العلاقة مع الرباط لا تكون على حساب الجزائر، والانفتاح على هذه الأخيرة لا يكون موجها ضد المغرب. غير أن ذلك لم يحل دون وقوع هزات ارتجفت خلالها العلاقات التقليدية المتميزة، من قبيل توجيه استدعاء إلى المسؤول الأول في الاستخبارات الداخلية المغربية عبداللطيف الحموشي أثناء زيارة رسمية إلى باريس، وصلت إلى حد إرسال قوات الأمن إلى مقر إقامة السفير المغربي، ثم تبعها تفتيش مهين لوزير الخارجية المغربي صلاح الدين مزوار أثناء عبوره مطار أورلي، من دون اعتبار حصانته الديبلوماسية.
كان الموقف المغربي أقرب إلى رد الفعل الذي يحدث عند استشعار أي مخاطر، إلا أن تعليق التعاون القضائي انسحب على مجالات أوسع، شملت كذلك التعاون الأمني. ولم تكن التصريحات الصادرة بهذا الصدد عن الرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي، الذي عمل وزير داخلية، والوزير شارل باسكوا الذي يعتبر من خبراء الملفات الأمنية، بعيدة عن ترجمة الرغبة في معاودة مد جسور التعاون. وما دام المغرب ليس خصماً معنياً بصراعات الأوضاع الداخلية في فرنسا، يصبح الإصغاء إليه دليل انفتاح، وبهذا المعنى فالحوار بين البلدين يرتدي أهمية مضاعفة، ليس أبعدها أن الطريق تصبح سالكة، وإن لتبادل مشاعر العتب، كونه بداية السبيل لانقشاع السحب التي تلبد سماوات البلدين.
*كاتب صحفي/”الحياة”