يبدو أن المشهد الليبي رجع إلى نقطة ما قبل إعلان التحرير في أكتوبر/تشرين الأول 2011، فتسارع وتيرة الأحداث جعل النظام السابق يحسم خياراته لصالح استراتيجية الإحلال الوظيفي، متناغماً مع ما يحصل في الجارة مصر؛ ليكون خليفة حفتر على رأس منظومة معمر القذافي التي ستعود، بكل أفرادها الذين قمعوا الثورة فجر انطلاقتها. فلقد استطاع الجنرال المتقاعد حفتر لملمة جزء من منظومة النظام السابق، الأمنية والعسكرية والاجتماعية السابقة (القيادات الشعبية)، لمواجهة ما أسماه القذافي في خطابه التاريخي، إبان انطلاق ثورة فبراير، تمرد الجماعات الإرهابية.
تطور مشروع حفتر من كونه عملية عسكرية (عملية الكرامة) للقضاء على “الإرهاب”، في مدن بنغازي ودرنة، إلى مشروع لإعادة الحكم للمنظومة الأمنية والعسكرية في ليبيا. وبهذا التحول، باغت حفتر الليبراليين المعارضين للقذافي، والمنشقين عنه، من أمثال وزير خارجيته السابق، عبد الرحمن شلقم، الذين أسسوا بعد إعلان التحرير في أكتوبر 2011 حزب تحالف القوى الوطنية، فتم تحويلهم من كونهم طرفاً سياسياً إلى داعم سياسي لمنظومة حفتر، ومشروعه للسيطرة والحكم.
لم يكتب لمشروع التيار الليبرالي (التحالف سابقا) النجاح، وتعثر المشروع الإماراتي الذي سخر الآلة الإعلامية والديمقراطية المشوهة لإقصاء (الإسلاميين)، وفشل الوزير السابق، محمود جبريل، في الوصول إلى سدة الرئاسة، فجاء تطور الأحداث بما لا تشتهيه توجهات الليبراليين، وتحولوا إلى عرابين لعملية الكرامة وسفراء لها؛ سعياً إلى حشد الدعم السياسي والعسكري.
أما الإسلاميون فقد وصل رهانهم إلى طريق مسدود، فلم تنجح كل محاولاتهم في الشراكة مع الليبراليين للحكم في ليبيا، وأضحت مرتكزاتهم الفكرية محل نقاش، ولا يمكن العمل بها في المرحلة المقبلة.
حدد التيار الإسلامي استراتيجيته بعد الثورة، بثلاث مرتكزات رئيسة، يمكن اعتبارها محددات للسياسات العامة لهم، بعد إعلان التحرير. الأولى، مدنية الدولة وديمقراطية نظامها السياسي. والثانية، التغيير يقوم على إصلاح الدولة الأمنية والعسكرية والمحافظة على هياكلها ونظامها العام، والثالثة المسؤولية الوطنية عن الاستقرار، والحرص على عدم جر البلاد نحو الفوضى.
لم تحمل الممارسات الديمقراطية (صندوق الاقتراع) إجابات منطقية عن أسئلة الثورة (الحرية والعدالة)، بل كانت عاملاً لكسب الوقت، وتنظيم الصفوف لجميع الأطراف، من غير أي مساعٍ جدية لطرح مشاريع سياسية واجتماعية، تجيب عن أسئلة المرحلة، وصولا إلى التغيير.
أخطأ الإسلاميون في تصور مفهوم الديمقراطية، واعتبروها غاية في حد ذاتها، ومرتكزاً لعملية التغيير، في وقت كانت تعاني فيه البلاد انتهاك السيادة وشروخاً اجتماعية، وحرباً خفية على التدين، وسمحت الأموال الفاسدة، سواء التي كانت تأتي من الحكومة، أو من الخارج، في تزوير إرادة الناس، والتلاعب بعقولهم، في جل الاستحقاقات الانتخابية.
وقع التيار الإسلامي الذي شارك في العملية السياسية بعد الثورة في فخ شبكات وعلاقات المنظومة السابقة، ومع مرور الأيام، أضحى من وصل منهم إلى مؤسسات السلطة جزءا من المنظومة العدمية السابقة التي لا تقدم حلولاً للتغيرات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية.
وعلى الرغم من قبول الإسلاميين المنشقين عن النظام السابق، وعودة من تبقوا من منظومته، الأمنية والعسكرية، إلا أن نتائج العملية السياسية (انتخابات مجلس النواب) قامت على إقصاء هذا التيار، واستدعت الرواية التاريخية والرؤية النمطية التي تعتبر الإسلاميين واجهة سياسية للإرهاب، على حد زعمهم، وراعياً له.
لا يمكن تصور نجاح أي محاولات للحوار، أو التسويات السياسية، لا تأخذ في الاعتبار التغييرات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، كما أن إطار الدولة الأمنية والعسكرية لن يستوعب الاختلافات في المجتمع، إذا ما اعتبرنا أن جزءاً من الصراع، الدائر الآن، هو بين الثوار من أبناء المدن والمنظومة السابقة التي استغلت الحاجات الاقتصادية لأبناء مناطق الدواخل، وأوهمتها بالحرب على الإرهاب والتطرف.
تبدو فرضية الاستقرار وإمكانية تحقيقه بعيدة في هذه المرحلة، فالمنطقة تمر بحالة سيولة وتغيير جوهري، ولن تستطيع الدول الكبرى، ومن ورائها إسرائيل، في استيعاب تلك التغيرات؛ لأنها تتحرك وفق أفكار حاكمة تاريخية للمنطقة، جاءت عقب انتصار الحلفاء في الحرب العالمية الثانية، وتأسيس منظمة الأمم المتحدة.
ربما نجحت تلك الدوائر، مؤقتاً، في قمع الانتفاضات الشعبية، والسكوت عن الانقلابات وما خلفته من انتهاكات واعتداءات صارخة ضد فئات واسعة من المجتمع، لكنها فشلت في بناء نظام سياسي، يستوعب التغيرات الاجتماعية، ما يعني فتح المجال واسعاً لدخول الإرادة الشعبية في العملية السياسية، وتحررها من ربقة أجندة الدول الكبرى وحلفائها في المنطقة.
صفوة القول إن الحاجة تبدو ملحة لإطلاق مشروع حقيقي، يؤسس لبناء الدولة، يستوعب المتناقضات والخلافات داخل المجتمع، ويعبر عن الهوية الإسلامية بشكل حقيقي، ولا يمكن أن يكون المشروع مقتصراً على جانبه السياسي فقط، بل يتجاوزه إلى أبعاد أكبر، تساهم في التغيير، وتطرح حلولاً عملية، وإجابات منطقية وعميقة لأسئلة الواقع.
*كاتب صحفي ليبي/”العربي الجديد”