دخلت المحكمة الوطنية في مدريد، لأتابع صحبة زملاء من مراسلي الوكالات والصحف المحلية والأجنبية، مقاضاة عدد من كبار المسؤولين متهمين بالارتشاء واستعمال المال العمومي في أغراض شخصية وما إلى هذا من تشعبات. ما إن اجتزت عتبة القاعة حيث الزملاء، فإذا بزميل شيلي، ترافقنا عند متابعة التحوّل المثالي الذي حققته أسبانيا، إثر موت الفريق فرانشيسكو فرانكو الذي قبع بالحديد والنار على صهوة البلاد أكثر من أربعين عاما. كانت الشيلي هي الأخرى تحت نير بينوتشي، وكانت تونس تحت حكم الرجل الأوحد والحزب الأوحد والرّأي الأوحد، فقاربت أوضاع بلداننا بيننا وصرنا، مع زميلين من الجمهورية الفضية –الأرجنتين حسب بعضهم– أكثر تقاربا، مما نحن عليه مع الآخرين. عاد زميلي إلى وطنه عند تغيّر الأوضاع في بلاده، بطلب من ميشال باتتشيلي التي تولت رئاسة الجمهورية، لانتسابه إلى نهجها وسابق اتصاله بها.
وها هو الآن بيننا من جديد، في مهمّة إعلامية لا أدري كم ستسمح له بالبقاء بين ظهرانينا. دخلت بهو الانتظار فما إن رآني حتى صاح لي قائلا: ظننتك أحد النيف والعشرين، مشيرا إلى عدد مرشحي الرئاسة في تونس وضخامته. قلت ليس لي الحق في الترشح. قال لماذا؟ قلت لكبر سنّي. قال بين المرشحين من يفوقك سنا. قلت يتمتّع بالتجربة. قال تجربة نظام مناف تماما للنظام الذي تطمحون إليه، وتعملون لإرساء قواعده. قلت لست سياسيّا. قال الآن جئت بالحق فاقتنعت لأنك وطنيّ لا تتوفر فيك صفات السّياسي.
تركنا المزح ودخلنا الجدّ فقال لي: لا أزال أذكر كلّ ما شرحته لنا، أنا وأرماندو، عن نضالكم في تونس، وكيف استطعتم بفضل التكتّل، والتجرّد، والإخلاص وتوحيد الهدف والكلمة والصفوف، طردَ المستعمر بأبخس أثمان التضحية، وكيف بنيتم دولة عصرية. وإن أنسى فلن أنسى اسمي رجلين من رجالاتكم، ثامر، وحشاد، لما ذكرت من خصالهما التي لا يتحلّى بها السياسيون. استطعت أن أجد ما يقرأ عن حشاد، لكني لم أحصل على شيء يزيدني معرفة بالحبيب ثامر. قلت لا تتعب نفسك في البحث، فهو من المغضوب عليهم. ضحك وسألني عن الأوضاع حاليا لأن تونس، على ما أسمع وأقرأ، وقفت على عتبة نظام ديمقراطي وستلجه بنجاح دون شك. قلت هي الآن أمام الباب، لم تضع قدميها على العتبة، ثمّ إن الباب مغلق، عليها فتحه والتأكد ممّا وراءه. حمّلق الزميل في وجهي فاغر الفم وقال: أعذرني لعدم استطاعتي مسايرتك. إنّ ما أعلمه هو أنه تمّ وضع دستور تقدّمي تحسدون عليه، وجرت انتخابات تشريعيّة وصفت بالشفافة والنزاهة، وما إن تتمّ الانتخابات الرئاسية حتى تكون المرحلة الانتقالية قد ولّت، فتدخلون العهد الجديد.
قلت نظريا كلّ ما تفوهت به صحيح وواقع. لكن، هل الدستور غاية في ذاته أم وسيلة. والوسيلة هل نجاح استعمالها موقوف عليها أم على الساعد الذي يحملها ويعمل بها. قال أراك تشير لما أجهله. قلت تأكد أنك لا تجهله، لكنك نسيته. فقد حدثتك كثيرا عنه، لكنك نسيته ولا شك. تذكر أني وصفت لكم، كيف دخلنا عهد الاستقلال، وكيف رغم الخلافات والشوائب، بنيت دولة عصرية على أسس التقدم والتطور، بفضل عناصر توفرت، منها أن الدولة لم تبنَ من عدم. فالاستعمار الفرنسي ترك، رغم كلّ شيء، بعض ما وجده عند احتلاله وما هو من وضعه، وأعني دولة راسية بمؤسساتها، وإداراتها الضرورية، لكن كان لزاما تكييفها وطنيا، وإعدادها تقدّميا، وإضافة ما ينقصها قوميا، فوجدت لذلك نخبة من خيرة أبنائنا تكوينا ووطنية وإخلاصا وحماسا، فانكبوا مخلصين جاهدين فحالفهم التوفيق. أين الخلل إذن. هو ما نخشاه الآن يا رفيقي. فالدستور الذي أعدّ فجر الاستقلال، يمكن اعتباره من أحسن الدساتير، باعتبار زمانه ومكانه على الأقل، لكن العيب الأكبر أنه لم يطبق، ولم يعمل بكلّ ما جاء فيه، ثمّ أصيب بالتنقيحات والتحويرات، فقضي الأمر الذي كان مجهولا.
لو جرى العمل بذلك الدستور، بما يمكن أن يحتويه من خلل أو نقصان، لعاشت تونس سعيدة نصف القرن الذي مضى، ولكانت حقا مثالا يحتذى. لكن طغى حبّ الذات، والعنجهيّة، وشيء من التبعيّة للخارج، ومركب النقص إزاءه، مصحوبا بعدم قيام المجتمع المدني بدوره الحاسم، ثقة منه عمياء في المسيرين، وكانوا من رموز الحركة الوطنية، امتازوا كفاءة وحماسا، ثمّ لخضوعه تحت ضربات الظلم والسلطوية وعصا الرقيب الجائر. لو احترم ذلك الدستور لكان لتونس شأن آخر.
انقطع الحديث عند هذا الحدّ إذ فتحت الأبواب وبدأت جلسة المحكمة، فانشغلنا بما يعانيه الآخرون، من نهم النفس البشريّة، وهيمنة الأنانية وحبّ الدّنيا. خرجنا للغداء، فاقترح الزميل أن نواصل الحديث.
هكذا كان، مع فارق أني لم أعد أحادث زميلا بل ستة من أربع جنسيات وثقافات. شرح لهم الزميل الشيلي موضوعنا باقتضاب ثمّ سألني يقول: والآن، قلت بلا تردّد ودون شعور: عند الامتحان يكرم المرء أو يهان. تبادل الحاضرون الأنظار المستفسرة، فلم أعبأ وواصلت فقلت: نعم، جلست تونس الآن على كرسيّ الامتحان. فإمّا النجاح والفوز، وإمّا الفشل والخسران. عندها من بوادر الفوز ما عندها، لكن في باطن تلك البوادر جرثومة، بل جراثيم داء الفشل والرسوب. فهذا الدستور يحمل في طياته من الغموض الكثير، ومن المزالق وفتح باب التأويل أكثر. لذا لم يتردّد بعض أساتذة القانون المختصّين من نقده، ومداده لم يجفّ بعد. ثمّ إنّ خطر هيمنة الحزبين، التي يشكوها الكثيرون من السابقين في حلبة الديمقراطية، وسدّهما الطريق أمام التعدّديّة الحقة، يجعل شبح ما سمّاه بعضهم دكتاتورية الأحزاب، وأسمّيه سيطرة النصف على النصف، يعلي سماء الطموحات، فيقضي على الحماس الجماهيري، ويثير مساوئ طالما اشتكتها البلاد كالمحاباة، والمحسوبية، وربما أيضا الرّشوة، فتبقى دار لقمان على حالها لكن برداء جديد.
أين العلّة في كلّ هذا، سألني أحد الحاضرين. قلت في مثل شعبيّ عندنا يقول: “منّي تقرع” بمعنى كلّ فرد يعتبر نفسه الدنيا وما جمعت، بلا تواضع ولا نقد ذاتي، ولا اعتراف بالآخر وللآخر. هذا يذكرني بما قاله الرئيس السوري شكري القوتلي للرّئيس المصري جمال عبدالناصر، ليلة تسليمه مقاليد سوريا تحت ظل الوحدة المرتجلة المشؤومة. قال له “أريد أن أسلمك ثلاثة ملايين ونصف مليون سوري، نصفهم أنبياء، والنصف الآخر زعماء”. هذه لعمري حال الناشطين اليوم على ركح المسرح السياسي بتونس. كلّ وحدة أو مجموعة تعيش لوحدها، فعمّ التشتت والتفكك، فزالت القوّة وساد الضّعف. هذا والغريب الذي لا غرابة بعده يدّعون جميعهم خدمة تونس. فأين الصّراحة والحقيقة. عند هذا الحدّ اتخذ الحديث مجرى آخر وله عودة إن شاء الله.
*كاتب تونسي ودبلوماسي سابق/”العرب”