إذا كانت الانفجارات التي حصلت في تونس، قبل ثلاث سنوات، قد أطاحت نظام بن علي، فقد ترتبت عنها فترة انتقالية، لم تكن مختلف أوجهها متوقعة بصورة تامة، بل خضعت لشروط ومعطيات، بعضها كان جزءاً من الحدث الذي أعلن رحيل الطاغية وأعوانه، وبعضها الآخر يمكن إدراجه وتعقّله، في سياقات الحدث الثوري، الإقليمية والدولية، وملابسات مَكْرِ التاريخ التي تَرْبِطُ الحدث بالمحتملِ والمُمكنِ والعارضِ، بحسابات لا نملك دائماً القدرة على ضبطها، ولا التأكد من احتمال حُصُولِها، على الرغم من أنها تُعَدُّ بشكل أو بآخر، وانطلاقاً من حسابات التاريخ، في قلب الحدث.
لا يملك متابع مسلسل تطور الأحداث في تونس إلا أن يسجل نجاح الفاعلين في المشهد السياسي على تخطي لحظات التوتر العديدة التي حصلت في تونس، بعد وصول التحالف الثلاثي إلى رأس السلطة، إثر انتخابات 2011. فقد وقفنا، في المرحلة المشار إليها، أمام لحظات انسداد مخيفة، حَوَّلَت المشهد السياسي إلى معسكرين متباعدين. وترتب عن الانسداد المذكور خوف بعضهم من ضياع مكاسب مجتمعٍ، تروم وجهته التاريخية العامة التحرر من قيود في الذهنيات، وأخرى في المجتمع. كما ترتبت عنها صعوبات جعلت المجلس التأسيسي غير قادر على إتمام مشروع الدستور، وكان منتظراً أن يُعِدَّ مشروعه في فترة لا تتعدى سنة. والأدهى أن الانسداد المذكور أدى إلى سقوط شهداء من الفاعلين في المشهد السياسي، وبروز ظواهر إرهابية، ساهمت في زعزعة درجة الأمن والأمان في المجتمع.
وسيذكر التاريخ، لاحقاً، أن تونس تخطت الانسداد المشار إليه، بفضل خيار الحوار الذي رعته منظمات مدنية، مشهودٌ لها، من ألوان الطيف السياسي في المشهد السياسي التونسي، بالوطنية والرسوخ في بنيات المجتمع التونسي، وتنظيماته المدنية، ومشهودٌ لها، أيضاً، بانحيازها للثورة ومآثرها.
ترتب عن الحوار خيارات سياسية كبرى، تمثلت في الإسراع بإكمال إعداد دستور جديد، على الرغم من أن الأمر لم يكن سهلاً، ولا متيسراً. كما ترتب عنه قبول أجندة تقضي بإنجاز الانتخابات التشريعية، ثم الرئاسية، في آجال محددة، وإطلاق الجمهورية الثانية في تونس بصورة لا رجعة فيها. صحيح أن الأجندة التي وضّحنا تمتلك طابعاً سياسياً، إلا أن أحداً لا يستطيع إنكار أهميتها، في باب تخطي ورطة الانسداد الذي حصل.
تسمح لنا التوضيحات السابقة بالتأكيد على نجاح النخب السياسية في تونس، في تخطي مأزق الانسداد الذي ولَّدَته معارك سرديات الخطاب السياسي الاستقطابي، المحافظ منه والحداثي. كما أن نجاح الحوار في التأسيس للشرعية الديمقراطية مُجَدَّداً، بعد كل العثرات والمآزق التي حصلت، ساهم في التأكد من قدرة الفاعل السياسي في تونس على تخطي أحكامه السياسية القبلية المغلقة، وسعيه إلى التدريب على التعايش في قلب الاختلاف، والاحتكام، أولاً وقبل كل شيء، في موضوع الحكم، إلى صناديق الاقتراع.
وما جرى، أخيراً، في الانتخابات التشريعية والرئاسية، على الرغم من كل المآخذ التي سُطِّرَت عن الحدث، يؤكد أن اختبارات التاريخ ما تزال متواصلة داخل مجتمع ما بعد الثورة في تونس، حيث يَنخرط الفاعلون السياسيون في التمرس بقواعد العمل الديمقراطي، يجربون الفوزَ والهزيمةَ بدرجات، كما يتدربون في محافل النقاش العمومي داخل قنوات التلفزة، وفي الاجتماعات المغلقة والمفتوحة، على فضيلة التمرس بالقدرة على ضبط زمام النفس في أثناء مجادلة الآخرين، والسعي إلى الدفاع عن المواقف أمامهم. وفي قلب التمارين الحوارية، واللحظات الخطابية، يحصل تدريب النفس على المجادلة والإقناع، وعلى الصمت والكلام، كما تحصل العناية باختيار التعابير، المجازي منها والصريح، وكذا التمرس بتلوين المواقف ونقائضها بالكلمات المناسبة، ومن دون حرج. ولن تتم كفاءة تملُّك آليات ما ذكرنا من دون دُربةٍ، ومن دون عملٍ مؤطَّر بمساطر وقوانين وإجراءات يحتكم إليها الجميع، وتفصل بينهم، عند حصول خلافات محددة. وبفضل ما ذكرنا، يَلج الفاعلون السياسيون ساحة الجدل الديمقراطي والممارسة السياسية الديمقراطية.
ندرج ما حصلَ ويحصلُ، الآن، في الانتخابات التونسية، التشريعية والرئاسية، في باب ولوج الطريق الديمقراطي. ومن يتابع الجدل الذي واكب الانتخابات المذكورة، يتبين أن الإشكالات التي تطرح بين الأطراف المتصارعة داخل المشهد السياسي تعد بسيطةً عندما نقيسها بمخاطر الانسداد التي حصل في السنوات الماضية. إن عزوف الشباب عن الفعل الانتخابي مثلاً، وهو تشخيص يتكرر في أحاديث المحللين، يعتبر أمراً قابلاً للتعقل، مثل الأوراق الملغاة من صناديق الاقتراع. إنهما معاً، في نهاية التحليل، يعبران عن خيار سياسي من بين خيارات أخرى حصلت. أما استعمال المال والإعلام بطريقة غير مشروعة، أو استمرار تحكم آليات الاستقطاب الثنائي، بصيغها القديمة، فكلها قضايا قابلة للفهم، وقابلة للبحث عن إجراءات للحدِّ من آثارها على الانتخابات ونتائجها.
سيحصل، مستقبلاً، تقدم في تدبير المؤاخذات والنواقص المسجَّلَة في انتخابات 2014، فمن مزايا اللعبة الديمقراطية التي يرضَى عنها الجميع، ويتجه الجميع إلى وضع إجراءاتها التطبيقية والقانونية، أنها ستؤدي، في المستقبل القريب، إلى تصحيح ثغرات كثيرة حاصلة، شريطة أن يتخطى جميع الفاعلين الطور الانتقالي الجاري بنجاح، ويضعوا المساطر المناسبة لبنية مجتمعهم السياسية والحزبية، من دون إغفال تطلعات مجتمعهم، والشروط العامة التي تؤطرها. وفي المشهد السياسي التونسي ونتائج انتخاباته ما يكشف أن ورطة الديمقراطية أصبحت، اليوم، فعلاً مؤكداً، على الرغم من أن الوعي بأهميتها، مقارنة مع أقنعة الديمقراطية في سنوات الاستبداد والفساد، لم يحصل بعد.
* محاضر في جامعات ومؤسسات بحث في المغرب وخارجه /”العربي الجديد”