في المشرق العربي صراعٌ سياسي محلّي/إقليمي/دولي، مهما حاول البعض تغليفه ببراقع طائفية ومذهبية أو صبغه بألوان أيديولوجية دينية مختلفة. وهو صراع ممزوج مع خطايا حكومات ومعارضات، ومع تراث تاريخي من مفاهيم وممارسات انقسامية خاطئة توظّفها القوى المحلّية والخارجية المتصارعة، وهو أيضاً صراع القوى الخارجية الطامعة بالوصاية والهيمنة على مواقع وثروات الأرض العربية.
طبعاً، فإنَّ تدهور الأوضاع السياسية والأمنية في منطقة المشرق العربي، هو محصّلة لسياسة أميركية في العقد الماضي مارست الاحتلال في العراق وهدّمت مؤسساته الوطنية، وتجاهلت أو دعمت الاحتلال والعدوان الإسرائيلي، فكان من تداعيات هذه السياسة الفاشلة والظالمة ما نراه اليوم من ظاهرة “داعش”، كما كانت “القاعدة” نتاج توظيف “الجهاد” في الحرب ضدّ الشيوعية بأفغانستان.
لكن ليس العامل الأميركي السلبي هو الوحيد المشترك بين أزمات المنطقة. ففي هذه الأزمات جذور عميقة لسلبيات داخلية تتحمّل مسؤوليتها حكومات محلية وأطراف عربية وإقليمية عديدة، بل إنّ هذه الجذور السلبية الداخلية كانت هي، أكثر من مرّة، الحافز للتدخّل الأجنبي.
المشكلة أيضاً، هي في حمل رايات فكرية وسياسية لها سمات طائفية ومذهبية، حيث النجاح في المواجهة مع المحتل والأجنبي يرافقه تعثّر في مواجهة الأهداف السياسية لتلك القوى الخارجية، التي عملت وتعمل على تمزيق الشعب الواحد وتفريقه لتسهّل السيادة عليه، حتى لو تطلّب الأمر إشعالاً لحروبٍ أهلية.
إنّ أساس الخلل الراهن في الأمَّة العربية كلّها هو في فشل المفكّرين والسياسيين وعلماء الدين بالحفاظ على الظاهرة الصحية بالتعدّد الطائفي والمذهبي والإثني في مجتمعاتهم، حيث أصبحت الأفكار والممارسات تصبّ بمعظمها في أطر فئوية موجّهة كالسهام ضدّ الآخر في ربوع الوطن الواحد.
إنّ التعدّدية كانت قائمة في البلاد العربية خلال القرن الماضي، لكنّها لم تكن حاجزاً بين الشعوب ولا مانعاً دون خوضٍ مشترَك لمعارك التحرّر والاستقلال الوطني، بينما اليوم، نتعايش مع إعلام عربي ومع طروحات فكرية وسياسية لا تخجل من توزيع العرب على طوائف ومذاهب وأقليات، بحيث أصبحت الهويّة الوطنية الواحدة غايةً منشودة بعدما جرى التخلّي المخزي عن الهويّة العربية المشتركة.
هو انحطاطٌ وانقسامٌ حاصلٌ الآن بعدما استباحت القوى الأجنبية (الدولية والإقليمية)، وبعض الأطراف العربية، استخدام السلاح الطائفي والمذهبي والإثني في حروبها وصراعاتها المتعدّدة الأمكنة والأزمنة خلال العقود الأربعة الماضية. وقد ساهم في ترسيخ هذا الواقع الانقسامي الأهلي، على المستوى الشعبي العربي، هيمنة الحركات السياسية ذات الشعارات الدينية، وضعف الحركات السياسية ذات الطابع الوطني أو العربي التوحيدي.
إنّ الشعب الذي لا تجمعه قضية وطنية واحدة أو رؤية مستقبلية مشتركة للأمّة، يعيش أسير صراعات الداخل التي تعزّز تدخّل الخارج. وفي ظلّ هذا الواقع تتخبّط الآن الأفكار والتجارب والأوطان العربية. فالمنطقة العربية تتآكل من الداخل بينما هي تؤكل من الخارج. والعرب الآن بلا قضية واحدة، وبلا قيادة جامعة. وقد يسير بعض بلدان هذه الأمَّة نحو الأسوأ والأعظم من الصراعات والانقسامات، وقد تتهدّد وحدة أوطان وكيانات، وقد تستفيد القوى الأجنبية الدولية والإقليمية من تصدّع العرب شعبياً، وتداعيات أوضاعهم سياسياً وأمنياً، وانعدام تضامن حكوماتهم، لكنَّ ذلك سيؤكّد من جديد مخاطر النهج الذي تسير عليه بلدان هذه الأمَّة على مستوى معظم حكوماتها وشعوبها و”حكمائها” وحركاتها السياسية.
فالكثير من الحكومات العربية تعطي الأولوية الآن لاستمرارية الحاكم في الحكم، لا لاستمرارية الوطن نفسه. والكثير من المعارضات العربية تعطي الأولوية الآن للتغيير في الحكم بأيِّ ثمن، لا التغيير السلمي في المجتمعات التي تعاني أصلاً من توارث الأجيال فيها لمفاهيم خاطئة عن النّفس وعن الآخر، وفي ظلِّ غيابٍ واضح لطروحات وطنية عروبية ديمقراطية تجذب الشباب العربي وتحوّل طاقاتهم إلى قوّةٍ تجمع ولا تفرّق، تصون وحدة الأوطان ولا تمزّقها.
أليس مؤسفاً استبدال الحلم بالتوحّد العربي الذي راود منذ عقود شعوب الأمَّة العربية، بالخوف من كابوس التقسيم الجاثم على الصدور العربية حالياً؟! أليس مؤسفاً أيضاً، أن يكرّر العرب خطيئة الاعتماد على الأجنبي لحلّ مشاكلهم الداخلية، وأن تسود الآن منطقتهم أفضل الفرص لتكريس الهيمنة الأجنبية والإسرائيلية، حيث يُتوقَّع ألا يكون بمقدور أحدٍ أن يُعارض دعوة إسرائيل للاعتراف بها كدولةٍ يهودية، في منطقةٍ تشهد ولادة دويلاتٍ على أساسٍ ديني وإثني؟! وحيث تهدف إسرائيل لأن تكون هي الدولة الأقوى بل المهيمنة على كلّ منطقة الدويلات الدينية المنتظرَة!.
صحيحٌ أنّ بعض الحكومات العربية هي المسؤولة أولاً وأخيراً عمّا وصلنا إليه الآن من حال، لكنَّ ذلك لا يشفع لقوى المعارضة العربية أن لا تقوم هي أيضاً بمسؤولياتها في الحفاظ على وحدة الأوطان والشعوب، بل إنّ هذه القوى هي الطرف الأساس المعنيُّ بذلك. فالأولويّة الآن هي لبقاء وحدة الأوطان، ولعدم الجمع بين شعار (إمّا استمرار الحاكم أو الفوضى) مع ممارسات معارضة تؤدي إلى إمّا الوصول للحكم أو التقسيم!.
إنّ بناء المجتمعات الديمقراطية الحديثة أساسه بناء مفهوم “المواطنة” والتعايش مع “الآخر” لا الانفصال عمَّن هم أبناء الوطن نفسه لكن من طوائف أو مذاهب أو إثنيات أخرى. وهذا البناء الديمقراطي السليم يتطلّب أيضاً بناء حركات تغييرٍ شعبية، واضحة المعالم والبرامج والقيادات، حتّى لا تتوه الأمَّة من جديد كما حدث في بعض تجارب القرن العشرين، وحتّى لا تتكرّر فيها مأساة بعض حركات التغيير التي يشهدها العرب الآن.
حتّى الآن، وحدها التجربة التونسية استطاعت إلى حدٍّ ما أن “تسقط النظام” بطريقةٍ سلمية دون تداعيات خطيرة على أمن الوطن ووحدته وعلى وحدة الشعب فيه. فتجارب الانتفاضات العربية الأخرى سادها ويسودها الكثير من انحراف المسارات السليمة أو غموض المصير الوطني، أو التدخل الإقليمي والدولي الصارخ. لكن رغم أهمّية “التجربة التونسية”، فإنّ تأثيراتها تبقى في حدود مكانها وفي انعكاساتها الإعلامية عربياً، بينما ما يحدث الآن في الحالتين السورية والمصرية هو الذي سيقرّر مصير البلدين والأمّة كلّها معاً. فلا الأردن ولا لبنان، من بين الدول الأربع التي تحيط بفلسطين/إسرائيل (إضافةً إلى مصر وسوريا)، يقرّران مصير صراعٍ عمره قرنٌ من الزمن، وهو الصراع الأساس الذي منه وعليه حصلت كل المتغيّرات السياسية المحلية والإقليمية في المائة سنة الماضية، منذ الحرب العالمية الأولى عام 1914. فقط مستقبل مصر وسوريا سيقرّر عملياً مصير المنطقة العربية كلّها، وما يحدث في أيٍّ منهما سيؤثّر حتماً، سلباً أم إيجاباً، على مصير الصراع العربي/الصهيوني.
لكن لنتذكّر أنّ في أواسط الخمسينات تبادل بن غوريون (رئيس وزراء إسرائيل السابق) مع وزير خارجيتها آنذاك موسى شاريت، عدّة رسائل تحدّثت عن الأسلوب المناسب اعتماده لإنشاء دويلة على الحدود الشمالية مع لبنان تكون تابعة لإسرائيل ومدخلاً لها للهيمنة على لبنان والشرق العربي كلّه. وكان الحل في خلاصة أفكار هذه الرسائل: البحث عن ضابط مسيحي في الجيش اللبناني يعلن علاقته بإسرائيل، ثمّ يدخل الجيش الإسرائيلي ويحتل المناطق الضرورية وتقوم دولة مسيحية متحالفة مع إسرائيل. وهذا المشروع الإسرائيلي رأى النور عام 1978 حينما أعلن الرائد في الجيش اللبناني سعد حداد إنشاء “دولة لبنان الحر” في الشريط الحدودي بين لبنان وإسرائيل.
وفي شباط/فبراير 1982، نشرت مجلة “اتجاهات -كيفونيم” التي تصدر في القدس، دراسة للكاتب الصهيوني أوديد بينون (مدير معهد الدراسات الإستراتيجية) تحت عنوان “إستراتيجية لإسرائيل في الثمانينات”، وجاء فيها: “إنّ العالم العربي ليس إلا قصراً من الأوراق بنته القوى الخارجية في العشرينات (…) وأنّ هذا هو الوقت المناسب لدولة إسرائيل لتستفيد من الضعف والتمزّق العربي لتحقيق أهدافها باحتلال أجزاء واسعة من الأراضي المجاورة لها، وتقسيم البعض الآخر إلى دويلات على أساس عرقي وطائفي”. ثمّ تستعرض دراسة أوديد بينون صورة الواقع العربي الراهن، والاحتمالات الممكن أن تقوم بها إسرائيل داخل كل بلدٍ عربي من أجل تمزيقه وتحويله إلى شراذم طائفية وعرقية.
وهذا المشروع الإستراتيجي لإسرائيل في ثمانينات القرن العشرين، والذي يتّصل مع خطّتها السابقة في عقد الخمسينات، جرى بدء تنفيذه أيضاً من خلال لبنان والاجتياح الإسرائيلي له صيف عام 1982، ثمّ إشعال الصراعات الطائفية خلال فترة الاحتلال وفي أكثر من منطقة لبنانية.
نحن العرب المعنيون الأُول، ماضياً وحاضراً ومستقبلاً، بكل ما تخطّط له وتفعله المنظمة الصهيونية العالمية، حتّى لو سيطر علينا السأم والملل من تكرار هذا الكلام.
وما سبق عرضه عن المخطّطات الصهيونية، لا يعني أننا – كعرب- ننفّذ ما يريد الصهاينة أو أنّنا جميعاً أدوات وعملاء لإسرائيل! بل الواقع هو أنّنا ضحيّة غياب التخطيط العربي الشامل مقابل وجود المخططات الصهيونية والأجنبية الشاملة. فنكون دائماً “ردّة فعل” على “الفعل” الإسرائيلي أو الأجنبي، الذي يتوقّع سلفاً ماهيّة ردود أفعالنا قبل أن تقع لتوظيفها في إطار أهدافه.
لكن يبقى السؤال الهام: هل يجوز أن تكون شعوب الأوطان العربية مطيّةً لتنفيذ هذه المشاريع الصهيونية؟
*مدير “مركز الحوار العربي” في واشنطن.