“النهضة” تساند المرزوقي وتُقبّل جبين السبسي

بعد انتخاب الشيخ عبد الفتاح مورو نائباً أوّل لرئيس البرلمان التونسي الجديد، اتّجه مراقبون إلى تحميل الحدث أكثر ممّا يحتمل، واعتقدوا أنّ تحالفاً بين حركتي النهضة “نداء تونس” آخذ في التشكّل، على نحو قد يؤدّي، لاحقاً، إلى الدخول في حكومة وحدة وطنيّة، لا تستثني الإسلاميّين، باعتبارهم القوّة الثانية التي أفرزتها نتائج الانتخابات التشريعيّة. وفي السياق نفسه، كثر الحديث عن الترويكا الجديدة التي ظهرت ملامحها في الثالوت الذي يرأس البرلمان، ويضمّ مع “النداء” و”النهضة” حزب الاتحاد الوطنيّ الحرّ.
لكنّ “الحكمة والسياسة نادراً ما تسيران معاً في الطريق نفسه”، كما يقول الأديب النمساويّ، ستيفان زفايج، ما يجعل القراءة المنطقيّة السابقة مجرّد تخمينات وفرضيّات، قد تعصف بها توافقاتٌ مغايرة لما يُتوقّع ويُنتظر.
ومع بداية الحملة الانتخابيّة الجديدة، استأنف المترشّحان نشاطهما الدؤوب للتواصل مع التونسيين، غير أنّ الأنظار لا تتجه إلى ذلك الحراك الميدانيّ، بقدر الانتباه الموجّه إلى مواقع القرار في مقرّات الأحزاب والقوى السياسيّة الكبرى، مثل حركة النهضة والجبهة الشعبيّة اللّتيْن اتفقتا (من دون سابق تنسيق) على تأجيل الحسم في مساندة أحد المترشّحين، أو اتخاذ الحياد جُنّةً ووقايةً من تداعيات المناصرة المعلنة لقايد السبسي، أو المنصف المرزوقي. والثابت أنّ تلك التداعيات ستورّط المغامرين الذين يخطئون الحساب في القوى الثلاث التي تتجه إليها الأنظار: النهضة والجبهة والنداء. والثابت، أيضاً، أنّ حركة النداء تورّطت، بالفعل، قبل غيرها، لأنها لم تستفد، إلى حدّ كتابة هذه السطور، من تقدّمها في التشريعيّة، ولم تحصل على المساندة التي تريدها لمرشّحها، قايد السبسي، بسبب ما ظهر في خطابها من تردّد ومناورة مفضوحة، أفرغت بعض المصطلحات من مفاهيمها الإجرائيّة. فبعد حديثها عن “تحالف” ممكنٍ مع حركة النهضة، أو الجبهة الشعبيّة، تراجعت قيادة النداء بسرعة، ونزلت بوعودها الخطابيّة إلى مستوى “التنسيق والتشاور”، لتُرضيَ الغاضبين من زعاماتها اليساريّة المتطرّفة، ومن الجبهة الشعبيّة التي تشترط إقصاء “النهضة” عن الحكم، ومن “النهضة” التي تستفيدُ من ذلك المشهد، حيث يتخبّط خصومها بسبب الدوران في فلكها، والخضوع لجاذبيّتها، راضيةً كانت، أو راغمةً.
ولأنّ حركة النداء تريد الحصول على كلّ شيء في مقابل بخس، أو بمجرّد وعود تفتقر إلى ضمانات وتطمينات، استعانت، في الآونة الأخيرة، بوسائل الإعلام الموالية لها. فظهرت في المنابر الإذاعيّة والتلفزيونيّة، وعلى أعمدة الصحف، مواقفُ مساندةٌ للباجي قايد السبسي، من شخصيّاتٍ تنتسب إلى الأحزاب اليساريّة الصغيرة التي لا يحقّ لها التكلّم بلسان الجبهة الشعبيّة، على الرغم من الانتماء إليها، الأمر الذي أربك الجبهةَ، وأغضب قياداتها، فسارعت إلى نفي ذلك التوجّه، مؤكّدة على لسان زهير حمدي، أحد أمنائها، أنّ “تأخير الإعلان عن موقف الجبهة ليس نتيجة خلافات، بل هو قرارٌ إراديّ، لأنّنا لسنا ملزمين بإصدار مواقفنا، تحت ضغط الآخر”.
وفي سياق تلك المناورات، أو المؤامرات التي تتعامل بمنطق الابتزاز المفضوح، طلب الندائيّون من حركة النهضة إثبات “حيادها المزعوم”، بسحب المراقبين المنتسبين إليها من مكاتب الاقتراع، “ما يطرح عدّة تساؤلات حول نزاهة الدور الثاني من الانتخابات الرئاسية”، كما علّق عدنان منصر، باستغراب شديد أمام تلك الطلبات التي من شأنها أن تشكّك في ديمقراطيّة المشرفين على حملة قايد السبسي.
ولا تبدو حركة النهضة خاضعة لضغوط الندائيّين، أو معنيّة بإثبات حيادها على الشاكلة التي طلبوها. لذلك، أكّدت، في بيان مجلس الشورى، الذي انعقد يوم السابع من ديسمبر/كانون الأول الجاري، على “دعوة أبناء الحركة، وعموم الناخبين في الداخل والخارج، إلى المشاركة المكثّفة في الانتخابات، والحرص على سلامة العمليّة الانتخابيّة، وتأمين نزاهتها وشفافيتها”، وحرصت على توضيح موقفها بخصوص مواصفات الرئيس المقبل، فدعت “أبناءها وعموم الناخبين الى انتخاب المرشّح الذي يرونه مناسباً لإنجاح التجربة الديمقراطية، وتحقيق أهداف الثورة”. وهي، بذلك، تعلن مساندة لا لبس فيها للمنصف المرزوقي، باعتراف أنصارها وخصومها، ومنهم صحفيّون وقعوا في فخّ البيان، واعتبروا أنّ حديثه عن الديمقراطيّة وأهداف الثورة يلمح إلى المرزوقي، فساهموا، من حيث لا يشعرون، في الاعتراف برمزيّته إلى تلك الأهداف السامية، في مقابل نفيها عن قايد السبسي.
وبهذا البيان الذي كُتب برويّة، حتّى لا يساء فهمُه أو تأويله، تقدّم حركة النهضة مفهومها الخاصّ عن الحياد الذي تتبنّاه في هذه المرحلة، باعتباره ميزاناً لقياس حقيقة موقفها من المتنافسين على رئاسة البلاد. فلا يُفهم الحياد لديها بأنّه الوقوف في منطقة وسطى، أو على المسافة نفسها من المترشّحين. وهو، في هذه الحالة، حياد شفّاف يكشف بوضوح عن خلفيّة تنسجم مع المواقف المبدئيّة للنهضة التي قرّرت أن تكون أقرب إلى المنصف المرزوقي، لينتصرَ، وتنتصرَ معه الديمقراطيّة في تونس. وهذا الموقف المنحاز بلطف قد يؤثّر على مصالح الحركة، وعلاقتها بنداء تونس، وزعيمها قايد السبسي. ولكنّ السياسة على مذهب نابليون الثالث تقتضي مواجهة تلك المواقف بتسامح، عبّر عنه بقوله المأثور “في السياسة، علينا أن نعالج الآلام لا أن ننتقم لها”. لذلك، نتوقّع أن يحظى قايد السبسي في صورة هزيمته بقبلة على جبينه، مثلما حدث مع مرشّحة الجبهة الشعبيّة لرئاسة البرلمان التي انهزمت في الوصول إلى المنصب المنشود، فقبّلها الشيخ عبد الفتاح مورو لتسكين آلامها. وحسناً فعلْ! وهو مطالب بقبلة أخرى، ولو على عجلْ.

* كاتب تونسي/”العربي الجديد”

اقرأ أيضا

الصحراء المغربية

منزلقات تأويل موقف روسيا من المينورسو

أثار التصويت على قرار مجلس الأمن الدولي بخصوص التمديد لبعثة المينورسو جدلا كبيرا في مختلف …

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *