حدّثني دبلوماسي غربي، بعد فترة وجيزة من خروج بن علي من السلطة في تونس، وقال متأسفاً “من معضلات الثورات العربية أنها اندلعت في ظرف تواجه فيه أوروبا، والغرب عموماً، أزمة مالية واقتصادية هيكلية، ومرشحة لكي تطول”. وقد يعكس هذا الرأي نوعاً من الوصاية المتوارثة، لكنه يحمل درجة عالية من الحقيقة. فالأزمة التي أشار إليها الدبلوماسي، واندلعت شرارتها الأولى في الولايات المتحدة، لا تزال تفعل فعلها في معظم بقاع المعمورة، وانهيار اليونان والمخاطر التي تهدد البرتغال وإسبانيا، والمؤشرات السلبية الخطيرة التي تواجهها بلجيكا وفرنسا وإيطاليا، أمثلة من سلسلة حالات لدول غربية مأزومة، توحد بينها اقتصادات هشة، لم تغادر بعد عنق الزجاجة.
ما لم يدركه كثيرون أن الغرب، عموماً، تراجعت قدراته الاقتصادية والسياسية والأمنية، مقارنة بأوضاعه في مراحل سابقة. وهو ما لاحظه غسان سلامة، عندما تحدث عمّا وصفها بأقلمة السياسة، ويقصد الدور المتزايد للدول الإقليمية، على حساب الدول الكبرى التي انحسر دورها أخيراً. فيتسع، حاليّاً، الحضور الإيراني والتركي في المشرق العربي، لملء الفراغ نتيجة انهيار نظام صدام حسين، وتراجع نظام الأسد، والتغييرات في السياسة الخارجية الأميركية في مرحلة حكم أوباما، وانكماش سياسات الاتحاد الأوروبي.
في هذا المنحدر الصعب، تصاعدت حركات الاحتجاج العربي، وأطاحت خمسة حكام مستبدين، ما خلخل النظام الإقليمي السابق، وكشف عن رغبة شعبية في تغيير الأوضاع والسياسات والوجوه والأهداف. لكن، بدا، منذ اللحظات الأولى، أن القوى المحلية التي كانت في المعارضة، أو كانت مهمشة، ليست قادرة على ملء الفراغ، والاعتماد على نفسها للعب دور المنقذ والبديل. فعمدت هذه النخب، منذ البداية، إلى التوجه نحو أوروبا وأميركا لطلب المساعدة، من أجل إعادة ترتيب البيت الداخلي. كان خطاب الدول الغربية براقاً وجميلاً، وقدمت وعوداً عريضة، بعنوان دعم الربيع العربي، واعتبرت أن الفرصة توفرت لبناء شراكة فعلية وحقيقية مع هذه الدول. وتكفي الإشارة إلى مشروع “دوفيل” الذي وضع على عجل، وتضمن أشكالاً متعددة من الدعم. لكن، سرعان ما تراجعت النيات والحسابات، لتجد الدول التي يفترض أن تكون المستفيدة تستمر في التخبط في مشكلاتها المحلية، من دون سند حقيقي خارجي.
هنا، عدلت النخب الجديدة في مسعاها للبحث عن دعم من خارج المحاور الغربية، من دون أن تتخلى عنها، فاتجهت إلى العواصم الإقليمية، لكنها سرعان ما اكتشفت أن هذه العواصم ليست صيدليات مفتوحة لتوزيع الأدوية مجاناً، وإنما لها أولوياتها ومصالحها وارتباطاتها وشروطها. كما أن لهذه العواصم تقييماتها المختلفة للمتغيرات المفاجئة التي هزت المنطقة. فهي ليست مع الثورات التي أفقدتها حلفاء قدامى موثوق في ولاءاتهم، وقذفت على السطح بقوى جديدة، تتحدث لغة مختلفة، وتريد أن تغير من قواعد اللعبة، وإنْ ينقصها القدرة والخبرة والذكاء السياسي والوضوح الاستراتيجي. وهكذا، بدل أن تكون هذه الأطراف الإقليمية قوة مساعدة على تحصين فرصة تحقيق تحول ديمقراطي سليم وفعال، تحولت إلى أطراف لاعبة داخل المربعات الوطنية، ما زاد من التحديات، وضاعف تعقيدات الأوضاع المحلية، وفتح المجال أمام سيناريوهات تهدف إلى العمل على إيقاف ساعة الزمن، وإرجاعها إلى الخلف.
هذه أحد مآزق تواجهها الثورات العربية، وجدت نفسها غير قادرة على الفصل بين العامليْن، الداخلي والخارجي، بحكم ضعفها البنيوي. ولأن للخارج منطقه الخاص، وآلياته التي يستند عليها لتحقيق الاختراق والولاء وتغيير الأوضاع لصالحه، فإنه، في غياب تحصين الداخل، باعتباره الفضاء الحيوي والاستراتيجي، يصبح الانفتاح على الخارج، وهو ضروري في ظل الإمكانات الفعلية لهذه الدول، قادراً على أن يتحول إلى تهديد جدي للأوطان، ويصبح شيطاناً في وجه ملاك، يبيع السموم في شكل دواء نافع وعاجل، وهو ما تتقنه جيداً خطابات المناورات الدبلوماسية.
*”العربي الجديد”/كاتب تونسي